في رحلة العودة قبل أسابيع، كانت الطائرة تمضي في خط طويل يرهق حتى الكبار، فكيف بمن هم أصغر سنًا. جلست خلف أسرة أجنبية يرافقها طفل بدا في حدود العاشرة، يكرر جملة قصيرة بصوت متتابع، ويرفرف بيديه ويضرب أصابعه على مسند المقعد.
في البداية خطر في بالي أنه بحاجة فقط إلى التهدئة، فالرحلة طويلة ومتعبة. لكن أثناء تجولي في الممرات لمحت همسًا بين الوالدين وهدوءًا لا يشبه اللامبالاة بقدر ما يشبه المعرفة المسبقة بما يمر به ابنهما.
عندها فهمت أنني أمام طفل لديه اضطراب في النمو العصبي، من تلك الحالات التي تظهر في شكل حركات أو أصوات لا يستطيع الطفل السيطرة عليها مهما حاول. لحظة صغيرة لكنها كافية لنفهم السلوك بدلا من أن نحكم عليه.
فالطفل ذو الاضطراب غير الظاهر يعلق دائما بين صورتين، يبدو طبيعيا للآخرين، ثم يُحاسب على سلوك لا يختاره. نراه كمصدر للإزعاج، بينما هو في الحقيقة يحاول احتمال محيط يفوق قدرته الحسية.
وربما الكثير من التصرفات التي نراها في الأماكن العامة -الحركة الزائدة، المقاطعة، صعوبة الجلوس- تتجاوز إطار التربية. هي إشارات على اختلاف في استقبال الأصوات والضوء والازدحام. عالم داخلي محتدم لا ينتبه إليه أحد.
وتتضاعف صعوبة الموقف على الأسر؛ فهي تعيش مع طفلها تفاصيل اضطرابه يوميا، ثم تجد نفسها في الأماكن العامة تشرح أو تبرر ما لا يحتاج إلى تبرير أو محاكمة أصلا. محاولة التهدئة قد تزيد توتر الطفل أكثر مما تخففه.
لا تختلف الحكايات كثيرا عن بعضها. العديد من الأمهات يترددن في اصطحاب أطفالهن إلى الأماكن العامة، لأن النظرات التي تسبق الفهم قد تربكهن أكثر مما تربك الطفل نفسه. إحدى الأمهات أخبرتني إن أكثر ما يرهقها هو شعورها بأنها مراقَبة ومنتقده، لكون الناس يتململون من صوت متكرر أو حركة مفاجئة، وهي تنزعج من انزعاجهم، بينما يحاول طفلها فقط أن يهدأ وسط ضوء قوي أو أصوات لا يحتملها. وفي مثل هذه اللحظات، يصبح ما تحتاج إليه الأسر واضحا، بيئة لا تزيد حساسية الطفل تعقيدا، ومساحة صغيرة من التفهّم تخفف عنهم عبئا يوميا لا يراه كثيرون.
في البحرين، ولله الحمد، تتقدم جهود دمج الطلبة ذوي الاحتياجات التعليمية المختلفة، ويبقى الطريق ممتداً أمامنا «كدولة ومجتمع» لتوسيع نطاق الدعم والفهم للاضطرابات الخفية كالتوحد وفرط الحركة واضطرابات المعالجة الحسية؛ فالتجارب الدولية تشير إلى أن المجتمعات التي تجعل مسار هذه الفئات أسهل تصبح أكثر قدرة على تحقيق العدالة والاندماج.
وفي نماذج تعليمية مطبّقة اليوم، تُعامل هذه الاضطرابات باعتبارها احتياجات تعليمية مختلفة تتطلب تهيئة بسيطة في البيئة المحيطة، لا تعديلات جذرية. الإطار القانوني يضع الأسس العامة، لكن ما يساعد الطفل حقا، وما يخفف عن أسرته هو أن يفهم من حوله معنى الحساسية الحسية أو صعوبة الانتظار أو تشتت الانتباه.
هنا تتجسّد حقوق الطفل في تفاصيل يومه؛ في الصف الذي يراعي سرعته الخاصة، في المكان الذي يطمئنه، في التواصل من دون خوف من الأحكام المسبقة. وما تحتاج إليه الأسر في الواقع أبسط مما نتصور بصراحة، مساحة تسمح لهم بالوجود كما هم، من دون تبرير أو حرج، ولحظة تفهّم واحدة قد تكفي لتهدئة قلب أم أو تخفيف توتر أب.
وما بين نظرة عابرة وسلوك لا نفهمه، توجد فرصة لبناء محيط أهدأ لمن يحتاج إليه. فالوعي الذي يتشكل من التفاصيل اليومية وحده هو القادر على جعل الطريق أقل تعقيدا لمن يعيشون هذه الاضطرابات في صمت.
rajabnabeela@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك