في الأسبوع الماضي، كنتُ في مسقط رأسي، يوتيكا، بولاية نيويورك، لإلقاء كلمة رئيسية في فعاليةٍ أقيمت في مبنى البلدية احتفالًا بعيد استقلال لبنان. كان يومًا للاحتفاء بمساهمات اللبنانيين الأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية، ومناسبة لتذكيرنا بما قدمته أمريكا، بكرمها وضيافتها، لموجات المهاجرين المتنوعين، الذين أسهموا بدورهم في بناء هذا البلد.
منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى العقود الأولى من القرن العشرين، تدفقت موجاتٌ من المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية من بلاد الشام، حيث تشير البيانات المتاحة إلى وصول ما يقرب من ربع مليون سوري - لبناني على مدى أربعة عقود.
لقد تباينت أسباب هجرة هؤلاء اللبنانيين والسوريين؛ فقد قدموا في مرحلة أولى بحثاً عن فرص اقتصادية، ثم تسببت المجاعة التي فرضتها كلٌّ من الإمبراطورية العثمانية والحلفاء على جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى بعد ذلك في هجرتهم.
وخلال سنوات الحرب مات حوالي نصف سكان جبل لبنان جوعًا أو مرضًا. بعد أن حطت الحرب أوزارها، غادر الكثير ممن استطاعوا ذلك، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وجهتهم المفضلة، للانضمام إلى عائلاتهم أو أصدقائهم الذين هاجروا سابقًا.
وفي فترة العشرينيات من القرن الماضي، دفع تصاعد ردود الفعل المعادية للأجانب ضد بعض المهاجرين الكونغرس الأمريكي إلى تقييد أو إلغاء التأشيرات لبعض الفئات، من بينها السوريون واللبنانيون، حيث إنه لم تُصدر أي تأشيرات أمريكية جديدة مدة 30 عامًا تقريبًا.
استغل المهاجرون السوريون اللبنانيون الفرص التي أتاحها لهم وطنهم الجديد -الولايات المتحدة الأمريكية- فوفقوا في حياتهم، وهو ما مكنهم من القيام بدعم عائلاتهم وتنمية عمالهم.
كانت قصة عائلتي جزءًا من ذلك التاريخ المتعدد الفصول؛ فقد غادر حبيب، شقيق والدي الأكبر، لبنان عام 1910 وهو في الرابعة عشرة من عمره، كان هدفه تمهيد الطريق للآخرين ليتبعوه، لكن الحرب والمجاعة حالتا دون ذلك.
لقد هرب أفراد عائلتي من المجاعة والخراب، ولجأوا إلى سهل البقاع حتى انتهت الحرب وعادوا إلى قريتهم، وقد استغرق ذلك الأمر سنوات ليتمكنوا من الانضمام إلى شقيق والدي، حبيب، وفي عام 1921 التحقوا جميعا بعمي في الولايات المتحدة الأمريكية باستثناء والدي الذي لم يتمكن من ذلك.
وبسبب القيود المفروضة على التأشيرة السورية حرص والدي على اللحاق بعائلته في الولايات المتحدة الأمريكية، فحصل على وظيفة ورحلة إلى كندا. وبعد وصوله إلى هناك تمكن من عبور الحدود بشكل غير قانوني إلى الولايات المتحدة، ووصل إلى يوتيكا، نيويورك، حيث التقى بوالدته وإخوته عام 1923.
وعلى غرار الكثيرين ممن تبعوهم من المهاجرين اللبنانيين وغيرهم من المهاجرين من العالم العربي، فقد انطلق والدي وإخوته وأخواته في رحلة النجاح في وطنهم الجديد. وعند وفاتهم كانوا قد أسسوا سبعة مشاريع تجارية، بينما أطلق أبناؤهم وأحفادهم المزيد من المشاريع أو أصبحوا موظفين في شتى المجالات.
تزايد عدد الجالية السورية اللبنانية في يوتيكا ليتجاوز 6% من سكان المدينة، ولعبت دورًا مهما في جميع جوانب المجتمع. في فترة شبابي، كان كل شارع يضم متجرًا صغيرًا يملكه أفراد من أبناء عرقي، كما بنوا ثلاث كنائس، وانتُخبوا لمناصب عامة، وتفوقوا في التعليم والقانون والسياسة والطب.
من المبهج أن نرى هذا النمط من المهاجرين الناطقين بالعربية الباحثين عن فرصٍ، وبناء النجاح في أمريكا يستمر مع المهاجرين الجدد إلى يوتيكا من الدول العربية: فلسطينيون ويمنيون وعراقيون وغيرهم. ورغم النكسات والعثرات، لا تزال هذه القصة مُلهمة.
قدم والدي إلى الولايات المتحدة الأمريكية بدون وثائق في عشرينيات القرن الماضي، وحصل على عفو في ثلاثينيات القرن الماضي، وأصبح مواطنًا أمريكيًا مُجنّسًا عام 1943. لا تزال وثيقة تجنسه مُعلّقة على جدار مكتبي أسفل المخطوطة الرئاسية للرئيس أوباما التي تُعلن تعييني ممثلًا له في لجنة الحريات الدينية الدولية، وقد أطلقت على هذا الحائط اسم «جدار يحكي قصتي الأمريكية».
قبل قرن من الزمان، كتب جبران خليل جبران «رسالة إلى الشباب الأمريكيين من أصل سوري»، يُذكّر فيها قراءه بالقيم التي جلبوها معهم من أوطانهم الأصلية، وبالإمكانات المتاحة في وطنهم الجديد.
وفي نهاية الرسالة، يحث جبران قراءه «على الوقوف أمام أبراج نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرانسيسكو قائلين في قلوبكم: أنا سليل شعب بنى دمشق وجبيل وصور وصيدا وأنطاكية، وأنا هنا لأبني معكم».
هذا ما فعلناه بالضبط. إنها قصة المهاجرين، التي تتكرر يوميًا، من خلال موجات مختلفة من المهاجرين في مدن مختلفة في جميع أنحاء البلاد. هذا ما يجعل أمريكا عظيمة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك