العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

الهروب إلى الذاكرة القديمة!

{‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬مواليد‭ ‬الخمسينيات‭ ‬وحتى‭ ‬السبعينيات،‭ ‬هم‭ ‬أبناء‭ ‬الجيل‭ ‬الفريد‭ ‬الذي‭ ‬رأى،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬كل‭ ‬تقلباتها‭ ‬حتى‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مشاهدة‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المستحيلات‭! ‬لقد‭ ‬عايش‭ ‬التقلبات‭ ‬السياسية‭ ‬الدولية‭ ‬والعربية‭! ‬مثلما‭ ‬عايش‭ ‬كل‭ ‬الحروب‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭! ‬وعايش‭ ‬انقلاب‭ ‬المفاهيم‭ ‬والقيم‭ ‬والأفكار،‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬مرحلة‭ ‬‮«‬السيولة‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نزعت‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬رداء‭ ‬المنطق‭ ‬والعقل‭! ‬لتدخل‭ ‬في‭ ‬مناخات‭ ‬الثورات‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬الصاخبة،‭ ‬والعولمة‭ ‬الشرسة‭ ‬وآليات‭ ‬الرأسمالية‭ ‬المعولمة،‭ ‬وشطحات‭ ‬‮«‬الليبرالية‭ ‬الغربية‭ ‬الجديدة‮»‬‭! ‬وعوالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‭! ‬ومصفوفة‭ ‬‮«‬النظام‭ ‬الدولي‮»‬‭ ‬وسطوته‭! ‬وخرائط‭ ‬المعلوماتية‭ ‬التكنولوجية‭ ‬وفضاءاتها‭ ‬الافتراضية‭! ‬متشعبا‭ ‬بسلوكيات‭ ‬العنف‭ ‬والإرهاب‭ ‬والمخدرات‭ ‬وخطف‭ ‬الأطفال،‭ ‬وأغاني‭ ‬الهستيريا‭ ‬الجديدة،‭ ‬التي‭ ‬تملأ‭ ‬أفلام‭ ‬الشاشات‭ ‬ودور‭ ‬السينما،‭ ‬مثلما‭ ‬تملأ‭ ‬الواقع‭ ‬المعاش‭! ‬فانقلبت‭ (‬الخريطة‭ ‬الإدراكية‭) ‬وتشوشت‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬المعرفة‭ ‬الحقيقية،‭ ‬لأنه‭ ‬انتقل‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬سابق،‭ ‬ليجد‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مختلف،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يألفه‭ ‬إلاّ‭ ‬من‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭! ‬فأصبح‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬السبعيني‭ ‬أو‭ ‬الستيني‭ ‬أو‭ ‬الخمسيني،‭ ‬وكأنه‭ ‬يطلّ‭ ‬على‭ ‬مسرح‭ ‬مفتوح‭ (‬عبثي‭ ‬أو‭ ‬سريالي‭ ‬أو‭ ‬تفكيكي‭) ‬أو‭ ‬على‭ ‬فيلم‭ ‬كابوسي،‭ ‬يتفكك‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬حتى‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭!‬

{‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬طغت‭ ‬المادّية‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬شيء‭! ‬وطغى‭ ‬الاستهلاك‭ ‬والمنفعية‭ ‬والأنانية‭ ‬وعامل‭ ‬الربحية‭! ‬وانمحت‭ ‬ملامح‭ ‬الرومانسية‭ ‬وطهارة‭ ‬المشاعر‭ ‬الإنسانية،‭ ‬ونبلها‭ ‬لدى‭ ‬الأكثرية،‭ ‬لتبقى‭ ‬الفئات‭ ‬القليلة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجتمع‭ ‬متشبثة‭ ‬بفطرتها‭ ‬وأصالتها‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الحياة‭ ‬والإنسان‭ ‬والوجود،‭ ‬وباعتبار‭ ‬الإنسان‭ ‬أسمى‭ ‬وأعظم‭ ‬المخلوقات،‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬تطوّر‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬القرود‭! ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هكذا‭ ‬أوقات‭ ‬يحلو‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬ذاكرة‭ ‬الماضي،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬التجارب‭ ‬والخبرات‭ ‬المكتسبة‭ ‬بعناء،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬فنون‭ ‬وثقافة‭ ‬وفكر‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬خارج‭ (‬التأطير‭ ‬المادي‭ ‬البحت‭ ‬لمفردات‭ ‬الوجود‭ ‬والإنسان‭) ‬فتصبح‭ ‬أغنية‭ ‬قديمة‭ ‬تشدّ‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬زمنها‭ ‬ومفرداتها‭ ‬وقيمها‭! ‬ويصبح‭ ‬فيلم‭ ‬قديم‭ ‬ملاذًا‭ ‬لتذكر‭ ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬الحياة‭ ‬حين‭ ‬عايشها‭ ‬طفلاً‭ ‬ثم‭ ‬شابًا‭! ‬وما‭ ‬إن‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬عتبة‭ ‬الكهولة،‭ ‬حتى‭ ‬حلّت‭ ‬أفلام‭ ‬العنف‭ ‬والأكشن‭ ‬والرعب‭ ‬والخيال‭ ‬العلمي‭ (‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬واقعًا‭!)‬،‭ ‬محلّ‭ ‬ذلك‭ ‬الانسياب‭ ‬الخصب‭ ‬لنهر‭ ‬المشاعر‭ ‬والأفكار‭ ‬وتدفقه‭! ‬

{‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬يعاني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬في‭ ‬التأقلم‭ ‬مع‭ ‬المفردات‭ ‬الجديدة‭ ‬للحياة،‭ ‬والتي‭ ‬تكتسح‭ ‬العقول‭ ‬والنفوس‭ ‬بسرعة‭ ‬غريبة،‭ ‬وطغيان‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له،‭ (‬نازعًا‭ ‬القداسة‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬والدين‭ ‬والقيم‭ ‬والوجود‭)! ‬حتى‭ ‬تحوّلت‭ ‬كل‭ ‬الأشياء‭ ‬إلى‭ ‬نقيضها‭ ‬في‭ ‬الابتذال‭ ‬والبهيمية‭ ‬والانحلال‭ ‬والتراجع‭ ‬المعرفي‭ ‬رغم‭ ‬سيولة‭ ‬المعلومات‭ ‬وكثرتها‭! ‬بخلفيّة‭ ‬خفية‭ ‬تفككّ‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وتحيله‭ ‬إلى‭ ‬العدمية‭! ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬خير‭ ‬ولا‭ ‬شرّ‭! ‬وإنما‭ ‬الاستهلاك‭ ‬والمنفعية‭ ‬و«التفسير‭ ‬المادي‭ ‬الشمولي‮»‬‭ ‬للحياة‭ ‬وللإنسان‭ ‬وللقيم‭ ‬والأخلاق‭!‬

{‭ ‬عالم‭ ‬يسعى‭ ‬لعنوان‭ ‬جديد،‭ ‬هو‭ (‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الإنسان‭)! ‬فهل‭ ‬يبقى‭ ‬بعد‭ (‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الإنسان‭) ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬إنساني؟‭! ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬الآلة‭ ‬والروبوتات‭ ‬والإنسان‭ ‬الآلي‭! ‬ولكأن‭ ‬إنسان‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬يكتب‭ ‬نهايته‭ ‬بأيدي‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭! ‬وبأيدي‭ ‬من‭ ‬رأوا‭ ‬مرة‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬مجرد‭ ‬كيمياء‭ ‬وإنزيمات،‭ ‬جاء‭ ‬من‭ ‬سلالة‭ ‬حيوانية‭ ‬‮«‬القرود‮»‬‭! ‬فتقزّم‭ ‬وجوده‭ ‬بهذا‭ ‬التفسير‭! ‬ليتحوّل‭ ‬إلى‭ ‬كائن‭ ‬هامشي،‭ ‬لا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬التسبّب‭ ‬في‭ ‬فنائه‭! ‬وبكل‭ ‬ما‭ ‬يحفل‭ ‬به‭ ‬العصر‭ ‬من‭ ‬جنون‭ ‬الحروب‭ (‬بكافة‭ ‬أشكالها‭ ‬العنفية‭ ‬العسكرية‭ ‬والبيولوجية‭ ‬والأخلاقية‭)‬،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬الكائن‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬عليه‭ ‬الرهان‭ ‬في‭ ‬مسؤولية‭ ‬الحرية‭ ‬والاختيار،‭ ‬والتفريق‭ ‬بين‭ ‬الخير‭ ‬والشر،‭ ‬وبين‭ ‬الصالح‭ ‬والطالح‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭! ‬ألم‭ ‬نقل‭ ‬إنه‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬نزع‭ ‬القداسة‭ ‬عن‭ ‬الإنسان‭ ‬والدين‭ ‬والوجود،‭ ‬جاءت‭ (‬العدمية‭) ‬لتحلّ‭ ‬محلّ‭ ‬تلك‭ ‬القداسة،‭ ‬فتاه‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬قاحلة،‭ ‬جافة‭ ‬لا‭ ‬مشاعر‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬قيم‭ ‬ولا‭ ‬إنسانية،‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬يريدون‭ ‬إيصال‭ ‬هذا‭ ‬الكائن‭ ‬القدسي‭ ‬إليه‭!‬

{‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الترحال‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬أجمل‭ ‬من‭ ‬مخزون‭ ‬الذاكرة‭ ‬القديمة‭! ‬أغنية‭ ‬أو‭ ‬فيلم‭ ‬قديم‭ ‬أو‭ ‬جديد‭ ‬نادر‭! ‬أو‭ ‬ألبوم‭ ‬مشحون‭ ‬بملامح‭ ‬شخوص‭ ‬لم‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬وصلنا‭ ‬إليه‭! ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬سادرة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬ما‭ ‬بحلم‭ ‬حياة‭ ‬أفضل‭ ‬للإنسان‭ ‬وللعالم؛‭ ‬الطفولة‭ ‬فيها‭ ‬محميّة،‭ ‬والشباب‭ ‬في‭ ‬توق‭ ‬لتجسيد‭ ‬الحلم‭ ‬الإنساني،‭ ‬الذي‭ ‬تمتّ‭ ‬سرقته‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الإنسان‮»‬‭! ‬حقيقة‭ ‬واحدة‭ ‬تُطمئن‭ ‬القلب‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬صُدفة،‭ ‬ليذهب‭ ‬صُدفة‭! ‬وأن‭ ‬المرجعية‭ ‬التي‭ ‬توصل‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قويّة‭ ‬لدى‭ ‬شعوب‭ ‬كثيرة‭! ‬وأنها‭ ‬وحدها‭ ‬التي‭ ‬تشكلّ‭ ‬المجابهة‭ ‬الحقيقية،‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬يزرعه‭ ‬‮«‬الشيطانيون‮»‬،‭ ‬من‭ ‬عدمية‭ ‬وخواء‭! ‬وأن‭ ‬الله‭ ‬محيط‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬وأقوى‭ ‬وأكبر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا