عالم يتغير
فوزية رشيد
«بائعي محتوى» وسيولة التفاهة!
{ في رواية (يوتوبيا) للكاتب «توماس مور» تجسيد لممارسات (القمع الناعم) كما أسميه! حيث نظام السيطرة على العقول يتمّ بالوسائل الناعمة، لتحويل الأشخاص أو الناس عمومًا، إلى حالة من الرضوخ للتفاهة وقبول (التسلط الخفي)، وحيث يتمّ صرف مداخيل لكل من يدخل عالم التفاهة والسهولة، من خلال أعمال لا قيمة لها، ولكنها تحقق مداخيل هائلة! مثل بيع محتوى تافه، يجرف أعدادًا كبيرة من الشباب حوله!
{ هذا ما نراه اليوم من (بائعي المحتوى) لدى الكثير من وجوه (الفانشينستا)، ومنهم من تصّور نفسها يوميا، بمجرد أن تفتح عينيها، وتشارك المتابعين معها غسل وجهها وأسنانها وإفطارها، والدوران في زوايا بيتيها! واقتحام كل خصوصياتها، وبيديها حين تعرضها للعلن! لتنتقل بعد ذلك إلى سيارتها، ولتتحدث إلى متابعيها بغنج وهي تقود، ثم إلى عملها، أو إلى مطعم، أو تجمّع أو حفل، لتحقق بعد ذلك (الترند) أو الزيادة في عدد المتابعين، المنغمسين في التفاهة مثلها! وكلما حققت عددًا أكبر من المتابعين، تكون قد وصلت إلى «مدخول» أكبر يصل إلى عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من الدخل الشهري!
{ تلك السهولة واصطياد حالات «التفاهة» وجعلها (تفاهة جمعية)! وتحقيق المداخيل الكبيرة، تجعل الكثيرات والكثيرين يقومون بأي شيء، لتحقيق (الترند) والشهرة، ليصل بعضهم إلى مفاجأة متابعيه بالانتحار على الهواء مباشرة، حيث يكون هنا هوس تحقيق الشهرة أعلى من مجرد تحقيق المال!
{ في رمضان الماضي طرح الممثل السعودي «ناصر القصبي» في حلقات (طاش ما طاش) حلقة رائعة باسم، «بائع محتوى»، من تأليف «أماني السليمي»! وحيث الكاتب الصحفي «عبدالله» وهو أكبر كاتب بالبلد، يتعرض للإحباط، بسبب تعثر جريدته واستغنائها عنه، لتتصل به «الفانشينستا سوسو»، المغرمة بكتاباته ليعمل معها كمستشار إعلامي! وتحت الضغط المالي الذي يعيشه وتعيشه عائلته، وبعد تردّد كبير، يقبل العمل معها، براتب كبير، وقد دخل المجال الذي كان يسخر منه، وكأنه ألغى تاريخه كما قال له «مدير التحرير»! وقال له: «هل ما صنعته في سنين تدمرّه في لحظات»؟!
«سوسو» تقيم مؤتمرًا صحفيًّا لتجربتها وكيف صنعت نفسها من التفاهة! وتعرّف الجميع بأن مستشارها هو الكاتب الكبير الذي تطلب منه مداخلة، فيفعل، ليصبح «عبدالله» مركزا لتجاذبات «الفانشينستات»! ولكنه بعد فترة يتحوّل هو بنفسه إلى «سنابر» فالسمعة قد خربت، فليصنع من ذلك الخراب نجاحًا! وبالفعل ينجح نجاحًا باهرًا، وتتوالى عليه العروض، (لصناعة محتوى) للأشخاص المهمين والشركات فيحقق بذلك ثراءً فاحشًا!
{ هو الانجراف في عالم تخسر فيه الكتابة ويخسر الفكر الجاد، وتربح فيه التفاهة وتتسيّد! والمفارقة أنه في أول فيديو خاص به أخذ الكاتب الكبير يفلسف التفاهة ليجعلها (منهجًا)! بل ومنهج ليس من السهولة الوصول إليه! يقول: «إذا كنت تظن أن التفاهة مسألة بسيطة وسهلة ومتاحة وممكنة، وأي واحد يقول راح أكون تافها فيكون تافها! فأنت غلطان! التفاهة منهج، مؤسسة لها قوانينها ولها نظرياتها! التفاهة موهبة! طبعًا ومو أي موهبة! موهبة أصيلة، استعداد فطري، تصقله بالممارسة والاحتراف والدأب! التفاهة فن، خصوصًا في هذا الزمان! إذا أردت أن تتابع التافهين، فعليك انتقاء الأكثر ولاءً للتفاهة، الأكثر صدقًا مع التفاهة... حبايبي كونوا دائمًا تافهين»! هل كان يسخر من نفسه أم من العالم؟!
{ بمثل هذه المصفوفة من محتويات التفاهة، التي تجد لها متابعات لا حصر لها، يدور الشخص حول مركزه التافه، فيحقق الثراء! هي السيولة في التفاهة التي تدمّر الشباب فكريًا، وتجعلهم يركضون خلف المظاهر والشهرة، وكلما أوغلوا في عوالمها، حققوا النجاح الأكبر!
«عامل الهدم» للعقول يتم بطرق ناعمة، والتفاهة مدخل لتحقيق المكاسب السهلة! فإذا أضيف لذلك عالم (الميتافيرس) ووباء «المخدرات الرقمية» واللهاث وراء مظاهر الفساد الأخلاقي، واستباحة الخصوصيات برضى ذاتي! ندرك أن «بائعي المحتوى»، يتكاثرون في زمن «التكنولوجيا الرقمية»، انجرافًا يسحبون خلفهم ملايين الشباب! ولكل (سنابر) أو (فانشينستا) محتواه الخاص! وأما من لا يدرك سمة التفاهة كمنهج، كما قال «عبدالله» الكاتب والصحفي، فإن محتواه الجاد لن يحقق له لا المكسب ولا الشهرة، (فلا وقت للجدّية في هذا الزمن)! أما لماذا يحدث ذلك، فهذا يحيلنا إلى كتاب الكاتب الكندي المعنون بـ(نظام التفاهة) الذي جعل منه نظامًا يشمل كل آليات الحياة الراهنة وبمنهجية! ولماذا يحدث ما يحدث! وقد تحدثنا في مقال سابق عن هذا الكتاب!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك