عالم يتغير
فوزية رشيد
زمن «التيك أوي»!
{ يبدو ومثلما إيقاع الحياة يتسارع في كل شيء، ويبلغ «المتغيرّ الزمني» أوجَه، وهو يختصر آلاف السنين من التحولات والتطورات، ليسكبها في بضعة عقود توالت منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لتختزل سبعة عقود من تلاحق الثورة التكنولوجية، ما اعتاده البشر من بطء التحولات خلال آلاف السنين! لنصل إلى زمن يبدو أنه واقع في عشق (الاختزال) أو (سرعة الإعداد) أو هو (زمن التيك أوي) الذي لم يغيِّر فقط نكهة الوجبات لتنتقل من الطهي المنزلي إلى «مطاعم الوجبات السريعة» مثل الكنتاكي والماكدونالد والبرجر والبروستد وغيرها! وإنما أصبح الحوار القائم بين البشر، والأنشطة والفعاليات القادمة من (العوالم الافتراضية)، بدورها مصابة بأزمة الوقت، التي تعمل على اختزال التبادل المعلوماتي فيها قدر الإمكان، حتى باتت تلك الأنشطة عبر الزووم والفيس بوك وغيرها سمة العصر في التلاقي الثقافي والمعرفي، وتسهيل إقامة الأنشطة والمشاركة الافتراضية بديلاً للأنشطة التقليدية، التي تستهلك وقتًا أكثر للوصول إلى المكان (حضورًا) في زحمة المرور والشوارع! إنها السهولة والسرعة يا صديق!
{ حتى البيوت اختزلت علاقاتها لتصاب بنكهة الزمن المختزل في (التفاعل الأسري) الذي انعكس على أفراد الأسرة، وكل منهم يحمل هاتفه الذكي في يده، ويتواصل مع القروبات والواتساب والفيس بوك والانستجرام والتيك توك، في زحمة من (التواصل الافتراضي) مع الآخرين، بما يشغله عن أقرب أفراد أسرته أو عائلته، فيما هو يستقبل كثيرا من الغثّ من «الملهيات» وصُنَّاع المحتوى! ليزدحم الوقت بكل ذلك في حالة انشغال واشتغال بكثرة ما يتم نقله من الأخبار والمعلومات وحكايات مختزلة في لقطات مصورة عبر العالم! فلا يعود الإنسان بعدها كما كان أبدًا! ولكثرة الانشغال بالمحتويات المختلفة، يتراجع دور الكتاب ودور اللقاءات البشرية ودور الاحتكاك بالناس وجهًا لوجه، ودور الأنشطة والفعاليات بالحضور المباشر، وتتحوّل حتى التعليقات في العالم الافتراضي إلى رموز (الإيموجي) تعبيرًا عن الرضا أو السخط أو الضحك أو الغضب، فرمز واحد من تلك (الإيموجيات) تختزل بدورها الكلام والحاجة إلى التعبير!، ليصبح التواصل الافتراضي بدوره (تواصل تيك أوي) أو التواصل السريع!
{ قد يكون الانبهار بالتطورات التكنولوجية والهواتف الذكية، قادرة على جرّ البشر إلى أنفاقها المتعددّة، ولكن كل ذلك مجرد بداية لانبهار قادم سيصيب البشر مع «الذكاء الاصطناعي»، وما سينتجه ذلك الذكاء من تحولات ومجالات جديدة في أشكال التواصل، وفي العلاقات وفي تقنية الوظائف والمهن، وفي التعليم بل وفي داخل الأسرة حين يتحوّل البيت مع الوقت لدى الغالبية في المراحل القادمة إلى (البيت الذكي)، بما يحمله من منتجات ومصنوعات وروبوتات ذكية!
{ الإنسان وحده في خضم الانتقال من العالم الطبيعي إلى العالم الافتراضي، ومع وفرة المعلومات المبرمجة، وتراجع «العقل المعرفي» في اشتباكاته الطبيعية مع العلاقات الإنسانية الأسرية والمجتمعية، ومع نسج مفاهيمه من الالتصاق بالطبيعة ومخلوقاتها المتنوعة، وحده سيكون (الأكثر غربة) فيما يحدث حوله، رغم الازدحام الكبير للعوالم الافتراضية حوله! ورغم الكمّ الهائل من العلاقات في التواصل الافتراضي!
{ لكل شيء بالطبع وجهان: الوجه الجيد حين يعرف الإنسان كيف يوجّه نفسه والأدوات التي يستخدمها وماهية الأغراض والأهداف التي يتعّلق بها تسهيل مهامه! والوجه السلبي أو السيء، حين يكون هو من يغرق في بحر التحولات والتطورات، لتعبث به بدلا من أن تكون مجرد أداة في يده، لا تطغى على تطورّه الفكري والروحي، ولا على علاقاته الطبيعية في الأسرة والمجتمع، ولا على إدراكه لنفسه ولماهية وجوده في هذه الحياة!
هو زمن «التيك أوي» في كل شيء، وقليلون من يملكون جرأة التباطؤ في الزمن السريع، خوفًا من التخلف عن ركب وطوابير الركض البشري، خلف آخر التطورات وأنماط الذكاء الاصطناعي! ولكأن سمة السرعة تحمل في داخلها (جبرية اللهاث) خلفها ولا يهمّ بعدها التأثيرات أو الانعكاسات أو ما يتمّ هدمه في الطريق ويُداس عليه، حتى لو كان ما يُداس عليه هو الإنسان نفسه!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك