العدد : ١٧٤٤٢ - الأربعاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٤٢ - الأربعاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

من إنترنت الأشياء إلى إنترنت الأشخاص!

بقلم: د. صلاح البنجاسم

الأربعاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬عام‭ ‬1997‭ ‬وضعت‭ ‬مع‭ ‬أخي‭ ‬الأستاذ‭ ‬نزار‭ ‬معروف‭ ‬كتاب‭ (‬الدليل‭ ‬العربي‭ ‬الشامل‭ ‬لشبكة‭ ‬الإنترنت‭) ‬نعرِّف‭ ‬فيه‭ ‬بشبكة‭ ‬الإنترنت‭ ‬وما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬موارد‭ ‬ومنافع‭ ‬ونشجع‭ ‬الكل‭ ‬للدخول‭ ‬وللاستفادة‭ ‬من‭ ‬خدمات‭ ‬تلك‭ ‬الطفرة‭ ‬التقنية‭ ‬الحديثة‭ ‬آنذاك‭.‬

أما‭ ‬اليوم،‭ ‬فنحن‭ ‬نعيش‭ ‬مرحلة‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنترنت،‭ ‬مرحلة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬فيها‭ ‬الشبكة‭ ‬مجرد‭ ‬مساحة‭ ‬نستخدمها‭ ‬عند‭ ‬الحاجة،‭ ‬بل‭ ‬بيئة‭ ‬نعيش‭ ‬داخلها‭ ‬ونترك‭ ‬فيها‭ ‬آثارنا‭ ‬أينما‭ ‬ذهبنا‭. ‬في‭ ‬السابق‭ ‬كان‭ ‬الحديث‭ ‬يدور‭ ‬حول‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشياء،‭ ‬حيث‭ ‬تتصل‭ ‬الأجهزة‭ ‬ببعضها‭ ‬وتبادل‭ ‬البيانات‭ ‬بصمت‭. ‬أما‭ ‬اليوم،‭ ‬فنحن‭ ‬أمام‭ ‬تحوّل‭ ‬أعمق‭ ‬وأكثر‭ ‬حساسية،‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بإنترنت‭ ‬الأشخاص،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الأجهزة‭ ‬هي‭ ‬محور‭ ‬الاتصال،‭ ‬بل‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭.‬

في‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشخاص،‭ ‬يصبح‭ ‬الفرد‭ ‬جزءاً‭ ‬عضوياً‭ ‬من‭ ‬الشبكة،‭ ‬لا‭ ‬بوصفه‭ ‬مستخدماً‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬كمصدر‭ ‬دائم‭ ‬للبيانات‭. ‬كل‭ ‬صورة‭ ‬نلتقطها،‭ ‬كل‭ ‬تعليق‭ ‬نكتبه،‭ ‬كل‭ ‬إعجاب‭ ‬نضغط‭ ‬عليه،‭ ‬وحتى‭ ‬اللحظات‭ ‬التي‭ ‬نتردد‭ ‬فيها‭ ‬قبل‭ ‬التفاعل،‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬إشارات‭ ‬رقمية‭ ‬تُقرأ‭ ‬وتُحلل‭ ‬وتُخزَّن‭. ‬الإنسان‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يحمل‭ ‬هاتفاً‭ ‬متصلاً‭ ‬بالإنترنت‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يتحول‭ ‬هو‭ ‬ذاته‭ ‬إلى‭ ‬عقدة‭ ‬فاعلة‭ ‬داخل‭ ‬شبكة‭ ‬عالمية‭ ‬معقدة‭.‬

قد‭ ‬يبدو‭ ‬هذا‭ ‬التحول‭ ‬إيجابيا‭ ‬في‭ ‬ظاهره،‭ ‬وهو‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬جوانب‭ ‬كثيرة‭. ‬فقد‭ ‬أصبح‭ ‬التواصل‭ ‬أسهل،‭ ‬والعزلة‭ ‬أقل‭ ‬حدة،‭ ‬والفرص‭ ‬أكثر‭ ‬اتساعاً‭. ‬نرى‭ ‬أشخاصاً‭ ‬عاديين‭ ‬يصنعون‭ ‬تأثيراً‭ ‬واسعاً،‭ ‬ومبادرات‭ ‬إنسانية‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬تغريدة،‭ ‬أو‭ ‬حملة‭ ‬تبرعات‭ ‬تبدأ‭ ‬بفيديو‭ ‬عفوي‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬يبدو‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشخاص‭ ‬كأنه‭ ‬مساحة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬تمنح‭ ‬الجميع‭ ‬صوتاً‭ ‬وحضوراً،‭ ‬وتكسر‭ ‬احتكار‭ ‬المعلومة‭ ‬والتأثير‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬المضيء‭ ‬يخفي‭ ‬وراءه‭ ‬واقعاً‭ ‬أكثر‭ ‬تعقيداً‭. ‬فحين‭ ‬يصبح‭ ‬الإنسان‭ ‬مصدراً‭ ‬للبيانات‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة،‭ ‬تتحول‭ ‬الخصوصية‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬بديهي‭ ‬إلى‭ ‬مفهوم‭ ‬قابل‭ ‬للتآكل‭. ‬المشكلة‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬في‭ ‬مشاركة‭ ‬المعلومة‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاتها،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬تراكم‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي،‭ ‬عند‭ ‬جمعها،‭ ‬ترسم‭ ‬صورة‭ ‬دقيقة‭ ‬جداً‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬الفرد،‭ ‬عاداته،‭ ‬ميوله،‭ ‬مخاوفه،‭ ‬وحتى‭ ‬لحظات‭ ‬ضعفه‭. ‬ما‭ ‬نعتبره‭ ‬مشاركة‭ ‬عابرة‭ ‬قد‭ ‬يكون،‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬أنظمة‭ ‬التحليل،‭ ‬مادة‭ ‬خامة‭ ‬لتنبؤات‭ ‬وقرارات‭ ‬تؤثر‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬علمنا‭.‬

في‭ ‬أحد‭ ‬الأمثلة‭ ‬الواقعية،‭ ‬فوجئ‭ ‬شاب‭ ‬بإعلانات‭ ‬وظيفية‭ ‬تُعرض‭ ‬عليه‭ ‬وكأنها‭ ‬تعرف‭ ‬مساره‭ ‬المهني‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يحدده‭ ‬بنفسه‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬سحراً،‭ ‬بل‭ ‬نتيجة‭ ‬تحليل‭ ‬تفاعلاته‭ ‬واهتماماته‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭. ‬وفي‭ ‬مثال‭ ‬آخر،‭ ‬اكتشفت‭ ‬أسرة‭ ‬أن‭ ‬صور‭ ‬أطفالها‭ ‬المتداولة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬خاص‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬قواعد‭ ‬بيانات‭ ‬تُستخدم‭ ‬لأغراض‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالعائلة‭ ‬ولا‭ ‬بنيتها‭ ‬ولا‭ ‬قيمها‭. ‬هنا‭ ‬يتضح‭ ‬أن‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشخاص‭ ‬لا‭ ‬ينسى،‭ ‬ولا‭ ‬يفرّق‭ ‬دائماً‭ ‬بين‭ ‬الخاص‭ ‬والعام‭.‬

من‭ ‬الزاوية‭ ‬الأمنية،‭ ‬يصبح‭ ‬المشهد‭ ‬أكثر‭ ‬حساسية‭. ‬الهجمات‭ ‬الرقمية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تعتمد‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬ثغرات‭ ‬تقنية،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭. ‬المحتال‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬كسر‭ ‬كلمة‭ ‬مرور‭ ‬معقدة،‭ ‬يكفيه‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬اهتماماتك،‭ ‬وأسلوب‭ ‬لغتك،‭ ‬ودائرة‭ ‬علاقاتك‭. ‬رسالة‭ ‬واحدة‭ ‬مصاغة‭ ‬بذكاء‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬حقيقية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬يصعب‭ ‬الشك‭ ‬فيه،‭ ‬لأنها‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬بيانات‭ ‬أنت‭ ‬من‭ ‬قدّمها‭ ‬بنفسك‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭.‬

الأخطر‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬إنترنت‭ ‬الأشخاص‭ ‬يخلق‭ ‬وهماً‭ ‬بالسيطرة‭. ‬نعتقد‭ ‬أننا‭ ‬نختار‭ ‬ما‭ ‬نُظهره‭ ‬وما‭ ‬نخفيه،‭ ‬بينما‭ ‬الواقع‭ ‬أن‭ ‬الخوارزميات‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬استنتاج‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬لم‭ ‬نقله‭ ‬صراحة‭. ‬التوقف‭ ‬عند‭ ‬منشور‭ ‬معين،‭ ‬التفاعل‭ ‬المتكرر‭ ‬مع‭ ‬نوع‭ ‬محدد‭ ‬من‭ ‬المحتوى،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬الصمت‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬معينة،‭ ‬كلها‭ ‬إشارات‭ ‬تُقرأ‭ ‬وتُفسَّر‭. ‬الإنسان‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يُراقَب‭ ‬لأنه‭ ‬قال،‭ ‬بل‭ ‬لأنه‭ ‬فكّر‭ ‬وتردد‭ ‬وانجذب‭.‬

المسؤولية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المشهد‭ ‬لا‭ ‬تقع‭ ‬على‭ ‬عاتق‭ ‬الأفراد‭ ‬وحدهم،‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬الشركات‭ ‬التقنية‭ ‬فقط‭. ‬هي‭ ‬مسؤولية‭ ‬مشتركة‭ ‬تتطلب‭ ‬تشريعات‭ ‬أكثر‭ ‬وعياً،‭ ‬وشركات‭ ‬أكثر‭ ‬شفافية،‭ ‬وأفراداً‭ ‬أكثر‭ ‬إدراكاً‭ ‬لطبيعة‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬يعيشونه‭. ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاوزها‭ ‬أن‭ ‬الفرد‭ ‬يظل‭ ‬الحلقة‭ ‬الأضعف،‭ ‬لأنه‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الشبكة‭ ‬بصفته‭ ‬إنساناً،‭ ‬لا‭ ‬نظاماً‭ ‬أمنياً‭.‬

إنترنت‭ ‬الأشخاص‭ ‬ليس‭ ‬مستقبلاً‭ ‬قادماً،‭ ‬بل‭ ‬واقعاً‭ ‬نعيشه‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬السؤال‭ ‬لم‭ ‬يعد‭: ‬هل‭ ‬نشارك‭ ‬أم‭ ‬لا؟‭ ‬بل‭ ‬كيف‭ ‬نشارك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نفقد‭ ‬ذواتنا؟‭ ‬كيف‭ ‬نكون‭ ‬حاضرين‭ ‬رقمياً‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نتحول‭ ‬إلى‭ ‬ملفات‭ ‬تعريف‭ ‬تُدار‭ ‬وتُستغل؟‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬أصبح‭ ‬فيه‭ ‬الإنسان‭ ‬هو‭ ‬المحتوى،‭ ‬والبيانات‭ ‬هي‭ ‬اللغة،‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬الوعي‭ ‬هو‭ ‬خط‭ ‬الدفاع‭ ‬الأخير‭. ‬وعي‭ ‬بسيط،‭ ‬يبدأ‭ ‬بسؤال‭ ‬واحد‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬مشاركة‭: ‬هل‭ ‬ما‭ ‬أنشره‭ ‬اليوم،‭ ‬سأكون‭ ‬راضيا‭ ‬عنه‭ ‬بعد‭ ‬سنوات؟

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا