عالم يتغير
فوزية رشيد
«البروكرستية» وهستيريا الفلسفة الغربية!
{ قبل أيام وأنا أقرأ عن أسطورة «بروكرست» وكثيرون سمعوا بها، راودني إحساس أنها الأسطورة التي تنطبق اليوم على الفلسفة الغربية (ما بعد الحداثية) في النظر إلى الإنسان والشعوب والأمم الأخرى أو الثقافات الأخرى!
خلاصة الأسطورة، وهي أسطورة يونانية قديمة، أن رجلاً يُدعى «بروكرست» كان يعيش في غابات «أثينا» وكان ينتظر المارة في مكان منعزل كقاطع طريق، وكان يعتقد أنه وحده يمثل النموذج الأمثل والأفضل للإنسانية المتكاملة، رغم جنونه ووحشيته وقسوته! التي ستتضح مما كان يفعله! كان لديه (سرير حديدي) في منزله النائي، ويدعو كل من يمر في الطريق لقضاء ليلة عنده، للاستراحة والنوم على السرير الحديدي، ليظهر الجنون وتظهر الوحشية على عابر الطريق! وحيث رجل الأسطورة «بروكرست» كان يرى أن الإنسان ليكون نموذجياً، يجب أن يتوافق حجمه وطوله مع حجم سريره الحديدي الخاص به هو، فإذا وجد من نام أطول من السرير يبدأ «بروكرست» بقطع جزء من رجل الضيف «الضحية»! وإن كان أقصر يبدأ بشد جسد الضحية بأدواته المخصصة لذلك! ليناسب جسده طول السرير وبالقوة، حتى تتمزّق مفاصل الضحية، وتتفكك من أجل أن يُرضي جنونه، في فرض سريره المطابقة مقاييسه لجسده هو! ولكن الأغرب في الأسطورة أن «بروكرست» المجنون وقاطع الطريق، كان لديه سريران «بشكل سرّي»، حتى لا يكون هناك أحد يتناسب مع أحدهما لينجو! وهو مع كل ضيف يقدّر طوله، ويأتي بالسرير الذي لا يناسبه! ليقوم بإجباره على التلاؤم مع سريره غير المناسب! انتهت الأسطورة.
{ وأنا أتأمل في أسطورة «بروكرست» وجدتها بشكل نموذجي تنطبق على ما يفعله الغرب اليوم مع البشرية والعالم! وخاصة أن الأسطورة رغم غرائبيتها أنتجت مصطلح (البروكرستية) الذي يدل على كل من يتعامل مع الناس على أساس قالب واحد أو سرير واحد، هو النموذج الأفضل لدى صاحبه، ويريد إجبار كل من يقع بين يديه للتناسب معه! من دون وضع أي اعتبار للحالة أو الاختلاف أو ما يناسبه كشخص مختلف! ألا يفعل الغرب بفلسفته المصابة (بهستيريا أنها النموذج الأفضل للبشرية) ذلك مع شعوب العالم، ألا يفرض الاتفاقيات والقوانين باسم دمقرطة الدول وباسم الحريات كما يفصلها هو ومنظومته الفلسفية والمعرفية! أليس تقييس الدول والشعوب بمقاسه؟! باسم الحقوق المتماهية مع تلك الحريات المصابة بالانفلات والخروج عن طبيعة ما تم التعارف عليه، عبر التاريخ الطويل للبشرية ألا يستخدم القوة لفرضها؟! ألا يعمل الغرب على فرض نموذجه السياسي والاقتصادي الرأسمالي، ونموذجه الثقافي والمعرفي في إطار علمانيته الشاملة، التي خرجت عن المنطق والعقلانية؟! ألا يتجاهل النظر إلى الإنسان باعتباره كائنا عظيما مركبا وليس مجرد شيء ومادة أو كيمياء واتصالات كهربية وإنزيمات، وهو أي الإنسان أعظم مخلوقات الله وأعظم من كل ما يُراد حصاره به بتحويله إلى مجرد كائن غرائزي بهيمي؟!
{ لماذا يحمل الغرب سرير «بروكرست» على ظهره أينما ذهب، ليفسّر العالم والإنسان والطبيعة والفطرة به؟! وليفرضه على كل الدول التي لا تتناسب ثقافتها أو هويتها أو دينها أو قيمها أو أنماطها السياسية أو مبادئها في الحريات مع السرير الغربي؟! لماذا يفرض بسبب نموذجه الحروب تحت شعار الدمقرطة، ويهدم الدول ويفكك تنوّع الثقافات والحضارات التي لا تريد النوم على سريره الحديدي المهترئ؟! أليس هنا نجد أن أسطورة قاطع الطريق المتوحش والعنيف، وروحه الفارغة من الإنسانية ومن المنطق إلا منطق القوة، هو ذاته الغرب الاستعماري والإمبريالي الذي تحوّل إلى قاطع طريق دولي! يفرض على الناس نموذجه، ويجبرهم أن يروا ما يرى! وإلا فتقطيع الأوصال وتفكيك كل شيء بالفوضى، وفرض العقوبات ثم التفاخر بأنه النموذج الأرقى والأكثر تطوراً والأكثر تحضراً مع غياب جوهر كل ذلك عنه، إلا من خلال «التأطير المادي» الذي أطّر نفسه به، وأنتج فلسفته المظلمة، ليعمّ ظلامها العالم كله وبالقوة؟!
{ إن هستيريا الفلسفة الغربية (البروكرستية) لا يجابهها اليوم إلا «المرجعية الإسلامية» الأخلاقية والروحية والنظرة المتكاملة لتفسير الإنسان ووجوده، والرؤية الكونية بشكل عام بين تكاملية ما هو مادي وما هو روحي في الإنسان وتسفير الطبيعة وما وراء الطبيعة! إن أخطر ما تقوم به الفلسفة الغربية الراهنة في رؤيتها للإنسان والعالم والطبيعة هو (خلخلة الوعي والمرجعية الإنسانية الطبيعية)! وحشر كل ذلك في إطار فلسفة (المنفعة المادية وبشكل شمولي وكامل)! وتأسيس المنظومة المعرفية على تراجيديا النظرية «الداروينية» التي تقوم عليها الفلسفة الغربية! من دون وضع أي اعتبار لحقيقة التركيب الإنساني بين جسد وروح، أو مفاهيم الإنسانية والقيم والتوازن والتكامل في العالم، فكل ذلك لا معنى له، وقد طرح الغرب نموذجه المغاير بطغيان الماديات والاستهلاك والرؤية المادية المطلقة! ولن أريكم إلا ما أرى!
ونحن هنا أمام نموذج واسع «لبروكرست» و«البروكرستية»، فإن النموذج حين يتحوّل لدى صاحبه إلى «هستيريا» لفرضه على كل البشرية، فإن التشبث بالمرجعية الإنسانية، وحده يدحض ويقاوم هذا النموذج المعرفي والفلسفي والغرائزي واللاأخلاقي برؤية مادية مطلقة يعمل على إدخال العالم كله في فوضاه وفرض نموذجه وشذوذه!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك