لم أدرك حين غيّبك الموت أن الزمن قادر أن يمضي بلا اكتراث. كنتُ أظنّ أن العالم سيتوقف قليلًا احترامًا لقلبي الذي انكسر، لكن الحياة – بعنادها المألوف – واصلت طريقها، وتركتني أتعثر. سنة كاملة وأنا أحاول فهم كيف اختفى صوتك فجأة، وكيف صرتُ أتعامل مع الأيام، بصباحاتها، ومساءاتها التي تأتي من دون ملامحك بيننا.
على امتداد هذه السنة، كنتُ أرتّب حزني جيدًا قبل خروجي من غرفتي. كنت أرتدي ابتسامتي أمام الناس، وألبس التماسك كشال يحميني، وداخلي يصرخ منهاراً في هدوءٍ لا يسمعه أحد. لم أرد أن أثقل على من حولي، ولا أن أضع حزني على طاولة الأيام، فهناك ما يكفي عليها.
ومع كل محاولة للمضيّ، كانت التفاصيل الصغيرة تعيدك إليّ: لحظة فرح كنتُ سأهرع إليك بها، أو مأزق خانق كنت سأشاركه معك، واثقة بأن كلماتك ستعيد ترتيب العالم من حولي.
نبرة صوتك يا أبي…
الهادئة، الواثقة، المطمئنة، الحنونة، الصبورة، الكريمة، نبرة صوتك يا أبي كانت تتسلل بين ساعاتي ولحظاتي، كما يتسلل الهواء عبر الشقوق، لا يرى ولكنه يهزني، تاركاً في القلب رجفة تعرف طريقها إلى مدمعي.
وأنا طفلة كنت أظن أن كل الآباء يشبهونك، أن كل أب يجعل ابنته تشعر كأنها أهم إنسانة في هذا الكون. كبرت وأدركت كم كنت مميزاً يا أبي في كل شيء. تعطي بلا حساب، تحضر بلا شروط، وتضعنا في مقدمة كل مسؤولياتك مهما ازدحم يومك.
يا أبي…
معظم ذكريات طفولتنا محفوظة في صور وفيديوهات حرصت على أخذها بكاميرتك الضخمة الثقيلة التي كنت تحملها على ظهرك. واليوم هذه الذكريات التي لا تقدر بثمن هي واحة نلجأ إليها لنعيش، ولو للحظات قليلة، ذكريات وجودك بيننا. ولكن الجزء المؤلم أننا لا نملك صورا كثيرة لك، لأنك كنت دائما وراء الكاميرا.
أتذكر يا أبي فعاليات المدرسة من المسرحيات وحفلات توزيع الجوائز، وأنا واقفة وراء الكواليس، سماع صوتك وأنت تسعل خفيفاً، تلك الإشارة التي كنت أعرف بها أنك وصلت، جالساً في الصف الأول، بابتسامتك العفوية، التي انتظرها لتثبت ثقتي وخطواتي قبل دخولي إلى المنصة.
أحاول اليوم أن أتعامل مع غيابك كجزءٍ من وجودي، قد يتخفى الحزن احياناً، لكنه لا يغادر، وربما لا ينبغي له ان يغادر، فالذين نحبهم لا يرحلون من وجودنا، يتركون أثراً يشبه الندبة، واضحة بما يكفي للتذكر، وهادئة بما يكفي لكي نستمر.
وهكذا بعد سنة طويلة، تعلمت أن الفقد ليس نهاية بقدر ما هو تحول، وان الحب –حين يغيب صاحبه عن العين والوصال- لا ينطفئ، بل يعود أكثر ترسخاً وعمقاً…
ذكراك يا أبي لا تغيب عن البال، وأدعو لك في كل سجود، أن يرحمك الله برحمته الواسعة وأن يجعل قبرك روضةً من رياض الجنة، وأن يجمعني بك في الفردوس الأعلى.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك