عالم يتغير
فوزية رشيد
كيف تضيع الأوطان؟!
{ كما لكل وطن خصائصه ومميزاته، من حيث الموقع والثروات والموارد والطبيعة، فكذلك لكل شعب سماته وخصوصياته وطبيعته الغالبة عليه، وربما هذا التشابك بين الوطن وشعبه، يتضح على خلفية مهمة أخرى، هي امتداده الحضاري والتاريخي، وخبراته في التكيّف مع تحديات الحياة والمخاطر والتهديدات، مما يجعل لكل شعب بصمة خاصة. ولعل أكثر الشعوب التي تشترك في التاريخ واللغة والدين والهوية الحضارية هي الشعوب العربية، بل هي استثناء في ذلك! ورغم التفاوتات في التاريخ العربي وتأثير حضاراته الكبرى كأقدم وأهم الحضارات التي أثرت على البشرية، وبنى الغرب تطوره ونموّه استناداً عليها، سواء العلوم القديمة في حضارات سومر وحضارة مصر القديمة، أو الحضارة الإسلامية التي حكمت العالم لأكثر من ألف عام، وكانت اللغة العربية هي لغة العلم في العالم! فما الذي حدث وأضعف أوطاننا هكذا؟! وكيف دخلت في التيه بعد مجد وعراقة تاريخ وحضارات؟!
{ بين ظواهر الاستلاب وأسئلة الهويّة وسرديات البحث عن الحرية والعدالة، وبين تحولات العالم مع ثورة التكنولوجيا، وتحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية، تقف الشعوب العربية اليوم على ذات التلّة وهي تشهد كيف يضيع وطن عربي بعد آخر! قد تكون سردية الضياع بدأت منذ الحروب الصليبية، ومنذ تحولها إلى استعمار غربي، وقد تكون الحكاية بدأت مع الضياع قبل ذلك، ومنذ سقوط الأندلس! وقد تكون السردية العربية تشوهت مع تشوّه الهويات الخائنة زمن الدولة العباسية من علاقمة فرس وأتراك! وقد تكون الرحلة نحو الانحدار وضعت أقدامها الأولى، حين تخلى العرب عن هويتهم وخصوصيتهم ولغتهم ودينهم ومجد حضاراتهم، وهو التخلي الذي أفرز نفسه أمام صعود الغرب وقيمه ورؤاه وعبثه بمصائر عربية عديدة من خلال فرض مخططاته وأجنداته، التي تعتمد دائماً على عوامل ضعف الداخل وغياب الوعي والخيانة!
{ كيف تضيع الأوطان؟! حتما هو سؤال يطرح التحدّي الحقيقي أمام أمّة كانت خير أمة على الأرض، فإذا هي اليوم كالقصعة التي يتكالب عليها الذئاب! ذئب ينهش من هنا وذئب يبتلع من هناك، فيما الأوطان العربية وطن بعد آخر تضيع، أو تتغير للأسوأ وهي تغرق في الفتن والأزمات!
هل أبناء هذه الأوطان تاهوا فيها وتعبوا منها، فتركوها لقمة سائغة، ولم يصدّوا عنها أبواب الخيانة والعمالة والارتزاق، الذين يأتون ويتناثرون كالفقاعات المسمومة، لينشروا سمومهم وأمراضهم وفسادهم على كل من يقترب منهم!
{ لا تضيع الأوطان إلا حين يكون من يقودها نخبة فاسدة، تتعامل مع الأوطان كمصنع تفريخ للأموال! وتتصرّف كما لو كانت البلاد مزرعة خاصة بها!.. تبيع على الناس الكلام ومعسوله، فيما واقع الحال دائر بين اختلاسات وسرقات وهدر للمال العام! فإذا جاء الطامعون من الخارج وجدوا النفوس مهيأة للخراب والدمار! أليس هكذا ضاع لبنان وضاع العراق وضاعت سوريا واليمن وليبيا إلخ.
{ لا تضيع الأوطان إلا حين يتخلّى أبناؤها عن وطنيتهم وعن وعيهم وعن إرادتهم، وقبلها يكونون قد تخلّوا عن خصوصيتهم وقيمهم ولغتهم وتاريخهم! حين يتم الارتحال في سفر التخلي عن هويّة الوطن وملامحه وعمقه، حينها يتخلى الوطن عن أبنائه وعن نفسه! لا يعود الوطن كما كان! لا يشبه نفسه! لا يلتحم مع ذاكرة شعبه الذي ترك تلك الذاكرة للضياع في الهواء، فضاع العمق، وضاعت الهويّة، وضاع الحاضر! الشعوب تصنع أوطانها والأوطان ترسم نفسها في قلوب أبنائها! أمام هؤلاء الذين يتخلّون عن أوطانهم حتماً هم ليسوا أبناءها! حتى وإن تناسلوا على أرضها!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك