العدد : ١٦٨٥١ - الأحد ١٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥١ - الأحد ١٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٤ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ورقة من دفتري القديم

كثيرا‭ ‬ما‭ ‬كتبت،‭ ‬فيما‭ ‬يشبه‭ ‬التباهي‭ ‬عن‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬قرأت‭ ‬كل‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬المتاح‭ ‬باللغة‭ ‬العربية،‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية،‭ (‬روايات‭ ‬كامل‭ ‬كيلاني‭ ‬وجورجي‭ ‬زيدان‭ ‬وغيرهما‭) ‬ثم‭ ‬روائع‭ ‬الأدب‭ ‬الروائي‭ ‬الإنجليزي‭ ‬في‭ ‬لغتها‭ ‬الأصلية‭ ‬ولكن‭ ‬المبسطة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أكمل‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬في‭ ‬التباهي‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬صار‭ ‬الناس‭ ‬يتباهون‭ ‬فيه‭ ‬بأرقام‭ ‬هواتفهم‭ ‬ولوحات‭ ‬سياراتهم،‭ ‬أو‭ ‬بكونهم‭ ‬اقتنوا‭ ‬آخر‭ ‬سي‭. ‬دي‭. ‬لكاظم‭ ‬الساهر‭ ‬أو‭ ‬العجرمية،‭ ‬واشتروا‭ ‬ساعات‭ ‬وأقلاما‭ ‬بآلاف‭ ‬الدولارات،‭ ‬ولي‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أفخر‭ ‬بأنني‭ ‬قرأت‭ ‬مئات‭ ‬الكتب‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬‮«‬اختراع‮»‬‭ ‬الكهرباء،‭ ‬وفي‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬الخلق‭ ‬فيه‭ ‬ينامون‭ ‬في‭ ‬الثامنة‭ ‬مساء،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬الناس‭ ‬يحاولون‭ ‬قهر‭ ‬الظلام‭ ‬بمصابيح‭ ‬تعمل‭ ‬بالجاز‭/ ‬الكاز‭ ‬الأبيض‭ (‬الكيروسين‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬وتستخدم‭ ‬العائلات‭ ‬البرجوازية‭ ‬مواقد‭ ‬تعمل‭ ‬بذلك‭ ‬الصنف‭ ‬من‭ ‬الوقود‭ ‬للطبخ،‭ ‬فتأتي‭ ‬رائحة‭ ‬الطعام‭ ‬مشبعة‭ ‬به‭.‬

وأدرك‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬وأنا‭ ‬أكتب‭ ‬خواطري‭ ‬أنني‭ ‬كالتاجر‭ ‬المفلس‭ ‬الذي‭ ‬يراجع‭ ‬دفاتره‭ ‬القديمة،‭ ‬ليتذكر‭ ‬زمان‭ ‬البحبوحة‭ ‬والنغنغة،‭ ‬فدفاتري‭ ‬القديمة‭ ‬فيها‭ ‬أشياء‭ ‬ترفع‭ ‬الراس‭ ‬وتملأ‭ ‬كذا‭ ‬‮«‬كرّاس‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬فإنني‭ ‬طوال‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية‭ ‬لم‭ ‬أفلح‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬الشهر،‭ ‬بل‭ ‬وأتى‭ ‬عليّ‭ ‬مؤخرا‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬لم‭ ‬أقرأ‭ ‬فيه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعة‭ ‬كتب‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬كاملة،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬لأنني‭ ‬عجرمي‭ ‬المزاج‭ ‬أو‭ ‬ميال‭ ‬للهو‭ ‬والصرمحة‭ ‬والصياعة‭. ‬بالعكس،‭ ‬تكمن‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬يتألف‭ ‬منه‭ ‬24‭ ‬ساعة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬‮«‬يكفي‮»‬،‭ ‬وأرجو‭ ‬من‭ ‬ساكن‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬الذي‭ ‬صار‭ ‬يحدد‭ ‬لنا‭ ‬ماذا‭ ‬نأكل‭ ‬ومتى‭ ‬نذهب‭ ‬إلى‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬قراراً‭ ‬يجعل‭ ‬اليوم‭ ‬42‭ ‬ساعة‭ ‬والأسبوع‭ ‬تسعة‭ ‬أيام،‭ (‬ويصبح‭ ‬اسمه‭ ‬التسوع‭) ‬تكون‭ ‬أربعة‭ ‬منها‭ ‬عطلا‭ ‬عامة‭.‬

شباب‭ ‬الزمن‭ ‬المعاصر‭ ‬لا‭ ‬يقرأون‭ ‬لأن‭ ‬لديهم‭ ‬مختلف‭ ‬أدوات‭ ‬اللهو‭ ‬البريء‭ ‬والملوث،‭ ‬لديهم‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬ممتعة‭ ‬مثل‭ ‬ألعاب‭ ‬الفيديو‭ ‬والكمبيوتر‭ ‬والانترنت،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬الأنترنت‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬كنوزاً‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬المعارف‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬مقام‭ ‬الكتاب،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬العيب‭ ‬الأساسي‭ ‬في‭ ‬الانترنت،‭ ‬حتى‭ ‬بالنسبة‭ ‬لمن‭ ‬يستخدمونه‭ ‬لأغراض‭ ‬ثقافية،‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يعطيك‭ ‬تناتيف‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬وتبحث‭ ‬عن‭ ‬مادة‭ ‬معينة‭ ‬وتكتشف‭ ‬أن‭ ‬أصحاب‭ ‬الموقع‭ ‬استدرجوك‭ ‬إلى‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬تريد‭.‬

قضيت‭ ‬الشطر‭ ‬الأعظم‭ ‬من‭ ‬فترة‭ ‬الصبا‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬ألعاب‭ ‬سوى‭ ‬النوع‭ ‬‮«‬الشعبي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تعصب‭ ‬فيه‭ ‬ولا‭ ‬تشنج،‭ ‬حتى‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معروفة‭ ‬خارج‭ ‬المدارس،‭ ‬وكنا‭ ‬نحسب‭ ‬أن‭ ‬ريال‭ ‬مدريد‭ ‬عملة‭ ‬إسبانية‭ ‬صعبة‭ ‬مثل‭ ‬الدولار‭ ‬والإسترليني،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬تلفزيون،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬موجودا‭ ‬لكان‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬بالفحم‭ ‬أو‭ ‬الحطب‭ ‬لانعدام‭ ‬الكهرباء،‭ ‬ويتسبب‭ ‬بالتالي‭ ‬في‭ ‬حرائق،‭ ‬وجهاز‭ ‬الراديو‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬البلدة‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬ناظر‭ ‬المدرسة،‭ ‬ثم‭ ‬اشترى‭ ‬العمدة‭ ‬جهازاً‭ ‬آخر،‭ ‬وعاد‭ ‬قريب‭ ‬لنا‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬الكبيرة‭ ‬حاملاً‭ ‬معه‭ ‬راديو،‭ ‬فصرنا‭ ‬نباهي‭ ‬به‭ ‬أبناء‭ ‬الأحياء‭ ‬الأخرى‭.‬

وحتى‭ ‬الراديو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعمل‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأمسيات‭ (‬أتحدث‭ ‬هنا‭ ‬عن‭ ‬الإذاعة‭ ‬السودانية‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬إرسالها‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬أربعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬مع‭ ‬التذكير‭ ‬بأنني‭ ‬أتحدث‭ ‬عن‭ ‬عمر‭ ‬الإذاعة‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بعمري‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬يوما‭ ‬الجمعة‭ ‬والأحد‭ ‬عطلة‭ ‬حتى‭ ‬بالنسبة‭ ‬للإذاعة،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬من‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬ما‭ ‬حييت‭ ‬ليلة‭ ‬إذاعة‭ ‬نتائج‭ ‬امتحانات‭ ‬الشهادة‭ ‬المتوسطة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تؤهل‭ ‬التلاميذ‭ ‬للالتحاق‭ ‬بالمدارس‭ ‬الثانوية‭.. ‬ونطق‭ ‬الراديو‭ ‬باسمي‭ ‬ضمن‭ ‬الناجحين،‭ ‬وظللت‭ ‬طوال‭ ‬أسبوع‭ ‬كمن‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬السحاب‭: ‬ذهول‭ ‬تام‭ ‬وإحساس‭ ‬عارم‭ ‬بـ«الأهمية‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬إحساساً‭ ‬متوهماً،‭ ‬لأن‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬من‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيين‭ ‬كانوا‭ ‬ينظرون‭ ‬إليّ‭ ‬وبقية‭ ‬من‭ ‬نجح‭ ‬معي‭ ‬ونطق‭ ‬الراديو‭ ‬بأسمائهم‭ ‬بإعجاب‭: ‬رفأتم‭ ‬رأسنا‭ ‬آليا‭.. ‬رفعتم‭ ‬رأسنا‭ ‬عاليا‭.. ‬وطفقت‭ ‬أفكر‭: ‬أي‭ ‬مهنة‭ ‬أختار؟‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء؟‭ ‬عمدة؟‭ ‬سائق‭ ‬شاحنة‭ ‬لوري؟‭ ‬لا‭ ‬تنسوا‭ ‬أن‭ ‬اللوري‭ ‬كان‭ ‬الأداة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬تربطنا‭ ‬بالقرن‭ ‬العشرين‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا