زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وصرت أنيقا إلى حد ما
تناولت بالأمس جانبا من ذكريات طفولتي وصباي (وليس شبابي لأنني والحمد لله في ريعان الشباب مع أنني لا أعرف المعنى الدقيق لكلمة «ريعان» لكن أهه أتكلم وأكتب بما وكما سمعت وقرأت)، وسأواصل اجترار تلك الذكريات لأستخلص منها العظات والعبر وعلى أمل أن القارئ سيجد فيها أيضا درسا من نوع أو آخر).
ولهذا اسمحوا لي أن أعود معكم وبكم إلى سني الدراسة الأولى حيث كان الزي المدرسي في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة يتألف من الجلباب (الجلابية) وعمامة قصيرة لا يتعدى طولها المتر الواحد (العمامة السودانية القياسية طولها 5 أمتار وهناك من يجعلونها عشرة أمتار، وشخص يحمل عبئاً كهذا على رأسه لابد أن يتحلى بقوة تحمَّل عالية). في المرحلة الابتدائية كان معظمنا يملك جلبابا واحدا، ومن باب ترشيد الإنفاق لم يكن يخضع للغسل إلا مرة في الأسبوع، والمعروف أن غسل الملابس مرارا يعجل باهتراء نسيجها وخيوطها، وملابس تُغسل مرة واحدة في الأسبوع على أجسام تغتسل مرة في الأسبوع في أفضل الأحوال، كانت بالضرورة مزارع لاحتضان وإنتاج القمل بكميات تجارية، ولكن التلاميذ كانوا يحرصون على المثول في الطابور الصباحي يوم السبت في مظهر جيد لأنهم كانوا يخضعون للتفتيش على أجسامهم للتأكد من نظافتها، وكان المدرسون يطالبوننا برفع جلابيبنا ليتقصوا حالة سراويلنا الداخلية، وعند صدور الأمر بـ«رفع» الجلابيب كان بعضنا يجهش بالبكاء لأنه نسي أن يرتدي سروالاً أو لا يملك سروالا أصلا، أو استيقظ صباحا ووجد سرواله الوحيد على الحبل مبتلا.
في المدرسة المتوسطة طرأ تحسن طفيف على مظهرنا، فلأننا كنا بعيدين عن «اللي خلفونا»، ونقيم في الأقسام الداخلية، فقد كان «من خلفونا» يزودوننا بملابس احتياطية، وكان الزي المدرسي أيضاً الجلباب والعمامة القصيرة، وكان لبس البنطلونات والشورتات «عيباً»، وإلى عهد قريب كان القرويون في السودان يعتبرون من يرتديها إما شاذا جنسيا، أو شبه منحرف، أما في المرحلة الثانوية فقد اضطررنا نحن القرويين من شمال السودان وأطراف البلاد الأخرى إلى ابتلاع كرامتنا وارتداء الشورت الذي يسمى في السودان (الرداء)، ولأن أهل العاصمة التي كانت المدرسة الثانوية قريبة جداً منها كانوا يرتدون مختلف الأزياء الإفرنجية فقد زالت عقدتنا وصرنا نجاريهم في القيافة والأناقة، وفي السنة الثانية من المرحلة الثانوية حدثت لي طفرة مازالت تشكل معلماً بارزا في مسيرة حياتي، (حدثتكم من قبل عن الطفرات التي مررت بها ومنها امتلاك حمار كنت أذهب به إلى المدرسة.. ثم كيف فزت بعلبة كرز في مسابقة مدرسية، وقررت الاحتفاظ بها حتى يتسنى لي لقاء شقيقي الأكبر الذي كان يعيش في المدينة، وعندما التقيت أخي بعد نحو عامين، وفتحنا العلبة ووجدناها ممتلئة بالديدان، بعد انتهاء صلاحيتها. ثم استخدمت التلفون لأول مرة وأنا في الصف الثاني الثانوي).
الطفرة الأخيرة تمثلت في أن والدي اشترى لي بنطلوناً أصفر، وكنت أقضي وقتاً طويلاً في كيه بمكواة الفحم، ولازمني هذا البنطلون اليتيم إلى أن وقعت عليه جمرة صغيرة من المكواة وأحدثت فيه ثقباً في مكان حساس، فكان لابد من التخلص منه، حيث زودني أهلي بعدة بنطلونات ذات ألوان هادئة.
ولو تركت الأمر لأهلي وأنا على أعتاب المرحلة الجامعية لما زودوني بأكثر من بنطلون واحد، ولكنني عملت خلال العطلة الصيفية التي سبقت التحاقي بالجامعة بدكان يتبع لشركة باتا الشهيرة لصنع الأحذية واشتريت ملابس من حر مالي، وكنت سعيداً بالبونص الذي منحته لي الشركة وهو حذاء جلدي برباط وكان هذا النوع من الأحذية يسمى وقتها (جزمة قزاز) لأن جلدها كان شديد اللمعان.
هل أتباهى بأنني كنت مبهدلاً؟ لا أتباهى ولكنني لا أحس بالخجل لكوني كنت كذلك. وكلما فتحت دولاب (خزانة ملابسي) واحترت في أي قميص أرتدي صحت مبتسما: الله يرحم. كنا فين وبقينا فين!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك