العدد : ١٦٨٥٠ - السبت ١١ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٠ - السبت ١١ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٣ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

«البروكرستية» وهستيريا الفلسفة الغربية!

{‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬وأنا‭ ‬أقرأ‭ ‬عن‭ ‬أسطورة‭ ‬‮«‬بروكرست‮»‬‭ ‬وكثيرون‭ ‬سمعوا‭ ‬بها،‭ ‬راودني‭ ‬إحساس‭ ‬أنها‭ ‬الأسطورة‭ ‬التي‭ ‬تنطبق‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ (‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثية‭) ‬في‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬والشعوب‭ ‬والأمم‭ ‬الأخرى‭ ‬أو‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى‭!‬

خلاصة‭ ‬الأسطورة،‭ ‬وهي‭ ‬أسطورة‭ ‬يونانية‭ ‬قديمة،‭ ‬أن‭ ‬رجلاً‭ ‬يُدعى‭ ‬‮«‬بروكرست‮»‬‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬غابات‭ ‬‮«‬أثينا‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬ينتظر‭ ‬المارة‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬منعزل‭ ‬كقاطع‭ ‬طريق،‭ ‬وكان‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬وحده‭ ‬يمثل‭ ‬النموذج‭ ‬الأمثل‭ ‬والأفضل‭ ‬للإنسانية‭ ‬المتكاملة،‭ ‬رغم‭ ‬جنونه‭ ‬ووحشيته‭ ‬وقسوته‭! ‬التي‭ ‬ستتضح‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يفعله‭! ‬كان‭ ‬لديه‭ (‬سرير‭ ‬حديدي‭) ‬في‭ ‬منزله‭ ‬النائي،‭ ‬ويدعو‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يمر‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬لقضاء‭ ‬ليلة‭ ‬عنده،‭ ‬للاستراحة‭ ‬والنوم‭ ‬على‭ ‬السرير‭ ‬الحديدي،‭ ‬ليظهر‭ ‬الجنون‭ ‬وتظهر‭ ‬الوحشية‭ ‬على‭ ‬عابر‭ ‬الطريق‭! ‬وحيث‭ ‬رجل‭ ‬الأسطورة‭ ‬‮«‬بروكرست‮»‬‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬ليكون‭ ‬نموذجياً،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتوافق‭ ‬حجمه‭ ‬وطوله‭ ‬مع‭ ‬حجم‭ ‬سريره‭ ‬الحديدي‭ ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬هو،‭ ‬فإذا‭ ‬وجد‭ ‬من‭ ‬نام‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬السرير‭ ‬يبدأ‭ ‬‮«‬بروكرست‮»‬‭ ‬بقطع‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬الضيف‭ ‬‮«‬الضحية‮»‬‭! ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬أقصر‭ ‬يبدأ‭ ‬بشد‭ ‬جسد‭ ‬الضحية‭ ‬بأدواته‭ ‬المخصصة‭ ‬لذلك‭! ‬ليناسب‭ ‬جسده‭ ‬طول‭ ‬السرير‭ ‬وبالقوة،‭ ‬حتى‭ ‬تتمزّق‭ ‬مفاصل‭ ‬الضحية،‭ ‬وتتفكك‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يُرضي‭ ‬جنونه،‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬سريره‭ ‬المطابقة‭ ‬مقاييسه‭ ‬لجسده‭ ‬هو‭! ‬ولكن‭ ‬الأغرب‭ ‬في‭ ‬الأسطورة‭ ‬أن‭ ‬‮«‬بروكرست‮»‬‭ ‬المجنون‭ ‬وقاطع‭ ‬الطريق،‭ ‬كان‭ ‬لديه‭ ‬سريران‭ ‬‮«‬بشكل‭ ‬سرّي‮»‬،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬أحد‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬أحدهما‭ ‬لينجو‭! ‬وهو‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ضيف‭ ‬يقدّر‭ ‬طوله،‭ ‬ويأتي‭ ‬بالسرير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يناسبه‭! ‬ليقوم‭ ‬بإجباره‭ ‬على‭ ‬التلاؤم‭ ‬مع‭ ‬سريره‭ ‬غير‭ ‬المناسب‭! ‬انتهت‭ ‬الأسطورة‭.‬

{‭ ‬وأنا‭ ‬أتأمل‭ ‬في‭ ‬أسطورة‭ ‬‮«‬بروكرست‮»‬‭ ‬وجدتها‭ ‬بشكل‭ ‬نموذجي‭ ‬تنطبق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬الغرب‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬البشرية‭ ‬والعالم‭! ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬الأسطورة‭ ‬رغم‭ ‬غرائبيتها‭ ‬أنتجت‭ ‬مصطلح‭ (‬البروكرستية‭) ‬الذي‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬قالب‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬سرير‭ ‬واحد،‭ ‬هو‭ ‬النموذج‭ ‬الأفضل‭ ‬لدى‭ ‬صاحبه،‭ ‬ويريد‭ ‬إجبار‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يقع‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬للتناسب‭ ‬معه‭! ‬من‭ ‬دون‭ ‬وضع‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬للحالة‭ ‬أو‭ ‬الاختلاف‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يناسبه‭ ‬كشخص‭ ‬مختلف‭! ‬ألا‭ ‬يفعل‭ ‬الغرب‭ ‬بفلسفته‭ ‬المصابة‭ (‬بهستيريا‭ ‬أنها‭ ‬النموذج‭ ‬الأفضل‭ ‬للبشرية‭) ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬شعوب‭ ‬العالم،‭  ‬ألا‭ ‬يفرض‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬والقوانين‭ ‬باسم‭ ‬دمقرطة‭ ‬الدول‭ ‬وباسم‭ ‬الحريات‭ ‬كما‭ ‬يفصلها‭ ‬هو‭ ‬ومنظومته‭ ‬الفلسفية‭ ‬والمعرفية‭! ‬أليس‭ ‬تقييس‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭ ‬بمقاسه؟‭! ‬باسم‭ ‬الحقوق‭ ‬المتماهية‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الحريات‭ ‬المصابة‭ ‬بالانفلات‭ ‬والخروج‭ ‬عن‭ ‬طبيعة‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬التعارف‭ ‬عليه،‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬الطويل‭ ‬للبشرية‭ ‬ألا‭ ‬يستخدم‭ ‬القوة‭ ‬لفرضها؟‭! ‬ألا‭ ‬يعمل‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬فرض‭ ‬نموذجه‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬الرأسمالي،‭ ‬ونموذجه‭ ‬الثقافي‭ ‬والمعرفي‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬علمانيته‭ ‬الشاملة،‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬عن‭ ‬المنطق‭ ‬والعقلانية؟‭! ‬ألا‭ ‬يتجاهل‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬باعتباره‭ ‬كائنا‭ ‬عظيما‭ ‬مركبا‭ ‬وليس‭ ‬مجرد‭ ‬شيء‭ ‬ومادة‭ ‬أو‭ ‬كيمياء‭ ‬واتصالات‭ ‬كهربية‭ ‬وإنزيمات،‭ ‬وهو‭ ‬أي‭ ‬الإنسان‭ ‬أعظم‭ ‬مخلوقات‭ ‬الله‭ ‬وأعظم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يُراد‭ ‬حصاره‭ ‬به‭ ‬بتحويله‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬كائن‭ ‬غرائزي‭ ‬بهيمي؟‭!‬

{‭ ‬لماذا‭ ‬يحمل‭ ‬الغرب‭ ‬سرير‭ ‬‮«‬بروكرست‮»‬‭ ‬على‭ ‬ظهره‭ ‬أينما‭ ‬ذهب،‭ ‬ليفسّر‭ ‬العالم‭ ‬والإنسان‭ ‬والطبيعة‭ ‬والفطرة‭ ‬به؟‭! ‬وليفرضه‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتناسب‭ ‬ثقافتها‭ ‬أو‭ ‬هويتها‭ ‬أو‭ ‬دينها‭ ‬أو‭ ‬قيمها‭ ‬أو‭ ‬أنماطها‭ ‬السياسية‭ ‬أو‭ ‬مبادئها‭ ‬في‭ ‬الحريات‭ ‬مع‭ ‬السرير‭ ‬الغربي؟‭! ‬لماذا‭ ‬يفرض‭ ‬بسبب‭ ‬نموذجه‭ ‬الحروب‭ ‬تحت‭ ‬شعار‭ ‬الدمقرطة،‭ ‬ويهدم‭ ‬الدول‭ ‬ويفكك‭ ‬تنوّع‭ ‬الثقافات‭ ‬والحضارات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تريد‭ ‬النوم‭ ‬على‭ ‬سريره‭ ‬الحديدي‭ ‬المهترئ؟‭! ‬أليس‭ ‬هنا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬أسطورة‭ ‬قاطع‭ ‬الطريق‭ ‬المتوحش‭ ‬والعنيف،‭ ‬وروحه‭ ‬الفارغة‭ ‬من‭ ‬الإنسانية‭ ‬ومن‭ ‬المنطق‭ ‬إلا‭ ‬منطق‭ ‬القوة،‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬الغرب‭ ‬الاستعماري‭ ‬والإمبريالي‭ ‬الذي‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬قاطع‭ ‬طريق‭ ‬دولي‭! ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬نموذجه،‭ ‬ويجبرهم‭ ‬أن‭ ‬يروا‭ ‬ما‭ ‬يرى‭! ‬وإلا‭ ‬فتقطيع‭ ‬الأوصال‭ ‬وتفكيك‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بالفوضى،‭ ‬وفرض‭ ‬العقوبات‭ ‬ثم‭ ‬التفاخر‭ ‬بأنه‭ ‬النموذج‭ ‬الأرقى‭ ‬والأكثر‭ ‬تطوراً‭ ‬والأكثر‭ ‬تحضراً‭ ‬مع‭ ‬غياب‭ ‬جوهر‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬عنه،‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬التأطير‭ ‬المادي‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أطّر‭ ‬نفسه‭ ‬به،‭ ‬وأنتج‭ ‬فلسفته‭ ‬المظلمة،‭ ‬ليعمّ‭ ‬ظلامها‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬وبالقوة؟‭!‬

{‭ ‬إن‭ ‬هستيريا‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ (‬البروكرستية‭) ‬لا‭ ‬يجابهها‭ ‬اليوم‭ ‬إلا‭ ‬‮«‬المرجعية‭ ‬الإسلامية‮»‬‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والروحية‭ ‬والنظرة‭ ‬المتكاملة‭ ‬لتفسير‭ ‬الإنسان‭ ‬ووجوده،‭ ‬والرؤية‭ ‬الكونية‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬بين‭ ‬تكاملية‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مادي‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬روحي‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬وتسفير‭ ‬الطبيعة‭ ‬وما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة‭! ‬إن‭ ‬أخطر‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬رؤيتها‭ ‬للإنسان‭ ‬والعالم‭ ‬والطبيعة‭ ‬هو‭ (‬خلخلة‭ ‬الوعي‭ ‬والمرجعية‭ ‬الإنسانية‭ ‬الطبيعية‭)! ‬وحشر‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬فلسفة‭ (‬المنفعة‭ ‬المادية‭ ‬وبشكل‭ ‬شمولي‭ ‬وكامل‭)! ‬وتأسيس‭ ‬المنظومة‭ ‬المعرفية‭ ‬على‭ ‬تراجيديا‭ ‬النظرية‭ ‬‮«‬الداروينية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقوم‭ ‬عليها‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭! ‬من‭ ‬دون‭ ‬وضع‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬لحقيقة‭ ‬التركيب‭ ‬الإنساني‭ ‬بين‭ ‬جسد‭ ‬وروح،‭ ‬أو‭ ‬مفاهيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬والقيم‭ ‬والتوازن‭ ‬والتكامل‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬فكل‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬له،‭ ‬وقد‭ ‬طرح‭ ‬الغرب‭ ‬نموذجه‭ ‬المغاير‭ ‬بطغيان‭ ‬الماديات‭ ‬والاستهلاك‭ ‬والرؤية‭ ‬المادية‭ ‬المطلقة‭! ‬ولن‭ ‬أريكم‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬أرى‭!‬

ونحن‭ ‬هنا‭ ‬أمام‭ ‬نموذج‭ ‬واسع‭ ‬‮«‬لبروكرست‮»‬‭ ‬و‮«‬البروكرستية‮»‬،‭ ‬فإن‭ ‬النموذج‭ ‬حين‭ ‬يتحوّل‭ ‬لدى‭ ‬صاحبه‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬هستيريا‮»‬‭ ‬لفرضه‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬البشرية،‭ ‬فإن‭ ‬التشبث‭ ‬بالمرجعية‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وحده‭ ‬يدحض‭ ‬ويقاوم‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬المعرفي‭ ‬والفلسفي‭ ‬والغرائزي‭ ‬واللاأخلاقي‭ ‬برؤية‭ ‬مادية‭ ‬مطلقة‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬إدخال‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬فوضاه‭ ‬وفرض‭ ‬نموذجه‭ ‬وشذوذه‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا