العدد : ١٧٤٤٢ - الأربعاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٤٢ - الأربعاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

وراء السـلـوك الــمــربـك.. طـفل يواجـه عـالمـا لا نراه

بقلم: نبيلة رجب

الأربعاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬رحلة‭ ‬العودة‭ ‬قبل‭ ‬أسابيع،‭ ‬كانت‭ ‬الطائرة‭ ‬تمضي‭ ‬في‭ ‬خط‭ ‬طويل‭ ‬يرهق‭ ‬حتى‭ ‬الكبار،‭ ‬فكيف‭ ‬بمن‭ ‬هم‭ ‬أصغر‭ ‬سنًا‭. ‬جلست‭ ‬خلف‭ ‬أسرة‭ ‬أجنبية‭ ‬يرافقها‭ ‬طفل‭ ‬بدا‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬العاشرة،‭ ‬يكرر‭ ‬جملة‭ ‬قصيرة‭ ‬بصوت‭ ‬متتابع،‭ ‬ويرفرف‭ ‬بيديه‭ ‬ويضرب‭ ‬أصابعه‭ ‬على‭ ‬مسند‭ ‬المقعد‭.‬

في‭ ‬البداية‭ ‬خطر‭ ‬في‭ ‬بالي‭ ‬أنه‭ ‬بحاجة‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬التهدئة،‭ ‬فالرحلة‭ ‬طويلة‭ ‬ومتعبة‭. ‬لكن‭ ‬أثناء‭ ‬تجولي‭ ‬في‭ ‬الممرات‭ ‬لمحت‭ ‬همسًا‭ ‬بين‭ ‬الوالدين‭ ‬وهدوءًا‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬اللامبالاة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬المعرفة‭ ‬المسبقة‭ ‬بما‭ ‬يمر‭ ‬به‭ ‬ابنهما‭.‬

عندها‭ ‬فهمت‭ ‬أنني‭ ‬أمام‭ ‬طفل‭ ‬لديه‭ ‬اضطراب‭ ‬في‭ ‬النمو‭ ‬العصبي،‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬حركات‭ ‬أو‭ ‬أصوات‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الطفل‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭ ‬مهما‭ ‬حاول‭. ‬لحظة‭ ‬صغيرة‭ ‬لكنها‭ ‬كافية‭ ‬لنفهم‭ ‬السلوك‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬نحكم‭ ‬عليه‭.‬

فالطفل‭ ‬ذو‭ ‬الاضطراب‭ ‬غير‭ ‬الظاهر‭ ‬يعلق‭ ‬دائما‭ ‬بين‭ ‬صورتين،‭ ‬يبدو‭ ‬طبيعيا‭ ‬للآخرين،‭ ‬ثم‭ ‬يُحاسب‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬لا‭ ‬يختاره‭. ‬نراه‭ ‬كمصدر‭ ‬للإزعاج،‭ ‬بينما‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬يحاول‭ ‬احتمال‭ ‬محيط‭ ‬يفوق‭ ‬قدرته‭ ‬الحسية‭.‬

وربما‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التصرفات‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ -‬الحركة‭ ‬الزائدة،‭ ‬المقاطعة،‭ ‬صعوبة‭ ‬الجلوس‭- ‬تتجاوز‭ ‬إطار‭ ‬التربية‭. ‬هي‭ ‬إشارات‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬في‭ ‬استقبال‭ ‬الأصوات‭ ‬والضوء‭ ‬والازدحام‭. ‬عالم‭ ‬داخلي‭ ‬محتدم‭ ‬لا‭ ‬ينتبه‭ ‬إليه‭ ‬أحد‭.‬

وتتضاعف‭ ‬صعوبة‭ ‬الموقف‭ ‬على‭ ‬الأسر؛‭ ‬فهي‭ ‬تعيش‭ ‬مع‭ ‬طفلها‭ ‬تفاصيل‭ ‬اضطرابه‭ ‬يوميا،‭ ‬ثم‭ ‬تجد‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة‭ ‬تشرح‭ ‬أو‭ ‬تبرر‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تبرير‭ ‬أو‭ ‬محاكمة‭ ‬أصلا‭. ‬محاولة‭ ‬التهدئة‭ ‬قد‭ ‬تزيد‭ ‬توتر‭ ‬الطفل‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تخففه‭.‬

لا‭ ‬تختلف‭ ‬الحكايات‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬بعضها‭. ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمهات‭ ‬يترددن‭ ‬في‭ ‬اصطحاب‭ ‬أطفالهن‭ ‬إلى‭ ‬الأماكن‭ ‬العامة،‭ ‬لأن‭ ‬النظرات‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬الفهم‭ ‬قد‭ ‬تربكهن‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تربك‭ ‬الطفل‭ ‬نفسه‭. ‬إحدى‭ ‬الأمهات‭ ‬أخبرتني‭ ‬إن‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يرهقها‭ ‬هو‭ ‬شعورها‭ ‬بأنها‭ ‬مراقَبة‭ ‬ومنتقده،‭ ‬لكون‭ ‬الناس‭ ‬يتململون‭ ‬من‭ ‬صوت‭ ‬متكرر‭ ‬أو‭ ‬حركة‭ ‬مفاجئة،‭ ‬وهي‭ ‬تنزعج‭ ‬من‭ ‬انزعاجهم،‭ ‬بينما‭ ‬يحاول‭ ‬طفلها‭ ‬فقط‭ ‬أن‭ ‬يهدأ‭ ‬وسط‭ ‬ضوء‭ ‬قوي‭ ‬أو‭ ‬أصوات‭ ‬لا‭ ‬يحتملها‭. ‬وفي‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات،‭ ‬يصبح‭ ‬ما‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬الأسر‭ ‬واضحا،‭ ‬بيئة‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬حساسية‭ ‬الطفل‭ ‬تعقيدا،‭ ‬ومساحة‭ ‬صغيرة‭ ‬من‭ ‬التفهّم‭ ‬تخفف‭ ‬عنهم‭ ‬عبئا‭ ‬يوميا‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬كثيرون‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬ولله‭ ‬الحمد،‭ ‬تتقدم‭ ‬جهود‭ ‬دمج‭ ‬الطلبة‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬التعليمية‭ ‬المختلفة،‭ ‬ويبقى‭ ‬الطريق‭ ‬ممتداً‭ ‬أمامنا‭ ‬‮«‬كدولة‭ ‬ومجتمع‮»‬‭ ‬لتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬الدعم‭ ‬والفهم‭ ‬للاضطرابات‭ ‬الخفية‭ ‬كالتوحد‭ ‬وفرط‭ ‬الحركة‭ ‬واضطرابات‭ ‬المعالجة‭ ‬الحسية؛‭ ‬فالتجارب‭ ‬الدولية‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تجعل‭ ‬مسار‭ ‬هذه‭ ‬الفئات‭ ‬أسهل‭ ‬تصبح‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة‭ ‬والاندماج‭.‬

وفي‭ ‬نماذج‭ ‬تعليمية‭ ‬مطبّقة‭ ‬اليوم،‭ ‬تُعامل‭ ‬هذه‭ ‬الاضطرابات‭ ‬باعتبارها‭ ‬احتياجات‭ ‬تعليمية‭ ‬مختلفة‭ ‬تتطلب‭ ‬تهيئة‭ ‬بسيطة‭ ‬في‭ ‬البيئة‭ ‬المحيطة،‭ ‬لا‭ ‬تعديلات‭ ‬جذرية‭. ‬الإطار‭ ‬القانوني‭ ‬يضع‭ ‬الأسس‭ ‬العامة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يساعد‭ ‬الطفل‭ ‬حقا،‭ ‬وما‭ ‬يخفف‭ ‬عن‭ ‬أسرته‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يفهم‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬معنى‭ ‬الحساسية‭ ‬الحسية‭ ‬أو‭ ‬صعوبة‭ ‬الانتظار‭ ‬أو‭ ‬تشتت‭ ‬الانتباه‭.‬

هنا‭ ‬تتجسّد‭ ‬حقوق‭ ‬الطفل‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬يومه؛‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الذي‭ ‬يراعي‭ ‬سرعته‭ ‬الخاصة،‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يطمئنه،‭ ‬في‭ ‬التواصل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬الأحكام‭ ‬المسبقة‭. ‬وما‭ ‬تحتاج‭ ‬إليه‭ ‬الأسر‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬أبسط‭ ‬مما‭ ‬نتصور‭ ‬بصراحة،‭ ‬مساحة‭ ‬تسمح‭ ‬لهم‭ ‬بالوجود‭ ‬كما‭ ‬هم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تبرير‭ ‬أو‭ ‬حرج،‭ ‬ولحظة‭ ‬تفهّم‭ ‬واحدة‭ ‬قد‭ ‬تكفي‭ ‬لتهدئة‭ ‬قلب‭ ‬أم‭ ‬أو‭ ‬تخفيف‭ ‬توتر‭ ‬أب‭.‬

وما‭ ‬بين‭ ‬نظرة‭ ‬عابرة‭ ‬وسلوك‭ ‬لا‭ ‬نفهمه،‭ ‬توجد‭ ‬فرصة‭ ‬لبناء‭ ‬محيط‭ ‬أهدأ‭ ‬لمن‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭. ‬فالوعي‭ ‬الذي‭ ‬يتشكل‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬اليومية‭ ‬وحده‭ ‬هو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬الطريق‭ ‬أقل‭ ‬تعقيدا‭ ‬لمن‭ ‬يعيشون‭ ‬هذه‭ ‬الاضطرابات‭ ‬في‭ ‬صمت‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا