العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

طفولة سعيدة رغم كل شيء

أؤكد‭ ‬للمرة‭ ‬الألف‭ ‬بعد‭ ‬المائة‭ ‬أن‭ ‬طفولتي‭ ‬كانت‭ ‬سعيدة،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬أبعد‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬عن‭ ‬الصورة‭ ‬المخملية‭ ‬للسعادة،‭ ‬فقد‭ ‬تخللها‭ ‬رعي‭ ‬غنم،‭ ‬وعقارب،‭ ‬وتماسيح،‭ ‬وقمل،‭ ‬و«أمشي‭ ‬يا‭ ‬ولد‭ ‬جيب‭ ‬ملح‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬خالتك‭ ‬زينب‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬بصراحة‭ ‬وبكل‭ ‬فخر‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬القمل‭ ‬كثيراً‭ ‬لأن‭ ‬شعر‭ ‬رأسي‭ ‬كان‭ ‬يتعرض‭ ‬للجزّ‭ ‬الكامل‭ ‬على‭ ‬الزيرو‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬جمعة،‭ ‬وبما‭ ‬أنني‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬برجوازية،‭ ‬فقد‭ ‬كانوا‭ ‬يضعون‭ ‬على‭ ‬فروة‭ ‬رأسي‭ ‬بعد‭ ‬الحلاقة‭ ‬مباشرة‭ ‬آفتر‭ ‬شيف after shave لا‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬صناعة‭ ‬محلية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬عجين‭ ‬مصنوع‭ ‬من‭ ‬دقيق‭ ‬الذرة‭ ‬بعد‭ ‬اختماره،‭ ‬وتخيل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لونك‭ ‬مثل‭ ‬لون‭ ‬أبي‭ ‬الجعافر‭ (‬راجع‭ ‬الصورة‭ ‬أعلاه،‭ ‬مع‭ ‬الأخذ‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أنها‭ ‬خضعت‭ ‬للمكياج‭ ‬الفوتوغرافي‭ ‬المسمى‭ ‬فوتوشوب‭) ‬ويكون‭ ‬رأسك‭ ‬الأجرد‭ ‬مكسوّا‭ ‬بمادة‭ ‬شديدة‭ ‬البياض‭ ‬لنحو‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات‭! ‬مشهد‭ ‬لو‭ ‬رأته‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬بنات‭ ‬آخر‭ ‬الزمان‭ ‬لصاحت‭: ‬يمه‭.. ‬وأسلمت‭ ‬الروح‭.. ‬وصدقوني‭ ‬فإن‭ ‬العجين‭ ‬كان‭ ‬خير‭ ‬ضمادة‭ ‬للرأس،‭ ‬أخذاً‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أن‭ ‬الأمواس‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يحلقون‭ ‬بها‭ ‬شعر‭ ‬الرأس‭ ‬كانت‭ ‬تعود‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬التركي‭ ‬العثماني‭ ‬الوسيط،‭ ‬فالموس‭ ‬الواحدة‭ ‬كانت‭ ‬تستخدم‭ ‬نحو‭ ‬مائة‭ ‬مرة،‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬الأشهاد،‭ ‬وأعني‭ ‬بذلك‭ ‬رؤوس‭ ‬كل‭ ‬عيال‭ ‬العائلة‭ ‬وكل‭ ‬عواجيز‭ ‬العائلة،‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬أيضا‭ ‬يجزون‭ ‬ذقونهم‭ ‬بها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬الأمواس‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬جز‭ ‬الشعر‭ ‬من‭ ‬جذوره‭ ‬إلا‭ ‬بالحفر‭ ‬في‭ ‬فروة‭ ‬الرأس‭ ‬فتنزع‭ ‬أجزاء‭ ‬من‭ ‬الجلد‭ ‬وتُحدث‭ ‬ثقوباً‭ ‬بركانية‭ ‬لا‭ ‬تتوقف‭ ‬عن‭ ‬النزف‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تغطيتها‭ ‬بالعجين‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الاستحمام‭ ‬أقلّ‭ ‬قسوة‭ ‬من‭ ‬الحلاقة،‭ ‬فرغم‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نستحم‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ (‬في‭ ‬المتوسط‭) ‬وبالتحديد‭ ‬أيام‭ ‬الجمعة،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نتحايل‭ ‬ونتمارض‭ ‬كي‭ ‬نتجنب‭ ‬الاستحمام‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬أدواته‭ ‬جردل‭ (‬سطل‭) ‬ماء،‭ ‬وطشتا‭ (‬نفس‭ ‬الطشت‭ ‬المستخدم‭ ‬في‭ ‬غسل‭ ‬الملابس‭)‬،‭ ‬وصابونة‭ ‬مكعبة‭ ‬لا‭ ‬تصدر‭ ‬عنها‭ ‬رغوة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬فركها‭ ‬بالجلد‭ ‬نحو‭ ‬عشرين‭ ‬دقيقة،‭ ‬وطبعاً‭ ‬كنا‭ ‬نستحم‭ ‬بنفس‭ ‬الصابون‭ ‬المستخدم‭ ‬في‭ ‬غسل‭ ‬الملابس،‭ ‬وأواني‭ ‬الطبخ،‭ ‬وكان‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬صودا‭ ‬كاوية‭ ‬تفل‭ ‬وتكوي‭ ‬الحديد،‭ ‬وعندما‭ ‬تتسرب‭ ‬إلى‭ ‬العين‭- ‬‮«‬لا‭ ‬حول‭ ‬ولا‭ ‬قوة‭ ‬إلا‭ ‬بالله‮»‬‭.. ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬فإنني‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬أغمض‭ ‬عيني‭ ‬بقوة‭ ‬كلما‭ ‬غسلت‭ ‬شعر‭ ‬رأسي،‭ ‬مستخدما‭ ‬شامبو‭ ‬الأطفال،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة‭ ‬أكتفي‭ ‬بغسله‭ ‬بالماء‭ ‬وحده،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ماً‭ ‬أعجب‭ ‬عندما‭ ‬أرى‭ ‬أحد‭ ‬عيالي‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬أو‭ ‬الثالثة‭ ‬يطالب‭ ‬بالاستحمام،‭ ‬ثم‭ ‬شيئاً‭ ‬فشيئا‭ ‬يستحم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطالبه‭ ‬أحد‭ ‬بذلك‭! ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يستحمون‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الواحد‭ (‬عيال‭ ‬آخر‭ ‬زمن‭. ‬عودهم‭ ‬هش‭).‬

أظن‭ ‬أن‭ ‬أمي‭ ‬كان‭ ‬تتولى‭ ‬‮«‬تحميمي‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬بلغت‭ ‬العاشرة‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أبادر‭ ‬فأستحم،‭ ‬والأنكى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تضع‭ ‬الطشت‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الحوش،‭ ‬وأقف‭ ‬أنا‭ ‬مثل‭ ‬الأهبل‭ ‬أرتجف‭ ‬وتدخل‭ ‬علينا‭ ‬جاراتنا‭ ‬ويتسامرن‭ ‬مع‭ ‬أمي‭ ‬وأنا‭ ‬أقف‭ ‬هناك‭ ‬بلا‭ ‬حياء‭ ‬أصرخ‭ -‬ليس‭ ‬طلباً‭ ‬للستر‭- ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬الصابون‭ ‬تسلل‭ ‬إلى‭ ‬عينيّ‭. ‬وكانت‭ ‬حياتنا‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬ضربا‭ ‬في‭ ‬ضرب‭.. ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬يضربوننا‭ ‬لأقل‭ ‬هفوة،‭ ‬وفي‭ ‬الحي‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يكبرك‭ ‬سنّا‭ ‬أن‭ ‬يضربك‭ ‬إذا‭ ‬رأى‭ ‬أنك‭ ‬على‭ ‬خطأ‭.. ‬يعني‭ ‬المجتمع‭ ‬كله‭ ‬كان‭ ‬يتآمر‭ ‬علينا‭ ‬ويتولى‭ ‬تأديبنا،‭ ‬ولعل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬سر‭ ‬أن‭ ‬جيلنا‭ ‬يعرف‭ ‬‮«‬العيب‮»‬‭ ‬ويعرف‭ ‬قيمة‭ ‬الجار‭ ‬ويعرف‭ ‬معنى‭ ‬توقير‭ ‬الكبار‭. ‬ولكن‭ ‬المدرسين‭ ‬كانوا‭ ‬البعبع‭ ‬الذي‭ ‬يخيفنا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬المألوفة‭ ‬أن‭ ‬يلجأ‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬إلى‭ ‬المدرسين‭ ‬ليشكوا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الولد‭ ‬رفض‭ ‬رعي‭ ‬الغنم‭ ‬أو‭ ‬رمي‭ ‬حجر‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬الجيران‭ ‬أو‭ ‬أرسلوه‭ ‬لشراء‭ ‬السكر‭ ‬فسَفَّ‭ ‬نصف‭ ‬الكمية‭.. ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬أرسلتني‭ ‬أمي‭ ‬لشراء‭ ‬رطل‭ ‬سكر،‭ ‬فشرعت‭ ‬أسفّ‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬أمري‭ ‬سينكشف،‭ ‬فألقيت‭ ‬بنفسي‭ ‬في‭ ‬جدول‭ ‬ماء‭ ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬مبللا‭ ‬حزينا‭ ‬لأن‭ ‬السكر‭ ‬‮«‬ذاب‭ ‬في‭ ‬الماء‮»‬،‭ ‬ونجوت‭ ‬من‭ ‬العقوبة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا