العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

حين تكبر في الكتابة ومعها!

{‭ ‬لوهلة‭ ‬تشعر‭ ‬أن‭ ‬مسيرة‭ ‬حياتك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مسيرة‭ ‬شخصية،‭ ‬وأنت‭ ‬تعترك‭ ‬الكتابة،‭ ‬مثلما‭ ‬فعلت‭ ‬بين‭ ‬الرواية‭ ‬والقصة‭ ‬وقضايا‭ ‬الرأي‭! ‬فقد‭ ‬اختلطت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تدري‭ ‬عصارة‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬عروقك‭ ‬بحبر‭ ‬القلم‭ ‬والحياة‭ ‬العامة،‭ ‬وتماهى‭ ‬نبضك‭ ‬بنبض‭ ‬الهموم‭ ‬التي‭ ‬شغلتك،‭ ‬طوال‭ ‬مسيرة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬خمسة‭ ‬عقود‭!‬

{‭ ‬كنت‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬مسارات‭ ‬القضايا‭ ‬المؤرقة‭ ‬وهموم‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي،‭ ‬هي‭ ‬مساراتك‭ ‬الخاصة،‭ ‬وأن‭ ‬طرح‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القضايا‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬التغيير‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يؤرق‭ ‬الإنسان‭ ‬العربي،‭ ‬أو‭ ‬الإنسان‭ ‬أينما‭ ‬كان،‭ ‬شرط‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬متورطاً‭ ‬في‭ ‬الفساد‭ ‬والإفساد‭ ‬في‭ ‬الحياة،‭ ‬وداخلاً‭ ‬في‭ ‬شرورها‭ ‬وربط‭ ‬عُقد‭ ‬خيوطها‭! ‬ثم‭ ‬فجأة‭ ‬تصحو‭ ‬وليس‭ ‬بيدك‭ ‬أي‭ ‬قرار‭ ‬لتنفيذ‭ ‬المتغيرات‭ ‬المطلوبة،‭ ‬أنك‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬تبحر‭ ‬في‭ ‬سفينة‭ ‬تمخر‭ ‬عباب‭ ‬البحر‭ ‬وحدها‭! ‬وتتعرض‭ ‬للعواصف‭ ‬والأمواج‭ ‬العاتية‭ ‬وحدها‭! ‬وتتساءل‭: ‬أين‭ ‬ذهبت‭ ‬الحياة‭ ‬حياتك‭! ‬وقد‭ ‬انطوت‭ ‬سريعاً‭ ‬كالسجل؟‭! ‬وأين‭ ‬ذهب‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬الحبر،‭ ‬وكل‭ ‬تلك‭ ‬الأوراق‭ ‬والكتابات‭ ‬المليئة‭ ‬بجنون‭ ‬الموقف،‭ ‬وصدق‭ ‬الرأي،‭ ‬وحمولة‭ ‬ثقيلة‭ ‬أثقلت‭ ‬بها‭ ‬العقل‭ ‬والقلب‭ ‬طوال‭ ‬عقود،‭ ‬من‭ ‬شجون‭ ‬وأحزان‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬وتطلعاتها،‭ ‬وشجون‭ ‬الإنسان‭ ‬المعاصر،‭ ‬الذي‭ ‬دارت‭ ‬خرائط‭ ‬الجغرافيا‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬يراقب‭ ‬تأثير‭ ‬كل‭ ‬التحولات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسياسية‭ ‬والقيمية‭ ‬على‭ ‬حياته؟‭! ‬وليطرح‭ ‬السؤال‭ ‬الآخر‭ ‬نفسه‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬لكل‭ ‬ذلك‭ ‬الارتحال‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬ومعها‭ ‬عبر‭ ‬أهم‭ ‬محطات‭ ‬العمر‭ ‬الجدوى‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬تعتقدها‭ ‬وهرمت‭ ‬فيها؟‭!‬

{‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الارتحال‭ ‬عرفت‭ ‬بعمق‭ ‬أنك‭ ‬ككاتب‭ ‬إن‭ ‬كنت‭ ‬مستقلا‭ ‬بشكل‭ ‬حقيقي،‭ ‬فإنك‭ ‬ستكسب‭ ‬الأعداء،‭ ‬وأصدقاؤك‭ ‬هم‭ ‬جمهور‭ ‬مجهول‭ ‬الهويّة‭! ‬قد‭ ‬يكتب‭ ‬أحدهم‭ ‬خطاباً‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬إعجابه،‭ ‬أو‭ ‬يهاتفك‭ ‬آخر‭ ‬لذات‭ ‬السبب،‭ ‬أو‭ ‬يطلب‭ ‬منك‭ ‬بعضهم‭ ‬العناية‭ ‬بقضية‭ ‬تخصّه،‭ ‬أو‭ ‬تأتيك‭ ‬الإشادة‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬الفكر‭ ‬والثقافة،‭ ‬ولكن‭ ‬يبقى‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬مجهول‭ ‬الدرب‭ ‬وأنت‭ ‬تعاين‭ ‬خبرات‭ ‬القلب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬اعتركت‭ ‬من‭ ‬قضايا‭! ‬فكونك‭ ‬مستقلا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬مسار‭ ‬حزبي،‭ ‬أو‭ ‬رسمي،‭ ‬أو‭ ‬منظمات‭ ‬خارجية،‭ ‬فحينها‭ ‬تكون‭ ‬الاستقلالية‭ ‬تلك‭ ‬جالبة‭ ‬لكل‭ ‬أشكال‭ ‬العداوات‭ ‬من‭ ‬‮«‬حزبيين‮»‬‭ ‬انتقدت‭ ‬أخطاءهم‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬تنفيذيين‭ ‬أبديت‭ ‬الرأي‭ ‬في‭ ‬إهمالهم‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬ليبراليين‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬حماسهم‭ ‬الزائف‭ ‬للفوضى‭ ‬الأخلاقية‭ ‬التي‭ ‬جلبتها‭ ‬التطورات‭ ‬الأيديولوجيا،‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬يدينون،‭ ‬خاصة‭ ‬مع‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬النيوليبرالية‮»‬‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬سفارات‭ ‬كتبت‭ ‬بما‭ ‬يرضي‭ ‬الضمير‭ ‬عن‭ ‬جرائم‭ ‬دولهم‭! ‬أو‭ ‬عن‭ ‬‮«‬ماسونيين‮»‬‭ ‬منخرطين‭ ‬في‭ ‬تجمعات‭ ‬ماسونية‭ ‬لا‭ ‬يدركون‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الأكمّة‭ ‬ممن‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الهرم‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬ماركسيين‭ ‬كشفت‭ ‬عن‭ ‬ثغرات‭ ‬في‭ ‬أفكارهم‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تجسيد‭ ‬تلك‭ ‬الأفكار‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬قوميين‭ ‬تخلوا‭ ‬عن‭ ‬بوصلة‭ ‬قوميتهم‭ ‬وعروبتهم‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬لم‭ ‬تقدم‭ ‬فروض‭ ‬الطاعة‭ ‬لها‭! ‬أو‭ ‬تكتب‭ ‬مدائح‭ ‬في‭ ‬الباب‭ ‬العالي‭ ‬الذي‭ ‬يصطفون‭ ‬تحته‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬‮«‬إخوان‮»‬‭ ‬كشفت‭ ‬فساد‭ ‬أوراقهم‭! ‬أو‭ ‬من‭ ‬‮«‬طائفيين‮»‬‭ ‬فسدة‭ ‬أرادوا‭ ‬السوء‭ ‬بالوطن‭ ‬وبأوطان‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭! ‬هكذا‭ ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬محطة‭ ‬من‭ ‬الأزمات‭ ‬العربية‭ ‬والمحلية،‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعجبه‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬صاحب‭ ‬قلم‭ ‬حرّ‭ ‬ووطنيا‭ ‬وقوميا،‭ ‬أو‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬مدجنّا،‭ ‬وصاحب‭ ‬مزمار‭ ‬في‭ ‬الجمع‭! ‬فيتحول‭ ‬إلى‭ ‬عدو‭ ‬خبيث‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعلم‭ ‬حتى‭ ‬أنه‭ ‬يحمل‭ ‬لك‭ ‬العداء‭!‬

{‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الامتحانات‭ ‬الصعبة‭ ‬في‭ ‬الكتابة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأصدقاء‭ ‬المجهولين‭ ‬من‭ ‬القراء،‭ ‬وأحياناً‭ ‬المعروفين‭ ‬لك‭ ‬بسبب‭ ‬التواصل‭ ‬معهم،‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يجعلون‭ ‬من‭ ‬مسيرة‭ ‬الكتابة‭ ‬والارتحال‭ ‬فيها‭ ‬ومعها‭ ‬ذات‭ ‬جدوى‭! ‬أحياناً‭ ‬تعليق‭ ‬صادق‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬واهتمام‭ ‬وتقدير‭ ‬حقيقي‭ ‬بما‭ ‬تكتب‭ ‬من‭ ‬هناك،‭ ‬وأن‭ ‬يكون‭ ‬ما‭ ‬تكتب‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬الأكثر‭ ‬تداولاً‭ ‬في‭ ‬بلدك،‭ ‬ومتداولاً‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬لحشود‭ ‬من‭ ‬كتّاب‭ ‬وصحفيين‭ ‬ومثقفين‭ ‬ومفكرين،‭ ‬يشيدون‭ ‬بما‭ ‬تطرح‭ ‬من‭ ‬قضايا،‭ ‬فتدرك‭ ‬حينها‭ ‬الجدوى،‭ ‬وقيمة‭ ‬الفكر‭ ‬وقيمة‭ ‬الكتابة‭! ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬التهميش‭ ‬المتعمد‭ ‬وعدم‭ ‬التقدير‭ ‬في‭ ‬أماكن‭ ‬أخرى‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬قدر‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬مستقلاً،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬صادقاً‭! ‬فاحتفاء‭ ‬القلوب‭ ‬الصادقة‭ ‬هو‭ ‬أكبر‭ ‬وسام‭ ‬حقيقي‭ ‬تناله‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬الكتابة‭ ‬الطويلة‭!‬

{‭ ‬لا‭ ‬يهم‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬رواية‭ ‬أو‭ ‬قصة‭ ‬تراودك‭ ‬الكتابة‭ ‬فيهما‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭! ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تكتب‭ ‬آراء‭ ‬في‭ ‬أرشيف‭ ‬المقال‭ ‬ترى‭ ‬أهمية‭ ‬الكتابة‭ ‬اليومية‭ ‬فيها‭ ‬بسبب‭ ‬دوام‭ ‬سخونة‭ ‬قضايا‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭! ‬بما‭ ‬لا‭ ‬تستطيعه‭ ‬الكتابات‭ ‬الأخرى‭ ‬رغم‭ ‬أُبهتها‭ ‬القيام‭ ‬به‭ ‬كدور‭! ‬وهي‭ ‬الآراء‭ ‬التي‭ ‬تحاول‭ ‬قدر‭ ‬الإمكان‭ ‬مسك‭ ‬خيوط‭ ‬متشابكة‭ ‬في‭ ‬الهمّ‭ ‬الوطني‭ ‬والهمّ‭ ‬القومي‭ ‬والهمّ‭ ‬الإنساني‭! ‬المهم‭ ‬أنك‭ ‬اخترت‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬حرف‭ ‬وأول‭ ‬فكرة،‭ ‬واستمرّ‭ ‬عطش‭ ‬الحرف‭ ‬معك‭ ‬لا‭ ‬يرتوي‭ ‬مهما‭ ‬كتبت‭! ‬لتسجّل‭ ‬في‭ ‬أرشيف‭ ‬حياتك‭ ‬الخاصة‭ ‬والعامة،‭ ‬أنك‭ ‬قلت‭ ‬ما‭ ‬قلت‭ ‬بصدق،‭ ‬وأنك‭ ‬كتبت‭ ‬ما‭ ‬كتبت‭ ‬بذات‭ ‬الدافع‭ ‬وأنك‭ ‬عاركت‭ ‬القضايا‭ ‬الأساسية،‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الاهتمام‭ ‬بما‭ ‬يبرز‭ ‬الجهود‭ ‬في‭ ‬سُلّم‭ ‬المقامات،‭ ‬وأضواء‭ ‬الشهرة‭ ‬الزائفة‭ ‬التي‭ ‬يركض‭ ‬خلفها‭ ‬الراكضون‭! ‬وأجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬خلاصة‭ ‬تلك‭ ‬الرحلة‭ ‬الطويلة‭ ‬أن‭ ‬تحترم‭ ‬ذاتك‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يحترمك‭ ‬الآخرون‭! ‬فالقصة‭ ‬كلها‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬تلك‭ ‬الذات‭ ‬في‭ ‬اشتباكاتها‭ ‬الوطنية‭ ‬والقومية‭ ‬والإنسانية‭ ‬الفكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬وحولها‭ ‬تدور‭ ‬قيمة‭ ‬التطوّر‭ ‬الحقيقي،‭ ‬ومنها‭ ‬تنبع‭ ‬المياه‭ ‬وهي‭ ‬تسير‭ ‬في‭ ‬مجراها‭ ‬نقيّة‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬زيف‭! ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الطريق‭ ‬حتماً‭ ‬لست‭ ‬وحدك‭!‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا