عالم يتغير
فوزية رشيد
الهروب إلى الذاكرة القديمة!
{ أعتقد أن مواليد الخمسينيات وحتى السبعينيات، هم أبناء الجيل الفريد الذي رأى، إن كان لا يزال في الحياة، كل تقلباتها حتى وصل إلى مشاهدة ما كان يعتقد أنه من المستحيلات! لقد عايش التقلبات السياسية الدولية والعربية! مثلما عايش كل الحروب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية! وعايش انقلاب المفاهيم والقيم والأفكار، التي دخلت مرحلة «السيولة» بعد أن نزعت عن نفسها رداء المنطق والعقل! لتدخل في مناخات الثورات العلمية والتكنولوجية الصاخبة، والعولمة الشرسة وآليات الرأسمالية المعولمة، وشطحات «الليبرالية الغربية الجديدة»! وعوالم ما بعد الحداثة! ومصفوفة «النظام الدولي» وسطوته! وخرائط المعلوماتية التكنولوجية وفضاءاتها الافتراضية! متشعبا بسلوكيات العنف والإرهاب والمخدرات وخطف الأطفال، وأغاني الهستيريا الجديدة، التي تملأ أفلام الشاشات ودور السينما، مثلما تملأ الواقع المعاش! فانقلبت (الخريطة الإدراكية) وتشوشت لدى هذا الجيل المعرفة الحقيقية، لأنه انتقل من عالم سابق، ليجد نفسه في عالم مختلف، والذي لا يألفه إلاّ من ولد في الألفية الثالثة! فأصبح هذا الجيل السبعيني أو الستيني أو الخمسيني، وكأنه يطلّ على مسرح مفتوح (عبثي أو سريالي أو تفكيكي) أو على فيلم كابوسي، يتفكك فيه كل شيء، حتى الإنسان نفسه!
{ في مثل هذا العالم الذي طغت المادّية فيه على كل شيء! وطغى الاستهلاك والمنفعية والأنانية وعامل الربحية! وانمحت ملامح الرومانسية وطهارة المشاعر الإنسانية، ونبلها لدى الأكثرية، لتبقى الفئات القليلة في كل مجتمع متشبثة بفطرتها وأصالتها في تفسير الحياة والإنسان والوجود، وباعتبار الإنسان أسمى وأعظم المخلوقات، وليس مجرد تطوّر من سلالة القرود! في مثل هكذا أوقات يحلو الهروب إلى ذاكرة الماضي، سواء في التجارب والخبرات المكتسبة بعناء، أو في فنون وثقافة وفكر ما سبق خارج (التأطير المادي البحت لمفردات الوجود والإنسان) فتصبح أغنية قديمة تشدّ الذاكرة إلى زمنها ومفرداتها وقيمها! ويصبح فيلم قديم ملاذًا لتذكر كيف كانت الحياة حين عايشها طفلاً ثم شابًا! وما إن وصل إلى عتبة الكهولة، حتى حلّت أفلام العنف والأكشن والرعب والخيال العلمي (الذي أصبح واقعًا!)، محلّ ذلك الانسياب الخصب لنهر المشاعر والأفكار وتدفقه!
{ هذا الجيل يعاني أكثر من غيره في التأقلم مع المفردات الجديدة للحياة، والتي تكتسح العقول والنفوس بسرعة غريبة، وطغيان لا مثيل له، (نازعًا القداسة عن الإنسان والدين والقيم والوجود)! حتى تحوّلت كل الأشياء إلى نقيضها في الابتذال والبهيمية والانحلال والتراجع المعرفي رغم سيولة المعلومات وكثرتها! بخلفيّة خفية تفككّ كل شيء، وتحيله إلى العدمية! حيث لا خير ولا شرّ! وإنما الاستهلاك والمنفعية و«التفسير المادي الشمولي» للحياة وللإنسان وللقيم والأخلاق!
{ عالم يسعى لعنوان جديد، هو (عالم ما بعد الإنسان)! فهل يبقى بعد (ما بعد الإنسان) أي شيء إنساني؟! هو عالم الآلة والروبوتات والإنسان الآلي! ولكأن إنسان هذا العصر يكتب نهايته بأيدي الذكاء الاصطناعي! وبأيدي من رأوا مرة أن الإنسان مجرد كيمياء وإنزيمات، جاء من سلالة حيوانية «القرود»! فتقزّم وجوده بهذا التفسير! ليتحوّل إلى كائن هامشي، لا مانع من التسبّب في فنائه! وبكل ما يحفل به العصر من جنون الحروب (بكافة أشكالها العنفية العسكرية والبيولوجية والأخلاقية)، رغم أن هذا الإنسان هو الكائن الوحيد الذي وقع عليه الرهان في مسؤولية الحرية والاختيار، والتفريق بين الخير والشر، وبين الصالح والطالح في كل شيء! ألم نقل إنه حين تم نزع القداسة عن الإنسان والدين والوجود، جاءت (العدمية) لتحلّ محلّ تلك القداسة، فتاه الإنسان في صحراء قاحلة، جافة لا مشاعر فيها ولا قيم ولا إنسانية، أو هكذا يريدون إيصال هذا الكائن القدسي إليه!
{ في هذا الترحال لا شيء أجمل من مخزون الذاكرة القديمة! أغنية أو فيلم قديم أو جديد نادر! أو ألبوم مشحون بملامح شخوص لم تصل إلى ما وصلنا إليه! بل كانت سادرة في زمن ما بحلم حياة أفضل للإنسان وللعالم؛ الطفولة فيها محميّة، والشباب في توق لتجسيد الحلم الإنساني، الذي تمتّ سرقته منهم في «عالم ما بعد الإنسان»! حقيقة واحدة تُطمئن القلب وهي أن هذا العالم لم يأت صُدفة، ليذهب صُدفة! وأن المرجعية التي توصل الإنسان إلى الله، لا تزال قويّة لدى شعوب كثيرة! وأنها وحدها التي تشكلّ المجابهة الحقيقية، لكل ما يزرعه «الشيطانيون»، من عدمية وخواء! وأن الله محيط بكل شيء، وأقوى وأكبر من كل شيء!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك