العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

اختزال الإنسان في الجسد والغرائزية!

{‭ ‬مرارًا‭ ‬تطرقنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬أسمى‭ ‬الكائنات‭ ‬الأرضية،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬اختزال‭ ‬وجوده‭ ‬ودوافعه‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الحسّي‭ ‬الجسدي‭ ‬أو‭ ‬الغرائزي،‭ ‬التي‭ ‬جعل‭ ‬الله‭ ‬له‭ ‬مخارج‭ ‬شرعية‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتمّ‭ (‬استهلاك‭ ‬الذات‭) ‬فيه‭ ‬كجانب‭ ‬لا‭ ‬يكتمل‭ ‬إلا‭ ‬بالجانب‭ ‬الروحي‭ ‬والفكري‭! ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يفرّقه‭ ‬عن‭ ‬الكائنات‭ ‬الأخرى‭ ‬أو‭ ‬المخلوقات‭ ‬الأخرى‭! ‬الإنسان‭ ‬له‭ ‬أبعاد‭ ‬متداخلة‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬كائنًا‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للاختزال‭ ‬في‭ ‬الجانب‭ ‬الغرائزي،‭ ‬وإلّا‭ ‬أصبح‭ ‬بهيمي‭ ‬النزعة‭ ‬لا‭ ‬أكثر‭!‬

ولعلّ‭ ‬أكثر‭ ‬المفكرين‭ ‬الموسوعيين‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬شغلهم‭ ‬البحث‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬العلاقة‭ ‬العميقة‭ ‬بين‭ ‬الحضارة‭ ‬الراهنة‭ ‬والتطوّر‭ ‬والحداثة‭ ‬الغربية‭ ‬وما‭ ‬بعدها،‭ ‬هو‭ ‬المفكر‭ ‬د‭. ‬‮«‬عبدالوهاب‭ ‬المسيري‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬طرح‭ ‬برؤية‭ ‬عميقة‭ ‬خفايا‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬اللذّة‮»‬‭ ‬المرتبطة‭ ‬بـ«إباحة‭ ‬كل‭ ‬أشكال‭ ‬الانحلال‮»‬‭ ‬لتجسيد‭ ‬تلك‭ ‬الفلسفة‭! ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬أو‭ ‬الغرب،‭ ‬رغم‭ ‬اختلاف‭ ‬الثقافات‭ ‬والتوجهات‭ ‬الدينية‭ ‬والمعتقدية‭!‬

{‭ ‬د‭. ‬‮«‬عبدالوهاب‭ ‬المسيري‮»‬‭ ‬قدم‭ ‬أطروحاته‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معايشة‭ ‬الغرب‭ ‬ومجتمعهم‭ ‬أثناء‭ ‬دراسته،‭ ‬ولذلك‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬خبرة‭ ‬عملية‭ ‬في‭ ‬رصد‭ (‬المنظومة‭ ‬الثقافية‭ ‬المعرفية‭) ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬الغرب،‭ ‬باعتبارها‭ ‬مادية،‭ ‬رأسمالية،‭ ‬متوحشة‭ ‬وربحية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الإنسان‭!‬

ماذا‭ ‬تصنع‭ ‬تلك‭ ‬المنظومة‭ ‬في‭ ‬الإنسان،‭ ‬وكيف‭ ‬توجهه‭ ‬وتختزله‭ ‬في‭ ‬‮«‬غرائزه‮»‬‭ ‬وأهدافه‭ ‬اليومية‭ ‬المادية‭ ‬الصغيرة،‭ ‬وتجعل‭ ‬منه‭ ‬‮«‬مادة‭ ‬استعمالية‮»‬‭! ‬وكيف‭ ‬تتلاعب‭ ‬الشركات‭ ‬عابرة‭ ‬القارات‭ ‬بأحلامه‭ ‬الداخلية‭ ‬وترسمها‭! ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬‮«‬التآمر‮»‬‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬الشرقي،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬تآمر‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬الغربي،‭ ‬أي‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬وعلى‭ ‬‮«‬إنسانية‭ ‬الإنسان‮»‬‭!‬

{‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬تفكيك‭ ‬الإنسان‮»‬‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬النموذج‭ ‬الاستهلاكي‭ ‬الرأسمالي‭ ‬الغربي،‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬اليوم‭ ‬أكبر‭ ‬مروّج‭ ‬لنظام‭ ‬التفاهة‭ (‬وللسياق‭ ‬الثقافي‭ ‬العالمي‭ ‬الرأسمالي‭) ‬في‭ ‬النظرة‭ ‬إلى‭ ‬الجسد،‭ ‬والتمركز‭ ‬حول‭ ‬الغرائز‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الدعاية‭ ‬والإعلان‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الدراما‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬جوائز‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬ذات‭ ‬التوجّه‭ ‬‮«‬الغرائزي‮»‬‭ ‬واختراق‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬تسميته‭ (‬التابو‭ ‬المحرّم‭) ‬وخاصة‭ ‬حول‭ ‬الجسد‭ ‬والدين‭! ‬وهو‭ ‬التوجه‭ ‬الذي‭ ‬انعكس‭ ‬كمنظومة‭ ‬ثقافية‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتاب‭ ‬والشعراء‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬سباق‭ ‬مهرجانات‭ ‬‮«‬الجوائز‭ ‬الغربية‮»‬‭!‬

بل‭ ‬إن‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬التوجهات‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العلمية‭ ‬المتطوّرة،‭ ‬كما‭ ‬الادعاء‭ ‬بفوضى‭ ‬‮«‬المدارس‭ ‬الباطنية‮»‬‭ ‬والفوضى‭ ‬الفكرية،‭ ‬والعدمية،‭ ‬و«تغوّل‭ ‬الجنس‮»‬،‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬متلازمات‭ ‬فكر‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭ ‬الغربية‮»‬‭! ‬إنه‭ ‬الإنسان‭ ‬التائه‭ ‬والوحيد‭ ‬والمنعزل‭ ‬في‭ ‬صومعة‭ ‬ذاته‭ ‬والباحث‭ ‬عن‭ ‬اللذّة‭ ‬والغرائزية‭ ‬أيا‭ ‬كان‭ ‬مصدرها،‭ ‬باعتبارها‭ ‬غاية‭ ‬الغايات‭! ‬هي‭ ‬‮«‬الخلفية‭ ‬المعرفية‮»‬‭ ‬ذاتها‭ ‬للوصول‭ ‬اليوم‭ ‬باسم‭ ‬الحريات‭ ‬والحقوق‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬التحوّلات‭ ‬في‭ ‬المفاهيم‭ ‬حول‭ ‬الجسد‭ ‬والغريزة،‭ ‬بما‭ ‬يبيح‭ ‬تبنّي‭ ‬منظور‭ ‬الشذوذ‭ ‬والتحوّل‭ ‬الجنسي‭ ‬وتجسيد‭ ‬العزيزة‭ ‬مع‭ ‬البهائم‭ ‬والحيوانات،‭ ‬باعتبار‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬‮«‬المباحات‭ ‬وبالقانون‮»‬‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭!‬

إنها‭ ‬بالفعل‭ (‬فلسفة‭ ‬تفكيك‭ ‬الإنسان‭) ‬وإرجاعه‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬الصفر‭ ‬الغرائزية،‭ ‬وتنحية‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالروح‭ ‬والفكر‭ ‬والسّمو‭ ‬الإنساني،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬هدف‭ ‬الوجود‭ ‬وغاية‭ ‬الإنسان‭ ‬فيه،‭ ‬ليتمّ‭ ‬اختزال‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الجسد‭ ‬والغرائز‭ ‬المنفلتة‭! ‬وهكذا‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬نجحت‭ ‬عملية‭ ‬تفكيك‭ ‬الإنسان‭ ‬وتفكيك‭ ‬فطرته‭ ‬وخرائطه‭ ‬العقلية‭!‬

{‭ ‬لهذا‭ ‬الاختزال‭ ‬وتفكيك‭ ‬الإنسان‭ ‬خلفية‭ ‬أخرى‭ ‬ترتبط‭ ‬بها،‭ ‬فلا‭ ‬بدّ‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬عالمي‭ ‬ثقافي‭ ‬يؤازرها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬هو‭ ‬‮«‬نظام‭ ‬التفاهة‮»‬‭ ‬كما‭ ‬أشرنا‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة،‭ ‬ونظام‭ ‬آخر‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬‮«‬صناعة‭ ‬الغباء‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سنتحدث‭ ‬عنه‭ ‬لاحقًا‭! ‬حيث‭ ‬هناك،‭ ‬بحسب‭ ‬دراسات‭ ‬علمية،‭ ‬تراجعًا‭ ‬ملحوظًا‭ ‬في‭ (‬معدّل‭ ‬ذكاء‭ ‬البشر‭)! ‬وتراجعًا‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬المعارف‭ ‬والمنطق‭ ‬الطبيعي،‭ ‬الذي‭ ‬يفرّق‭ ‬بين‭ ‬الخطأ‭ ‬والصواب،‭ ‬وبين‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭! ‬لتشهد‭ ‬‮«‬المهارات‭ ‬العقلية‮»‬‭ ‬للإنسان‭ ‬تدهورًا‭ ‬ملحوظًا،‭ ‬رغم‭ ‬التطور‭ ‬التقني‭ ‬والتكنولوجي،‭ ‬وربما‭ ‬بسببه‭ ‬بشكل‭ ‬قاطع‭! ‬حيث‭ ‬الانتشار‭ ‬الواسع‭ ‬للإنترنت‭ ‬وفضاءات‭ ‬التواصل‭ ‬أتاح‭ ‬كمّا‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬يتداخل‭ ‬فيها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬عشوائي‭ ‬بالقليل‭ ‬المفيد،‭ ‬فينتج‭ ‬عنه‭ ‬‮«‬التدهور‭ ‬المعرفي‮»‬‭ ‬في‭ ‬النهاية‭! ‬أي‭ ‬كما‭ ‬قلنا‭ ‬أيضًا‭ ‬زادت‭ ‬المعلومات‭ ‬وقلّت‭ ‬المعرفة‭! ‬

{‭ ‬ثقافة‭ ‬القطيع‭ ‬تسيطر،‭ ‬ونماذج‭ ‬وقدوات‭ ‬التفسّخ‭ ‬الأخلاقي‭ ‬يتسّع‭ ‬تأثيرها،‭ ‬ليصبح‭ ‬الاستهلاك‭ ‬هو‭ ‬القيمة‭! ‬والجسد‭ ‬وغرائزه‭ ‬هو‭ ‬الغاية،‭ ‬فيما‭ ‬يتراجع‭ ‬التفكير‭ ‬العميق،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬هدف‭ ‬السّمو‭ ‬الروحي‭ ‬والإنساني‭ ‬إلى‭ ‬الخلف،‭ ‬بل‭ ‬يصبح‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬الرؤية‭ ‬المتخلفة‭! ‬لقد‭ ‬تمّ‭ ‬تفكيك‭ ‬الإنسان‭ ‬بنجاح‭ ‬بحسب‭ (‬المنهج‭ ‬الرؤيوي‭ ‬الرأسمالي‭ ‬المادي‭ ‬والنفعي‭)‬،‭ ‬وأصبحت‭ ‬غاية‭ ‬الغايات‭ ‬لا‭ ‬الرقي‭ ‬الأخلاقي‭ ‬والقيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والطبيعة‭ ‬الفطرية‭ ‬التي‭ ‬خلقها‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الإنسان،‭ (‬وإنما‭ ‬الجري‭ ‬وراء‭ ‬المال‭ ‬والمتع‭ ‬الحسيّة‭ ‬والنموذج‭ ‬الاستهلاكي‭) ‬والاستغراق‭ ‬في‭ ‬نظام‭ ‬الغباء‭ ‬والتفاهة‭! ‬وفي‭ ‬سياقهما‭ ‬الحضاري‭ ‬الغربي،‭ ‬الذي‭ ‬يهيمن‭ ‬على‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬لتتحول‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬القطيع‮»‬‭ ‬النموذجي‭ ‬والمطيع‭ ‬لذلك‭ ‬المنهج‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬المنظومة‭ ‬السائدة‭ ‬اليوم‭! 

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا