العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

عالم الدهشة والإحباط والاستنارة المظلمة!

{‭ ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬البشرية‭ ‬تمرّ‭ ‬بمرحلة‭ ‬لم‭ ‬تمرّ‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬طوال‭ ‬تاريخها‭! ‬وحيث‭ ‬ما‭ ‬يُقال‭ ‬عن‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬متطورة‭ ‬جدًا،‭ ‬ومن‭ ‬يقول‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬تطورًا‭ ‬مما‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم،‭ ‬لم‭ ‬يتمّ‭ ‬توثيقها‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ (‬الرصد‭ ‬التاريخي‭ ‬المكتوب‭ ‬للحضارات‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬القديمة‭) ‬بل‭ ‬بقيت‭ ‬لغزًا‭ ‬وربما‭ ‬سرًا‭ ‬لا‭ ‬تمتلك‭ ‬البشرية‭ ‬مفاتيحه‭! ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬أن‭ ‬التطورات‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬وغيرهما،‭ ‬أخذت‭ ‬منحى‭ ‬تسارعيًا‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬لتزداد‭ ‬وتيرة‭ ‬التسارع‭ ‬خلال‭ ‬العقدين‭ ‬الماضيين،‭ ‬أي‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭! ‬وبشكل‭ ‬خيالي‭ ‬أصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬عاجزًا‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬ملاحقة‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المناحي‭! ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬التطورات‭ ‬‮«‬المادية‮»‬‭ ‬تخلخلت‭ ‬الأنساق‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬سواء‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬القيمية‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬أو‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬حتى‭ ‬اعتبر‭ ‬المفكرون‭ ‬الذين‭ ‬يهمهم‭ ‬تطور‭ ‬المسيرة‭ ‬الإنسانية‭ ‬وقيمها‭ ‬ومبادئها،‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬المتغيرات‭ ‬والتسارع‭ ‬في‭ ‬‮«‬التطورات‭ ‬المادية‮»‬،‭ ‬وقيمها‭ ‬الجديدة‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ (‬الاستنارة‭ ‬المظلمة‭)‬،‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬أحد‭ ‬الفلاسفة‭ ‬الغربيين‭! ‬هم‭ ‬مفكرون‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬العزلة‭!‬

{‭ ‬الإنسان‭ ‬الراهن‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬انبهار‭ ‬ودهشة‭ ‬مما‭ ‬يحدث‭ ‬حوله،‭ ‬وكأن‭ ‬عالمه‭ ‬الطبيعي‭ ‬انقلب‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب‭! ‬ولكنها‭ ‬الدهشة‭ ‬المنطوية‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الوقت‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الإحباط‭ ‬والسوداوية‭! ‬

وخاصة‭ ‬مع‭ ‬انقلاب‭ ‬مفاهيم‭ ‬الفِطرة‭ ‬السوّية،‭ ‬التي‭ ‬أدىّ‭ ‬فقدانها‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الغربية،‭ ‬إلى‭ ‬زيادة‭ ‬معدلات‭ ‬الأمراض‭ ‬النفسية‭ ‬وحالات‭ ‬الانتحار‭ ‬والتفكك‭ ‬الأسري‭ ‬وغيره،‭ ‬لأنه‭ ‬بالخلاصة‭ ‬الإنسان‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يتعايش‭ ‬مع‭ ‬عالم‭ ‬بلا‭ ‬مُثل‭ ‬أو‭ ‬أخلاق‭ ‬فهو‭ ‬كائن‭ ‬أخلاقي‭!.. ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬خال‭ ‬من‭ ‬القيم‭ ‬الروحية،‭ ‬وحيث‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يُساق‭ ‬بمنطق‭ ‬القوة‭! ‬وتحت‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬يتم‭ ‬تدجين‭ ‬المعرفة‭ ‬والعلم‭ ‬والأخلاق‭ ‬وتكاملية‭ ‬الوجود‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬مادي‭ ‬وآخر‭ ‬غير‭ ‬مادي،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬محسوس‭ ‬وعالم‭ ‬غير‭ ‬محسوس،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تطرحه‭ ‬الرؤية‭ ‬الدينية،‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬العمل‭ ‬أيضًا‭ ‬على‭ ‬طمسها،‭ ‬في‭ ‬خلخلة‭ ‬كبيرة‭ ‬للوعي‭ ‬الإنساني‭! ‬وفي‭ ‬تناقض‭ ‬كامل‭ ‬مع‭ ‬تفسير‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬المنظور‭ ‬الإسلامي‭ (‬باعتباره‭ ‬آخر‭ ‬وأصحّ‭ ‬الأديان‭ ‬للبشرية‭ ‬كلها‭)‬،‭ ‬وحيث‭ ‬المنظور‭ ‬يفسرّ‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬الإنساني‭ ‬بماديته‭ ‬وغيبيته،‭ ‬وبعالمه‭ ‬الراهن‭ ‬وعالم‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الموت‭!‬

وبأهمية‭ ‬وجود‭ ‬المعايير‭ ‬لتصنيف‭ ‬الخير‭ ‬والشرّ‭ ‬والفوارق‭ ‬بينهما،‭ ‬مما‭ ‬يعتبر‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الحضارة‭ ‬الغربية‭ ‬‮«‬المسيطرة‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬أنها‭ ‬مجرد‭ ‬معايير‭ ‬وفوارق‭ ‬يجب‭ ‬نسفها‭! ‬لأن‭ (‬المنظومة‭ ‬الجديدة‭) ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬الرؤية‭ ‬المادية،‭ ‬تتحدث‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬وحضارة‭ (‬المابعديات‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة،‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الإنسان‭! ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬التاريخ،‭ ‬وما‭ ‬بعد‭ ‬الأيديولوجيا‭! ‬وفيها‭ ‬تختلط‭ ‬كل‭ ‬المفاهيم‭ ‬والأبعاد‭ ‬المعرفية‭ ‬والفلسفية،‭ ‬ليتم‭ ‬انتزاع‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬إنسانيته‭! ‬والطبيعة‭ ‬من‭ ‬فطرتها‭ ‬وحقيقتها‭! ‬وليسقط‭ ‬الإنسان‭ ‬بشكل‭ ‬متسارع‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الأشياء‭ ‬والتفكيك‭ ‬كمقدمات‭ ‬للاندثار‭!‬

وحلول‭ ‬عالم‭ ‬ومجتمعات‭ ‬‮«‬الآلة‮»‬‭ ‬و«الذكاء‭ ‬الاصطناعي‮»‬‭ ‬الأكثر‭ ‬ذكاء‭ ‬من‭ ‬الإنسان،‭ ‬ومجتمعات‭ ‬علمية‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬‮«‬التزييف‭ ‬العميق‮»‬،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬‮«‬العوالم‭ ‬الافتراضية‮»‬‭ ‬وتزييف‭ ‬الوجوه‭ ‬والفيديوهات‭ ‬بعمق،‭ ‬وإنما‭ ‬تزييف‭ ‬العلوم‭ ‬نفسها،‭ ‬لتخدم‭ ‬‮«‬الرؤية‭ ‬المادية‭ ‬العبثية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تسعى‭ ‬لفناء‭ ‬البشر‭ ‬وليس‭ ‬لإنقاذهم،‭ ‬وتعمل‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬الأمراض‭ ‬والفيروسات‭ ‬ونشر‭ ‬الأوبئة‭ ‬وتجارب‭ ‬‮«‬الهارب‮»‬‭ ‬في‭ ‬المناخ‭ ‬والبيئة،‭ ‬وإحداث‭ ‬الأعاصير‭ ‬والزلازل،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬المراكز‭ ‬السرّية‭ ‬لذلك‭!‬

{‭ ‬ما‭ ‬يعيشه‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬تطورات‭ ‬صاروخية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ (‬الاستنارة‭ ‬المظلمة‭) ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬والمنظومة‭ ‬المادية‭ ‬البحتة،‭ ‬تعمل‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬‮«‬إسبينوزا‮»‬‭: ‬‮«‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬الإنسان‭ ‬إنسانيته‭ ‬كي‭ ‬يتحد‭ ‬مع‭ ‬المنظومة‭ ‬الآلية‮»‬‭! ‬وكما‭ ‬قال‭ ‬المفكر‭ ‬العربي‭ ‬د‭. ‬عبدالوهاب‭ ‬المسيري‭: ‬‮«‬هي‭ ‬دعوة‭ ‬لفقدان‭ ‬الهوّية‭ ‬الإنسانية‭ ‬وفقدان‭ ‬المركزية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاتحاد‭ ‬الصوفي‭ ‬بالآلة‭ ‬وقوانين‭ ‬المادة‮»‬‭! ‬وحيث‭ ‬أشار‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭: (‬انفصال‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والقيمة‭) ‬وحيث‭ ‬التجارب‭ ‬العلمية‭ ‬لا‭ ‬تهمها‭ ‬القيم‭ ‬أو‭ ‬الأخلاق‭ ‬أو‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وإنما‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬التجريب‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬مناقضة‭ ‬لكل‭ ‬ذلك‭! ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬يصل‭ ‬بنا‭ ‬إلى‭ (‬الاستنارة‭ ‬المظلمة‭) ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬أو‭ ‬الفلسفة‭ ‬أو‭ ‬المعرفة‭ ‬والمفاهيم،‭ ‬أو‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الإنسان‭ ‬والوجود‭!‬

{‭ ‬ومن‭ ‬يُسمون‭ ‬أنفسهم‭ (‬المستنيرين‭ ‬العرب‭) ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬مدى‭ ‬ما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ ‬الغرب‭ ‬من‭ ‬‮«‬ظلامية‮»‬‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬استنارة‮»‬‭ ‬وتنوير‭! ‬لأنهم‭ ‬ببساطة‭ ‬لا‭ ‬يملكون‭ (‬رؤية‭ ‬نقدية‭ ‬معرفية‭ ‬وفلسفية‭ ‬خاصة‭) ‬لما‭ ‬وصل‭ ‬إليه‭ (‬المشروع‭ ‬المعرفي‭ ‬الغربي‭) ‬ومنتجاته‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية‭! ‬وفشل‭ ‬الحداثة‭ ‬حين‭ ‬يروجون‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فلاسفتهم‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬‮«‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة‮»‬‭ ‬بأسسها‭ ‬المظلمة‭ ‬والمجافية‭ ‬للإنسانية‭ ‬والإنسان‭! ‬وحيث‭ ‬لا‭ ‬صلة‭ ‬لها‭ ‬بأي‭ ‬منطق‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬عقلانية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬علمانية‭ ‬كما‭ ‬يفهمها‭ ‬العلمانيون‭ ‬العرب‭!‬

حتى‭ ‬بات‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬المعنى‭ ‬والقيم‭ ‬حديثا‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬فلسفيا‭! ‬ولكأننا‭ ‬أمام‭ (‬ميتافيزيقيا‭ ‬علمانية‭ ‬غربية‭) ‬دخلت‭ ‬المجهول،‭ ‬واستبدلت‭ ‬‮«‬الغيب‭ ‬الإلهي‮»‬‭ ‬‮«‬بالغيب‭ ‬العلماني‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬إسقاط‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬والإنسان‭!‬

إنه‭ ‬عالم‭ ‬وحضارة‭ ‬يتم‭ ‬فرضها‭ ‬بالتدريج،‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬هم‭ ‬يخططون‭! ‬لا‭ ‬فارق‭ ‬فيه‭ ‬بين‭ ‬الوهم‭ ‬والحقيقة،‭ ‬وبين‭ ‬الإنسان‭ ‬والآلة‭ ‬أو‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬الأشياء‭! ‬ولا‭ ‬فارق‭ ‬بين‭ ‬العلم‭ ‬الحقيقي‭ ‬الذي‭ ‬ينفع‭ ‬البشرية،‭ ‬والعلم‭ ‬الزائف‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬على‭ ‬فناء‭ ‬هذه‭ ‬البشرية‭! ‬ولا‭ ‬فارق‭ ‬بين‭ ‬الطبيعة‭ ‬الإنسانية‭ ‬وتجارب‭ ‬تزييف‭ ‬تلك‭ ‬الطبيعة‭ ‬والإنسان‭!‬

كل‭ ‬شيء‭ ‬هلامي‭ ‬وعبثي‭ ‬ومنحدر‭ ‬أخلاقيا،‭ ‬والإنسان‭ ‬في‭ ‬دهشته‭ ‬وانبهاره‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الإحباط‭ ‬والاكتئاب‭ ‬وتأثيرات‭ (‬الاستنارة‭ ‬المظلمة‭)!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا