لا تخلو «برادة» ومحل لبيع الأغذية والأطعمة صغيرة كانت أم كبيرة في أي مدينة أو قرية نائية حول العالم من الأطعمة والمواد الغذائية المعلبة، والمثلجة، والجاهزة للأكل. وكل هذه المواد الغذائية تثور وتدور حولها منذ عقود طويلة من الزمن الشكوك الصحية لتعريضها للبشر جميعاً لأمراض وأسقام مزمنة يصعب علاجها.
فمشكلة هذه الوجبات الجاهزة والأطعمة المعلبة تكمن في أنها تحتوي على الآلاف من المضافات الكيميائية الصناعية السرية والخفية التي لا يعرف أي أحدٍ عن هويتها ونوعيتها وتركيبها الكيميائي وخصائصها البيولوجية، ومدى ملاءمتها وسلامتها لاستهلاك الإنسان. فهناك المئات من المواد الملونة، والكثير من المضافات التي تعطي نكهة طيبة للطعام، ومذاقا وطعما حلوا، وهناك المواد التي تُحسِّن من هيئة ومظهر المادة الغذائية لكي تكون شهية المنظر، وأكثر جاذبية للمستهلك، وأشد قبولاً ورغبة في شرائها وأكلها، إضافة إلى المواد الكيميائية التي تحفظ الغذاء من التلف، والعفن، والميكروبات الضارة، فتطيل من عمرها سنوات عديدة.
ونظراً إلى واقعية المردودات الصحية التي يصاب بها البشر في كل أرجاء العالم، وبخاصة الأطفال من تناول هذه الوجبات والأطعمة المعالجة صناعياً بطرق وأساليب كثيرة، ومنها السكري من النوع الثاني، والبدانة، وأمراض القلب، فقد زادت الأبحاث والدراسات العلمية التي تُحذر من الإفراط في تناولها وأكلها، وأطلقَ عليها العلماء مصطلحاً عاماً هو «الأطعمة فائقة المعالجة» (ultraprocessed foods)، أو الأطعمة المعالجة صناعياً.
ولذلك خصصت مجلة طبية دولية عريقة هي «اللانست»
(The Lancet) عدداً خاصاً صدر في 18 نوفمبر 2025 تحت عنوان: «الأطعمة المعالجة صناعياً: حان الوقت لوضع الصحة قبل الربح». ويتناول هذا العدد من المجلة جميع الجوانب المتعلقة بهذه الظاهرة الصحية الدولية المشتركة والمتمثلة في الأطعمة المعالجة صناعياً، أو الأطعمة المعدلة والتي تضاف إليها مواد كيميائية الكثير منها مجهولة الهوية. كما نَشرتْ المجلة المرموقة سلسلة شاملة وجامعة من ثلاث دراسات في العدد نفسه، وشارك فيها خبراء من 43 دولة في مجال التغذية، والصحة العامة، والبيئة، والقانون والسياسة، وبدعمٍ من منظمات أممية معنية بهذه القضية الجامعة والمشتركة، منها صندوق الأمم المتحدة للطفولة، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة، ومنظمة الصحة العالمية.
أما الدراسة الأولى التي نُشرت في العدد الخاص من المجلة، فقد جاءت تحت عنوان: «الأطعمة المعالجة صناعياً وصحة الإنسان: الأطروحة الرئيسة والأدلة»، حيث عرضت الجانب المتعلق بصحة وسلامة الإنسان، والأمراض التي يتعرض لها عند الإفراط ولسنوات طويلة في استهلاك الأغذية والأطعمة المعالجة صناعياً. وأما الدراسة الثانية وعنوانها: «السياسات لوقف وعكس نمو إنتاج، وتسويق، واستهلاك الأطعمة المعالجة صناعياً»، والثالثة «نحو جهود دولية مشتركة ضد الأطعمة المعالجة صناعياً»، فتقدمان وتقترحان أن تكون هناك جهود دولية مشتركة ترسم وتحدد السياسات العامة التي يجب أن تتبعها المنظمات الأممية ذات العلاقة، وحكومات الدول لكيفية التصدي لهذه الظاهرة الصحية الدولية المنتشرة في كل الدول من دون استثناء، بحيث تتم مواجهة كل مراحل هذه الأطعمة، بدءاً بتصنيعها وإنتاجها، ثم تسويقها واستهلاكها.
وبعد الاطلاع على كل هذه الدراسات، أُقدم لكم أهم الاستنتاجات التي تمخضت عنها، كما يلي:
أولاً: هناك ارتفاع مطرد مشهود على المستوى الدولي للأمراض غير المعدية المرتبطة بغذاء الإنسان ونوعية المأكولات والأطعمة التي يستهلكها يومياً منذ طفولته وحتى يكبر، مما يعني أهمية توفير واستهلاك وتناول الغذاء الصحي نوعياً وكمياً للإنسان طوال سنوات حياته حتى يتجنب كل الأمراض المتعلقة بها.
ثانياً: تؤكد الدراسات أن أسباب انتشار وتفاقم ظاهرة تناول الأغذية المعالجة صناعياً في كل أنحاء العالم هي أن الأغذية المعلبة والأطعمة الجاهزة أصبحت متوافرة وبكل سهولة في كل ركنٍ بعيد أو قريب في الأرض، وفي القرى النائية والبعيدة، أو المدن الحضرية الكبيرة، فهي سهلة المنال، ورخيصة الثمن، وطيبة المأكل والمظهر والشكل، ولا تحتاج إلى ساعات طويلة، وجهود كبيرة للإعداد والطهي والتحضير، ولذلك فالإقدام على استهلاكها في نمو دائم في كل أنحاء العالم. وقد أكدت التقارير الرسمية أن مبيعات هذه الأطعمة على المستوى الدولي قد زادت من 1.5 تريليون دولار في عام 2009 إلى 1.9 في عام 2023. وفي المقابل نجد أن الأغذية الصحية، كالخضروات، والفواكه، والوجبات المنزلية تكون عادة في بعض القرى والمدن غير متوافرة، وغالية الثمن، ومن الصعب الحصول عليها، وتحتاج إلى جهد ووقت كبيرين، ولذلك ينخفض مستوى الإقبال عليها وتناولها يومياً.
ثالثاً: أشارت الدراسات إلى أن هناك علاقة سببية وقوية بين الإسراف في تناول الأغذية المعلبة والمعالجة صناعياً فترات طويلة من الزمن، والإصابة ببعض الأمراض المزمنة، مثل البدانة والوزن المفرط، والسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب.
رابعاً: كشفت الدراسات إلى وجود جماعات ضغط قوية ومتنفذة تدافع عن شركات الأطعمة الجاهزة والمعلبة، وتُلمع من صورتها وسمعتها، وتُحسن من جودتها، وتشكك في الأدلة التي تثبت تأثيرها في الأمن الصحي للإنسان. كما أن جنود هذه الشركات من المرتزقة متغلغلون في الوزارات الحكومية المعنية بهدف توجيه قرارات الحكومات، وتغيير سياساتها نحو تخفيف الأنظمة والتشريعات المتعلقة بهذا النوع من الأطعمة. فهذه الشركات العملاقة تتبع سُنن من قَبْلهم من شركات التبغ والسجائر شبراً بشبر، وذراعاً بذراع فتتبنى استراتيجيات وخطط شركات التدخين القديمة منذ القرن المنصرم لكي تُروج هذه البضاعة الفاسدة صحياً، وتسوق لها عند جميع الفئات العمرية وبأساليب حديثة تجذب الناس وتغريهم وتحثهم على تناولها وتجربة مذاقها وطعمها فتؤدي بهم إلى الإدمان عليها.
خامساً: أكدت الدراسات أن قضية الوجبات والأطعمة المعالجة صناعياً دولية، ولذلك لا بد أن يكون حلها دولياً، ولا بد من تضافر دول وعلماء العالم وجميع المهتمين للحد من تفاقم هذه الظاهرة العالمية، بحيث توضع حلول مشتركة تتعامل مع كل مراحل هذه الأطعمة من مرحلة التصنيع والإنتاج والتحكم في محتوى المُنتج الغذائي والعلامات التحذيرية والتوضيحية التي توضع على المنتج إلى مرحلة التسويق والبيع، وأخيراً تنبيه المستهلك إلى خطورة تناول مثل هذه الأطعمة.
ismail.almadany@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك