زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
حي على الأمان
كنت قبل أعوام قليلة في زيارة لدولة أوروبية، لغرض غير السياحة/ الصياعة، أي لدخول ورشة طبية على أمل أن يصلح العطار ما أفسده الدهر، ولأنني أبله وأهبل وعبيط، وربما لخلل في الذاكرة، فقد استخدمت في رحلة العودة شركة طيران عربية، (بصراحة كان ذلك لأن تذاكرها زهيدة الثمن)، فكان طبيعياً ألا تصل أمتعتي معي، وعندما كنت أقوم بتسجيل بلاغ بذلك، طلب مني الموظف تقديم وصف للحقائب: ألوانها وأشكالها ومحتوياتها، فقلت له إنها جميعها سمراوات من عائلات محافظة، وإن في ركن كل منها قطعة مثلثة الشكل من الذهب الخالص، وكذا ساعة رولكس من الاسبستوس عيار 178 قيراطا.
غضب الرجل، وقال لي إنه يريد وصفاً دقيقاً للحقائب ولا داعي للتريقة وخفة الدم، فقلت له إنني لست مطالباً بمعرفة وصف حقائبي وإنني بالفعل لا أعرف ألوانها، (لاحظت في السنوات الأخيرة أن معظم الحقائب في سير الأمتعة الكهربائي في المطارات متشابهة من حيث التصميم واللون الداكن). المهم قلت لموظف شركة الطيران الذي طالبني بملء استمارة الأمتعة المفقودة إنني عرفت من الآخرين أن لوني أسمر، وفي رواية أخرى أسود لأنني أعاني من عمى الألوان.
المهم عدت إلى البيت فجرا وكان أول ما لفت انتباهي هو صوت المؤذنين يتناهى إلى مسامعي من كل الاتجاهات، وكنت محروما لبضعة أسابيع من سماع ذلك النداء الذي ارتبط في ذاكرتي بالأمان، فبحكم نشأتي في قرية لم تعرف الكهرباء، حيث كل الحكايات التي ترويها الأمهات والجدات عن الجن والعفاريت، كان أذان الفجر يعني بالنسبة إلينا رحيل الظلام بكل تجاويفه المخيفة وكان صوت المؤذن هو «صفارة الأمان».
وإلى يومنا هذا فإنني أخاف إلى حد ما من الظلام، وربما فاقم ضعف البصر ضيقي وخوفي من الظلام، ولي معارف يملكون الشجاعة ويعلنون أنهم لا يستطيعون النوم في الظلام، ولو وضعوا لي كنزا يساوي الملايين في مقبرة وقالوا لي: اذهب وخذه ليلاً ليكون ملكاً خالصاً لك لدفعت لمن يقدم لي العرض رشوة كي يعفيني من ارتياد المقبرة ليلاً! (بكل صراحة فإنني أرتعد عند المرور بمقبرة بمفردي حتى في رابعة النهار).
المهم أنه منذ طفولتي الباكرة صار لأذان الفجر وقع طيب في نفسي، وعندما تسافر إلى بلاد لا يرتفع فيها صوت المؤذن ثم تعود لتسمعه، فإنه يجعلك تدرك أنك في دارك وبين أهلك، فعندما يتناهى صوت المؤذن إلى أذنيك من كل الاتجاهات، تكون حتما في وسط تربط بين سكانه رابطة قوية تبدأ بالتكبير وتنتهي بـ«السلام». نعم هناك مخاوف تلازمنا منذ الطفولة، ولكن تربيتنا لا تسمح لنا كـ«رجال» بإظهارها، كما أنه بمجرد أن يصبح الواحد منا أباً، يدرك أن من واجبه أن يحصن عياله ضد الخوف بأن يتخلص من المخاوف المترسبة في دواخله أو يتغلب عليها كي يعطيهم الإحساس بالأمان. (لا أخفي على عيالي خوفي من القطط ليلا، كما أنهم يعرفون أن صورة واسم فلاديمير بوتين تسبب لي الارتعاش وحمى النفاس).
الإحساس بالأمان والاطمئنان لا أجده قطّ في أي بلد أوروبي مهما كانت شوارع مدنه تشعّ بالضياء، وتعجّ برجال الشرطة. فهناك تدرك غريزياً أنك غريب ديار وغريب أهل، وأن وجودك غير مرغوب فيه، وأنك قد تتعرض لاعتداء بسبب لون بشرتك أو لأنك (لو كنت امرأة) ترتدي زياً يوحي بانتمائك إلى أمة الإسلام. وقد يعتدي عليك أحدهم بلا سبب بغضّ النظر عن لون بشرتك أو هويتك الدينية. ولكن بصفة عامة فإن احتمالات التعرض للمخاطر الجسدية والنهب تحت التهديد بالسلاح في الدول الغربية تزداد كلما ارتدت مناطق معينة كتلك التي تنشط فيها البغايا وتجارة المخدرات، وتكثر فيها الأندية الليلية أو تتواجد فيها العصابات الشبايبة.
عندما كنت أدرس الإنتاج البرامجي التلفزيوني في لندن في أواخر سبعينيات القرن الماضي كان أحد أساتذتي يقوم بتصوير برنامج تلفزيوني في جنوب لندن حيث يسكن «ربعنا السود»، وكان يحرص على اصطحابي معه كي يضمن سلامته. يعني أنا الأجنبي الأسود كنت كفيله في بلده، أما اليوم فإن الأسود والأبيض في لندن لا يأمنان شرّ الأسود ولا الأبيض.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك