العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

«بائعي محتوى» وسيولة التفاهة!

{‭ ‬في‭ ‬رواية‭ (‬يوتوبيا‭) ‬للكاتب‭ ‬‮«‬توماس‭ ‬مور‮»‬‭ ‬تجسيد‭ ‬لممارسات‭ (‬القمع‭ ‬الناعم‭) ‬كما‭ ‬أسميه‭! ‬حيث‭ ‬نظام‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬يتمّ‭ ‬بالوسائل‭ ‬الناعمة،‭ ‬لتحويل‭ ‬الأشخاص‭ ‬أو‭ ‬الناس‭ ‬عمومًا،‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الرضوخ‭ ‬للتفاهة‭ ‬وقبول‭ (‬التسلط‭ ‬الخفي‭)‬،‭ ‬وحيث‭ ‬يتمّ‭ ‬صرف‭ ‬مداخيل‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يدخل‭ ‬عالم‭ ‬التفاهة‭ ‬والسهولة،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أعمال‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬لها،‭ ‬ولكنها‭ ‬تحقق‭ ‬مداخيل‭ ‬هائلة‭! ‬مثل‭ ‬بيع‭ ‬محتوى‭ ‬تافه،‭ ‬يجرف‭ ‬أعدادًا‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬حوله‭!‬

{‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ (‬بائعي‭ ‬المحتوى‭) ‬لدى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬وجوه‭ (‬الفانشينستا‭)‬،‭ ‬ومنهم‭ ‬من‭ ‬تصّور‭ ‬نفسها‭ ‬يوميا،‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬تفتح‭ ‬عينيها،‭ ‬وتشارك‭ ‬المتابعين‭ ‬معها‭ ‬غسل‭ ‬وجهها‭ ‬وأسنانها‭ ‬وإفطارها،‭ ‬والدوران‭ ‬في‭ ‬زوايا‭ ‬بيتيها‭! ‬واقتحام‭ ‬كل‭ ‬خصوصياتها،‭ ‬وبيديها‭ ‬حين‭ ‬تعرضها‭ ‬للعلن‭! ‬لتنتقل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬سيارتها،‭ ‬ولتتحدث‭ ‬إلى‭ ‬متابعيها‭ ‬بغنج‭ ‬وهي‭ ‬تقود،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬عملها،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬مطعم،‭ ‬أو‭ ‬تجمّع‭ ‬أو‭ ‬حفل،‭ ‬لتحقق‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ (‬الترند‭) ‬أو‭ ‬الزيادة‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬المتابعين،‭ ‬المنغمسين‭ ‬في‭ ‬التفاهة‭ ‬مثلها‭! ‬وكلما‭ ‬حققت‭ ‬عددًا‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬المتابعين،‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مدخول‮»‬‭ ‬أكبر‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬أو‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الدخل‭ ‬الشهري‭!‬

{‭ ‬تلك‭ ‬السهولة‭ ‬واصطياد‭ ‬حالات‭ ‬‮«‬التفاهة‮»‬‭ ‬وجعلها‭ (‬تفاهة‭ ‬جمعية‭)! ‬وتحقيق‭ ‬المداخيل‭ ‬الكبيرة،‭ ‬تجعل‭ ‬الكثيرات‭ ‬والكثيرين‭ ‬يقومون‭ ‬بأي‭ ‬شيء،‭ ‬لتحقيق‭ (‬الترند‭) ‬والشهرة،‭ ‬ليصل‭ ‬بعضهم‭ ‬إلى‭ ‬مفاجأة‭ ‬متابعيه‭ ‬بالانتحار‭ ‬على‭ ‬الهواء‭ ‬مباشرة،‭ ‬حيث‭ ‬يكون‭ ‬هنا‭ ‬هوس‭ ‬تحقيق‭ ‬الشهرة‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬تحقيق‭ ‬المال‭!‬

{‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬الماضي‭ ‬طرح‭ ‬الممثل‭ ‬السعودي‭ ‬‮«‬ناصر‭ ‬القصبي‮»‬‭ ‬في‭ ‬حلقات‭ (‬طاش‭ ‬ما‭ ‬طاش‭) ‬حلقة‭ ‬رائعة‭ ‬باسم،‭ ‬‮«‬بائع‭ ‬محتوى‮»‬،‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬‮«‬أماني‭ ‬السليمي‮»‬‭! ‬وحيث‭ ‬الكاتب‭ ‬الصحفي‭ ‬‮«‬عبدالله‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬أكبر‭ ‬كاتب‭ ‬بالبلد،‭ ‬يتعرض‭ ‬للإحباط،‭ ‬بسبب‭ ‬تعثر‭ ‬جريدته‭ ‬واستغنائها‭ ‬عنه،‭ ‬لتتصل‭ ‬به‭ ‬‮«‬الفانشينستا‭ ‬سوسو‮»‬،‭ ‬المغرمة‭ ‬بكتاباته‭ ‬ليعمل‭ ‬معها‭ ‬كمستشار‭ ‬إعلامي‭! ‬وتحت‭ ‬الضغط‭ ‬المالي‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه‭ ‬وتعيشه‭ ‬عائلته،‭ ‬وبعد‭ ‬تردّد‭ ‬كبير،‭ ‬يقبل‭ ‬العمل‭ ‬معها،‭ ‬براتب‭ ‬كبير،‭ ‬وقد‭ ‬دخل‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسخر‭ ‬منه،‭ ‬وكأنه‭ ‬ألغى‭ ‬تاريخه‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬‮«‬مدير‭ ‬التحرير‮»‬‭! ‬وقال‭ ‬له‭: ‬‮«‬هل‭ ‬ما‭ ‬صنعته‭ ‬في‭ ‬سنين‭ ‬تدمرّه‭ ‬في‭ ‬لحظات»؟‭!‬

‮«‬سوسو‮»‬‭ ‬تقيم‭ ‬مؤتمرًا‭ ‬صحفيًّا‭ ‬لتجربتها‭ ‬وكيف‭ ‬صنعت‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬التفاهة‭! ‬وتعرّف‭ ‬الجميع‭ ‬بأن‭ ‬مستشارها‭ ‬هو‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬مداخلة،‭ ‬فيفعل،‭ ‬ليصبح‭ ‬‮«‬عبدالله‮»‬‭ ‬مركزا‭ ‬لتجاذبات‭ ‬‮«‬الفانشينستات‮»‬‭! ‬ولكنه‭ ‬بعد‭ ‬فترة‭ ‬يتحوّل‭ ‬هو‭ ‬بنفسه‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬سنابر‮»‬‭ ‬فالسمعة‭ ‬قد‭ ‬خربت،‭ ‬فليصنع‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الخراب‭ ‬نجاحًا‭! ‬وبالفعل‭ ‬ينجح‭ ‬نجاحًا‭ ‬باهرًا،‭ ‬وتتوالى‭ ‬عليه‭ ‬العروض،‭ (‬لصناعة‭ ‬محتوى‭) ‬للأشخاص‭ ‬المهمين‭ ‬والشركات‭ ‬فيحقق‭ ‬بذلك‭ ‬ثراءً‭ ‬فاحشًا‭!‬

{‭ ‬هو‭ ‬الانجراف‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تخسر‭ ‬فيه‭ ‬الكتابة‭ ‬ويخسر‭ ‬الفكر‭ ‬الجاد،‭ ‬وتربح‭ ‬فيه‭ ‬التفاهة‭ ‬وتتسيّد‭! ‬والمفارقة‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬فيديو‭ ‬خاص‭ ‬به‭ ‬أخذ‭ ‬الكاتب‭ ‬الكبير‭ ‬يفلسف‭ ‬التفاهة‭ ‬ليجعلها‭ (‬منهجًا‭)! ‬بل‭ ‬ومنهج‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬السهولة‭ ‬الوصول‭ ‬إليه‭! ‬يقول‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كنت‭ ‬تظن‭ ‬أن‭ ‬التفاهة‭ ‬مسألة‭ ‬بسيطة‭ ‬وسهلة‭ ‬ومتاحة‭ ‬وممكنة،‭ ‬وأي‭ ‬واحد‭ ‬يقول‭ ‬راح‭ ‬أكون‭ ‬تافها‭ ‬فيكون‭ ‬تافها‭! ‬فأنت‭ ‬غلطان‭! ‬التفاهة‭ ‬منهج،‭ ‬مؤسسة‭ ‬لها‭ ‬قوانينها‭ ‬ولها‭ ‬نظرياتها‭! ‬التفاهة‭ ‬موهبة‭! ‬طبعًا‭ ‬ومو‭ ‬أي‭ ‬موهبة‭! ‬موهبة‭ ‬أصيلة،‭ ‬استعداد‭ ‬فطري،‭ ‬تصقله‭ ‬بالممارسة‭ ‬والاحتراف‭ ‬والدأب‭! ‬التفاهة‭ ‬فن،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭! ‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تتابع‭ ‬التافهين،‭ ‬فعليك‭ ‬انتقاء‭ ‬الأكثر‭ ‬ولاءً‭ ‬للتفاهة،‭ ‬الأكثر‭ ‬صدقًا‭ ‬مع‭ ‬التفاهة‭... ‬حبايبي‭ ‬كونوا‭ ‬دائمًا‭ ‬تافهين‮»‬‭! ‬هل‭ ‬كان‭ ‬يسخر‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬أم‭ ‬من‭ ‬العالم؟‭!‬

{‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬المصفوفة‭ ‬من‭ ‬محتويات‭ ‬التفاهة،‭ ‬التي‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬متابعات‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬يدور‭ ‬الشخص‭ ‬حول‭ ‬مركزه‭ ‬التافه،‭ ‬فيحقق‭ ‬الثراء‭! ‬هي‭ ‬السيولة‭ ‬في‭ ‬التفاهة‭ ‬التي‭ ‬تدمّر‭ ‬الشباب‭ ‬فكريًا،‭ ‬وتجعلهم‭ ‬يركضون‭ ‬خلف‭ ‬المظاهر‭ ‬والشهرة،‭ ‬وكلما‭ ‬أوغلوا‭ ‬في‭ ‬عوالمها،‭ ‬حققوا‭ ‬النجاح‭ ‬الأكبر‭!‬

‮«‬عامل‭ ‬الهدم‮»‬‭ ‬للعقول‭ ‬يتم‭ ‬بطرق‭ ‬ناعمة،‭ ‬والتفاهة‭ ‬مدخل‭ ‬لتحقيق‭ ‬المكاسب‭ ‬السهلة‭! ‬فإذا‭ ‬أضيف‭ ‬لذلك‭ ‬عالم‭ (‬الميتافيرس‭) ‬ووباء‭ ‬‮«‬المخدرات‭ ‬الرقمية‮»‬‭ ‬واللهاث‭ ‬وراء‭ ‬مظاهر‭ ‬الفساد‭ ‬الأخلاقي،‭ ‬واستباحة‭ ‬الخصوصيات‭ ‬برضى‭ ‬ذاتي‭! ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬‮«‬بائعي‭ ‬المحتوى‮»‬،‭ ‬يتكاثرون‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬‮«‬التكنولوجيا‭ ‬الرقمية‮»‬،‭ ‬انجرافًا‭ ‬يسحبون‭ ‬خلفهم‭ ‬ملايين‭ ‬الشباب‭! ‬ولكل‭ (‬سنابر‭) ‬أو‭ (‬فانشينستا‭) ‬محتواه‭ ‬الخاص‭! ‬وأما‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬سمة‭ ‬التفاهة‭ ‬كمنهج،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬‮«‬عبدالله‮»‬‭ ‬الكاتب‭ ‬والصحفي،‭ ‬فإن‭ ‬محتواه‭ ‬الجاد‭ ‬لن‭ ‬يحقق‭ ‬له‭ ‬لا‭ ‬المكسب‭ ‬ولا‭ ‬الشهرة،‭ (‬فلا‭ ‬وقت‭ ‬للجدّية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الزمن‭)! ‬أما‭ ‬لماذا‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك،‭ ‬فهذا‭ ‬يحيلنا‭ ‬إلى‭ ‬كتاب‭ ‬الكاتب‭ ‬الكندي‭ ‬المعنون‭ ‬بـ‭(‬نظام‭ ‬التفاهة‭) ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬نظامًا‭ ‬يشمل‭ ‬كل‭ ‬آليات‭ ‬الحياة‭ ‬الراهنة‭ ‬وبمنهجية‭! ‬ولماذا‭ ‬يحدث‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭! ‬وقد‭ ‬تحدثنا‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬سابق‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا