زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
فلاش باك
لست متصابيا، ولكنني -كما أردد دائما في مقالاتي- لا أعترف بعمري البيولوجي/الحسابي، أي لا يهمني أنني مولود في سنة كذا وكذا، وليس ذلك من باب التهرب من حقيقة ثابتة، ولكن لأنني أحس في أعماقي بأنني شاب في منتصف الثلاثينات، (خليها الأربعينات)، ولا أحب التصرف بما يوحي بأنني كبير في السن، كما يحلو للكثير من أبناء وبنات جيلي الذين يعشقون الشكاة، ولا يفتأون يرددون كلاماً محبطاً من قبيل (خلاص راحت علينا)، وأغتاظ وأغضب عندما يمنعني أحد أولادي من تغيير مصباح كهربائي باستخدام السلم أو حمل/ رفع شيء ثقيل الوزن، ولو نسبيا مثل حقيبة السفر.
ولكن هناك على الدوام أشياء تذكرني بأنني تقدمت في السن، فمعظم زميلات الدراسة الجامعية صرن جدات، والأنكى من ذلك أن حديث الذكريات المهببة الذي بدأت فيه نبهني إلى أنني كنت في المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية عندما كانت المناهج هي ذات المناهج التي وضعها المستعمر البريطاني، بل كان عدد كبير ممن درسوني مختلف المواد في المرحلتين الثانوية والجامعية بريطانيين من مخلفات الاستعمار، وأذكر جيداً كيف دخل علينا مفتش التعليم البريطاني ذات يوم ونحن في المدرسة الابتدائية، وكان المدرس الواقف أمامنا يومها هو جدّي الحاج فرحان الذي كان يدرسنا العلوم الدينية (كما ذكرت في بعض مقالاتي فأهل أمي عملوا في تدريس القرآن على مدى قرنين ولديهم مسجد عتيق في بلدتنا بدين وألحق به مؤخراً جامع كبير مازالت إمامته معقودة لأخوالي ولذريتهم)، وصافح المفتش جدّي ثم قدم له علبتين من الحلوى، ليوزعها علينا، فسال لها لعابنا، ولكن ما أن غادر المفتش حجرة الدراسة حتى مسح جدّي يده على المصحف، وأبلغنا أنه سيرمي بالحلوى تلك في جدول ماء كبير كان يجري بمحاذاة المدرسة، وبعد انتهاء الحصة تابعناه بعيون باكية وهو يرمي بها، وفكر بعضنا في القفز إلى الماء لإنقاذ بعض قطع الحلوى ولكن نظرة زاجرة من جدّي منعتنا عن ذلك. وتمتم الرجل بكلام عن الاستعمار والخواجات، لم يكن يعني بالنسبة إلينا شيئا، فقد كان كلّ ما يعنينا وقتها أنه حرمنا من الحلوى، وفي نهاية اليوم الدراسي، (فشَّ) بعض الطلاب غلّهم فيّ وأشبعوني ضرباً لأن جدّي حرمهم من طيبات الخواجات.
لم يكن جدّي الحاج فرحان يحمل أي مؤهل أكاديمي، ومع هذا كان معلماً في المدرسة، ومردّ ذلك هو أن التعليم بدأ في السودان فيما يسمى الخلاوي ومفردها خلوة، وهو المسجد الذي كان يتم فيه تعليم الصغار القراءة والكتابة وتحفيظهم القرآن، (ما يسمى الكُتّاب في بعض الدول العربية)، وأذكر أن جدّي ذاك كان فصيح اللسان إذا تكلم بالعربية، بل كان يكتب الشعر، ولكنه كان يتحدث باللغة النوبية في سياق شرح الدروس لعلمه أن العجم البجم الجالسين أمامه لا يفهمون مرامي كل كلامه، ولم يكن في كونه قريباً لي أي ميزة بالنسبة إلي، فقد كان يضربني أكثر من غيري، وبدون سبب في غالب الأحوال، فقد كان يدخل حجرة الدراسة يحمل عصا طويلة من جريد النخل، فإذا أخطأ تلميذ جالس في الصفوف الخلفية هوى بعصاه تلك على من يجلسون في الصفوف الأمامية، وكنت منهم بحكم قصر قامتي، وكان معظم من يجلسون في الصفوف الخلفية من كبار السن.. نعم فقد كان من المألوف أن تجد في الصف الثالث الابتدائي شخصاً عمره 16 سنة مثلا، ويعمل بالزراعة في نهاية اليوم الدراسي، أما كيف حصل على مقعد في المدرسة فـ«بسيطة»: يذهب أهله إلى مكتب الإحصاء ويستخرجون له شهادة ميلاد «بالتسنين».. ويحصلون على خصم محترم يجعل ولدهم الشاب طفلاً يحق له الالتحاق بمدرسة، وهناك ملايين السودانيين من مواليد الأول من يناير مع اختلاف في السنوات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك