زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
شتان ما بين اللطافة والجلافة (2)
نبقى مع الجلافة في أسوأ تجلياتها، وهي التعامل مع الآخرين بمفردات أو إيماءات وقحة أو بذيئة، والمثال الكلاسيكي للجلافة الذي أوردته في مقالاتي عدة مرات هو أنك قد تصطدم غير عامد بشخص في ممر، فيبادرك بقوله: عميان أنت؟ ماذا لو كنت أعمى بالفعل وأجبت عليه بنعم؟ سيهمهم بكلام غير مفهوم وينصرف من دون أن يعتذر لك، وكأنه يعتبر العمى نقيصة وعيبا! وكثيرا ما تسمع عبارة من شخص خاطبك ولم ترد عليها لسبب أو لآخر: أنت أطرش؟ ماذا أيضا إذا كان ذلك الشخص يعاني من إعاقة في السمع والنطق؟ وانظر سلاطة اللسان عند نسائنا وقدرة بعضهن على الردح في الأماكن العامة: إنه نوع من العنف المهين أن تبادرك امرأة (سواء كنت أنت رجلا أو امرأة) بكلام جارح لأنك – مثلا – كنت ساهما ولم تسمعها وهي تطلب منك ان تفسح لها الطريق في سوق أو مرفق عام، وهناك نساء يستغللن أن مجتمعاتنا تعامل المرأة باحترام (نسبي) على الأقل في الأماكن العامة فتنفجر في وجهك – إذا كنت رجلا – تقف أمام محصل النقود في متجر بكلام يراد منه أن تجعلها تسبقك وتسبق غيرك في دفع قيمة مشترياتها: استحي على وجهك وافسح الطريق للحريم! وتخيل أنك قابلت جلافتها بالمثل وقلت: بس وين الحريم؟ ستنفتح حنفية تصب عليك كلاما ملوثا يجعلك تتمنى لو لم يتزوج أبوك بأمك!!
وانظر حال فلان وعلان من الوجهاء وكبار الشخصيات الذين تلتقي بهم في مجالس الأنس أو الاجتماعات الرسمية، فتراهم في منتهى التهذيب.. ألفاظهم منتقاة: تفضل.. نقطة نظام لو سمحت.. احترم وجهة نظرك بس اعتقد.. (وهناك العبارة البلهاء «من دون مقاطعة/ من دون قطع كلامك» كيف تعلن أنك لا تود قطع حديثي وانت قد قطعته و... انتهيت).. ثم تذكر يوم زرته في مكتبه وكيف كان يستدعي الموظفين فيدخلون عليه ويلقون التحية فلا يرد عليها حتى بأسوأ منها.. ثم يصيح في بعضهم: ما هذا الكلام الفارغ؟ لمتى (الى متى) سيظل مخك زلط؟ ويدخل عليه بعض المواطنين من ذوي الحاجات فيقول لبعضهم إنه ليس «فاضي» (مع أنه جالس معك يتحدث عن نتيجة مباراة كرة أو فيلم خليع قام بتنزيله من موقع «بورنوغرافي» مؤخرا).. ثم يأتي مواطنون – أيضا ذوي حاجات – ولكنهم يبادرونه بأنهم «من طرف فلان»، فيهش للقائهم وينادي على كتيبة من موظفيه ويأمرهم بقضاء تلك الحاجات «الحين»! وينادي كتيبة من العمال: هاتوا شاي وقهوة ونسكافيه وعصير، وأقصد بهذا المثال أن أقول إن هناك من يمثل دور الشخص المهذب في ظروف معينة ويرجع إلى أصله الجلف الوقح عندما يتعامل مع من يحسبهم دونه مكانة اجتماعية او وظيفية. وهناك من تزوره في بيته وتلاحظ ان مخاطبته لزوجته وعياله تتسم بالرقة: الله يخليك يا أم فلان، سوي لنا شاي.. مريود وسعدية روحوا العبوا في غرفتكم وبعدين نروح نتفسح سوا، وفور خروجك من بيته يصيح الثور: يا أم زفت أنت، شيلي أواعي الشاي من هنا.. ويأتي دور العيال: يا عجول تاني ما أشوفكم قدام وجهي.
لا يجوز التعامل بانتقائية في أمور التهذيب ومكارم الأخلاق وحسن الأدب، والمهذب حقيقة لا يميز بين كبير وصغير وقريب وغريب وفقير وهامور، والأناقة والوجاهة وانتقاء العبارات في مجالس معينة لا تجعل منك شخصا مهذبا إذا كنت من النوع الذي يمر بشارع يلعب فيه صغار وفلتت منهم كرة واصطدمت بثيابك الكشخة فصحت فيهم: يا أولاد ال- - - -! ما عندكم أهل يربونكم؟ حكمت على صغار أبرياء بسوء التربية لأن كرة طاشت من بين أرجلهم بينما كنت الليلة الماضية تلقي خطبة عصماء تبرر بها كيف أضاع لاعب فريق تشجعه ضربتي جزاء! صدقوني لو كنت أملك ثروة لكان اول ما أفعله هو الاستعانة بسائق والجلوس جواره واضعا عصابة سوداء على عيني كي لا أرى جسامة قلة الذوق والجلافة لدى معظم سائقي السيارات في شوارع مدننا. والمشاة الذين يحسبون أنهم معصومون من الإصابة والموت.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك