هناك كتب لا تُقرأ بقدر ما تُكتشف، وكتب تبقى رغم مرور السنوات لأنها تحمل جوهر فكرة تتجاوز زمنها. وكتاب «الضوء الأول» واحد من تلك الأعمال التي تعود إليها الأوطان كلما أرادت أن تقرأ نفسها بصدق. لم أبحث عنه لملء فراغ معرفي، وإنما رغبة في فهم الأساس الذي نمت عليه البحرين الحديثة. جاءت البداية من لقاء مع إعلامي قدير، لم يكن يرشدني إلى عنوان بقدر ما كان يفتح داخلي سؤالاً: كيف نعود إلى النصوص التي شكلت وعينا الأول؟ ومن بين ما ذكر، كان «الضوء الأول» حاضراً كأنه لم يفارق موقعه في الذاكرة.
كان يتحدث عن الكتاب بثقة لافتة، يسترجع معانيه وتأثيره، ثم قال عبارة بقيت عالقة في ذهني «هذا ليس كتاباً عادياً… هذا جزء من ذاكرة البحرين، ومن يريد فهم الحاضر عليه أن يعود إلى ضوئه الأول» شعرت عندها أن عليّ أن أقرأه. عدت إلى منزلي وبحثت عن نسخة منه حتى وجدته منشوراً على موقع قوة دفاع البحرين. بدأت القراءة، ومع كل صفحة كنت أقترب أكثر من البحرين كما لم أعرفها من قبل. كان النص يحمل روحاً واضحة، ويعرض التاريخ بعمق يلامس القلب قبل العقل.
كتب جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه «الضوء الأول» عام 1986 في فترة كانت فيها البحرين ترسم ملامح الدولة الحديثة. تناول تاريخها وجذورها وصمودها وهويتها ووحدتها، وقدّم رؤية قائد يريد لوطنه أن ينهض بوعي ومسؤولية. الأسلوب يجمع بين دقة المؤرخ وبصيرة رجل الدولة، في لغة تجمع الوضوح والعمق من دون تعقيد.
واللافت أن هذا العمل قدّم روح الحوكمة قبل أن تُعرف بمصطلحاتها الحديثة. تظهر الشفافية والمسؤولية وسيادة القانون في كل فصل، ويتجلى حضور المؤسسات كركيزة وطنية، مع رؤية متقدمة تستوعب التحولات، وفهم مبكر لأهمية المجتمع ودوره في الشراكة الوطنية. وهذا ما يجعل الكتاب وثيقة فكرية سبقت عصرها، ووضعت أساساً ينير الكثير مما تحقق لاحقاً في مسار الإصلاح.
ولا يعرض «الضوء الأول» التاريخ كوقائع منفصلة، وإنما كتجربة وطنية ممتدة تربط الماضي بالحاضر. من دخول الإسلام من دون قتال، إلى مواجهة الغزاة، إلى تأسيس قوة الدفاع وبناء مؤسسات الدولة. ومع كل فصل، تتضح ملامح رؤية قيادية واعية تمهد لتطورات شهدناها في العقود اللاحقة. كان الكتاب يروي البحرين كما عاشت، لا كما تُروى عادة في الكتب.
وخلال القراءة، كان الإحساس يتجاوز المتابعة العادية؛ شعرت أنني أعايش جزءا من مسيرة هذا الوطن، كأن الصفحات تنقل ثبات البحرين وإيمانها ووضوح طريقها. عندها أدركت أن هذا العمل يجب أن يصل إلى الأجيال الجديدة. كثيرون لم يطّلعوا عليه بعد، وكثيرون يحتاجون إلى هذا النوع من الوعي لربط تاريخ البحرين بحاضرها وفهم وجهتها للمستقبل.
ومع اقتراب الأعياد الوطنية، يتجدد شعور الانتماء لدى البحرينيين، ويبدو الوقت مناسباً لإحياء هذا النص وإعادته إلى الواجهة. مسؤوليتنا اليوم ليست في الاحتفاء بالكتاب فقط، وإنما في توظيفه ليكون أداة لغرس مفاهيم الانتماء وتعميق الهوية الوطنية في نفوس الشباب. «الضوء الأول» قادر على أن يفتح أمامهم فهماً أوسع للبحرين، ويعزز ارتباطهم بها، ويقوي قدرتهم على التفكير التصميمي واستشراف المستقبل وصياغة حلول تعكس طموحاتهم وطموحات وطنهم.
ومن هذا المنطلق، أتوجه إلى المجلس الأعلى للشباب والرياضة باقتراح مبادرة تعيد «الضوء الأول» إلى الواجهة بأسلوب يليق بروح العصر: ندوات شبابية، نسخة تفاعلية، محتوى بصري حديث، أو معرض متنقل يحول فصول الكتاب إلى تجربة تُعاش. فالنص الذي كُتب في زمن مبكر يستحق أن يعود ليضيء وعي جيل كامل، ويمنحه القدرة على فهم وطنه بطريقة أعمق.
النور الذي أشرق قبل عقود هو ما نحتاج أن يتجذر في وعي الأجيال القادمة، كمرجع يعمّق فهمهم للبحرين وهويتها ومسارها. فهذا النور هو ما يحفظ الطريق واضحاً، والمعنى حاضراً، والانتماء ثابتاً في كل مرحلة من مراحل الوطن.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك