في عام 1997 وضعت مع أخي الأستاذ نزار معروف كتاب (الدليل العربي الشامل لشبكة الإنترنت) نعرِّف فيه بشبكة الإنترنت وما فيها من موارد ومنافع ونشجع الكل للدخول وللاستفادة من خدمات تلك الطفرة التقنية الحديثة آنذاك.
أما اليوم، فنحن نعيش مرحلة مختلفة من تاريخ الإنترنت، مرحلة لم تعد فيها الشبكة مجرد مساحة نستخدمها عند الحاجة، بل بيئة نعيش داخلها ونترك فيها آثارنا أينما ذهبنا. في السابق كان الحديث يدور حول إنترنت الأشياء، حيث تتصل الأجهزة ببعضها وتبادل البيانات بصمت. أما اليوم، فنحن أمام تحوّل أعمق وأكثر حساسية، يمكن تسميته بإنترنت الأشخاص، حيث لم تعد الأجهزة هي محور الاتصال، بل الإنسان نفسه.
في إنترنت الأشخاص، يصبح الفرد جزءاً عضوياً من الشبكة، لا بوصفه مستخدماً فقط، بل كمصدر دائم للبيانات. كل صورة نلتقطها، كل تعليق نكتبه، كل إعجاب نضغط عليه، وحتى اللحظات التي نتردد فيها قبل التفاعل، تتحول إلى إشارات رقمية تُقرأ وتُحلل وتُخزَّن. الإنسان هنا لا يحمل هاتفاً متصلاً بالإنترنت فحسب، بل يتحول هو ذاته إلى عقدة فاعلة داخل شبكة عالمية معقدة.
قد يبدو هذا التحول إيجابيا في ظاهره، وهو كذلك في جوانب كثيرة. فقد أصبح التواصل أسهل، والعزلة أقل حدة، والفرص أكثر اتساعاً. نرى أشخاصاً عاديين يصنعون تأثيراً واسعاً، ومبادرات إنسانية تنطلق من تغريدة، أو حملة تبرعات تبدأ بفيديو عفوي. في هذا السياق، يبدو إنترنت الأشخاص كأنه مساحة ديمقراطية تمنح الجميع صوتاً وحضوراً، وتكسر احتكار المعلومة والتأثير.
لكن هذا الوجه المضيء يخفي وراءه واقعاً أكثر تعقيداً. فحين يصبح الإنسان مصدراً للبيانات على مدار الساعة، تتحول الخصوصية من حق بديهي إلى مفهوم قابل للتآكل. المشكلة لم تعد في مشاركة المعلومة في حد ذاتها، بل في تراكم التفاصيل الصغيرة التي، عند جمعها، ترسم صورة دقيقة جداً عن حياة الفرد، عاداته، ميوله، مخاوفه، وحتى لحظات ضعفه. ما نعتبره مشاركة عابرة قد يكون، في نظر أنظمة التحليل، مادة خامة لتنبؤات وقرارات تؤثر في حياتنا من دون علمنا.
في أحد الأمثلة الواقعية، فوجئ شاب بإعلانات وظيفية تُعرض عليه وكأنها تعرف مساره المهني قبل أن يحدده بنفسه. لم يكن الأمر سحراً، بل نتيجة تحليل تفاعلاته واهتماماته على مدى سنوات. وفي مثال آخر، اكتشفت أسرة أن صور أطفالها المتداولة على حساب خاص أصبحت جزءاً من قواعد بيانات تُستخدم لأغراض لا علاقة لها بالعائلة ولا بنيتها ولا قيمها. هنا يتضح أن إنترنت الأشخاص لا ينسى، ولا يفرّق دائماً بين الخاص والعام.
من الزاوية الأمنية، يصبح المشهد أكثر حساسية. الهجمات الرقمية لم تعد تعتمد فقط على ثغرات تقنية، بل على فهم الإنسان نفسه. المحتال لم يعد بحاجة إلى كسر كلمة مرور معقدة، يكفيه أن يعرف اهتماماتك، وأسلوب لغتك، ودائرة علاقاتك. رسالة واحدة مصاغة بذكاء قد تبدو حقيقية إلى حد يصعب الشك فيه، لأنها مبنية على بيانات أنت من قدّمها بنفسك على مدى سنوات.
الأخطر من ذلك أن إنترنت الأشخاص يخلق وهماً بالسيطرة. نعتقد أننا نختار ما نُظهره وما نخفيه، بينما الواقع أن الخوارزميات قادرة على استنتاج الكثير مما لم نقله صراحة. التوقف عند منشور معين، التفاعل المتكرر مع نوع محدد من المحتوى، أو حتى الصمت في مواقف معينة، كلها إشارات تُقرأ وتُفسَّر. الإنسان هنا لا يُراقَب لأنه قال، بل لأنه فكّر وتردد وانجذب.
المسؤولية في هذا المشهد لا تقع على عاتق الأفراد وحدهم، ولا على الشركات التقنية فقط. هي مسؤولية مشتركة تتطلب تشريعات أكثر وعياً، وشركات أكثر شفافية، وأفراداً أكثر إدراكاً لطبيعة العصر الذي يعيشونه. لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها أن الفرد يظل الحلقة الأضعف، لأنه يتعامل مع الشبكة بصفته إنساناً، لا نظاماً أمنياً.
إنترنت الأشخاص ليس مستقبلاً قادماً، بل واقعاً نعيشه كل يوم. السؤال لم يعد: هل نشارك أم لا؟ بل كيف نشارك من دون أن نفقد ذواتنا؟ كيف نكون حاضرين رقمياً دون أن نتحول إلى ملفات تعريف تُدار وتُستغل؟ في زمن أصبح فيه الإنسان هو المحتوى، والبيانات هي اللغة، ربما يكون الوعي هو خط الدفاع الأخير. وعي بسيط، يبدأ بسؤال واحد قبل كل مشاركة: هل ما أنشره اليوم، سأكون راضيا عنه بعد سنوات؟

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك