زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
طفولة سعيدة رغم كل شيء
أؤكد للمرة الألف بعد المائة أن طفولتي كانت سعيدة، ولكن كانت أبعد ما تكون عن الصورة المخملية للسعادة، فقد تخللها رعي غنم، وعقارب، وتماسيح، وقمل، و«أمشي يا ولد جيب ملح من بيت خالتك زينب»، ولكن بصراحة وبكل فخر لم أكن أعاني من القمل كثيراً لأن شعر رأسي كان يتعرض للجزّ الكامل على الزيرو كل يوم جمعة، وبما أنني من أسرة برجوازية، فقد كانوا يضعون على فروة رأسي بعد الحلاقة مباشرة آفتر شيف after shave لا يقلل من شأنه أنه كان صناعة محلية، فقد كان عبارة عن عجين مصنوع من دقيق الذرة بعد اختماره، وتخيل أن يكون لونك مثل لون أبي الجعافر (راجع الصورة أعلاه، مع الأخذ في الاعتبار أنها خضعت للمكياج الفوتوغرافي المسمى فوتوشوب) ويكون رأسك الأجرد مكسوّا بمادة شديدة البياض لنحو ثلاث ساعات! مشهد لو رأته واحدة من بنات آخر الزمان لصاحت: يمه.. وأسلمت الروح.. وصدقوني فإن العجين كان خير ضمادة للرأس، أخذاً في الاعتبار أن الأمواس التي كانوا يحلقون بها شعر الرأس كانت تعود في معظمها إلى العصر التركي العثماني الوسيط، فالموس الواحدة كانت تستخدم نحو مائة مرة، على رؤوس الأشهاد، وأعني بذلك رؤوس كل عيال العائلة وكل عواجيز العائلة، الذين كانوا أيضا يجزون ذقونهم بها بين الحين والآخر، وبالتالي لم تكن تلك الأمواس قادرة على جز الشعر من جذوره إلا بالحفر في فروة الرأس فتنزع أجزاء من الجلد وتُحدث ثقوباً بركانية لا تتوقف عن النزف إلا بعد تغطيتها بالعجين.
ولم يكن الاستحمام أقلّ قسوة من الحلاقة، فرغم أننا كنا نستحم مرة واحدة في الأسبوع، (في المتوسط) وبالتحديد أيام الجمعة، فقد كنا نتحايل ونتمارض كي نتجنب الاستحمام الذي كانت أدواته جردل (سطل) ماء، وطشتا (نفس الطشت المستخدم في غسل الملابس)، وصابونة مكعبة لا تصدر عنها رغوة إلا بعد فركها بالجلد نحو عشرين دقيقة، وطبعاً كنا نستحم بنفس الصابون المستخدم في غسل الملابس، وأواني الطبخ، وكان يحتوي على صودا كاوية تفل وتكوي الحديد، وعندما تتسرب إلى العين- «لا حول ولا قوة إلا بالله».. ولهذا السبب فإنني إلى يومنا هذا أغمض عيني بقوة كلما غسلت شعر رأسي، مستخدما شامبو الأطفال، بل في أحيان كثيرة أكتفي بغسله بالماء وحده، وكثيرا ماً أعجب عندما أرى أحد عيالي وهو في الثانية أو الثالثة يطالب بالاستحمام، ثم شيئاً فشيئا يستحم من دون أن يطالبه أحد بذلك! بل قد يستحمون عدة مرات في اليوم الواحد (عيال آخر زمن. عودهم هش).
أظن أن أمي كان تتولى «تحميمي» حتى بلغت العاشرة لأنني لم أكن أبادر فأستحم، والأنكى من ذلك أنها كانت تضع الطشت في وسط الحوش، وأقف أنا مثل الأهبل أرتجف وتدخل علينا جاراتنا ويتسامرن مع أمي وأنا أقف هناك بلا حياء أصرخ -ليس طلباً للستر- بل لأن الصابون تسلل إلى عينيّ. وكانت حياتنا في معظمها ضربا في ضرب.. في المدرسة يضربوننا لأقل هفوة، وفي الحي من حق كل من يكبرك سنّا أن يضربك إذا رأى أنك على خطأ.. يعني المجتمع كله كان يتآمر علينا ويتولى تأديبنا، ولعل هذا هو سر أن جيلنا يعرف «العيب» ويعرف قيمة الجار ويعرف معنى توقير الكبار. ولكن المدرسين كانوا البعبع الذي يخيفنا، فقد كان من الأمور المألوفة أن يلجأ الآباء والأمهات إلى المدرسين ليشكوا من أن الولد رفض رعي الغنم أو رمي حجر في بيت الجيران أو أرسلوه لشراء السكر فسَفَّ نصف الكمية.. ذات يوم أرسلتني أمي لشراء رطل سكر، فشرعت أسفّ منه حتى أدركت أن أمري سينكشف، فألقيت بنفسي في جدول ماء وعدت إلى البيت مبللا حزينا لأن السكر «ذاب في الماء»، ونجوت من العقوبة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك