العدد : ١٧٤١٣ - الثلاثاء ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤١٣ - الثلاثاء ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

مقالات

في رثائك يا أبي...

بقلم: مشاعل فاروق المؤيد

الثلاثاء ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٥ - 02:00

لم‭ ‬أدرك‭ ‬حين‭ ‬غيّبك‭ ‬الموت‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬قادر‭ ‬أن‭ ‬يمضي‭ ‬بلا‭ ‬اكتراث‭. ‬كنتُ‭ ‬أظنّ‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬سيتوقف‭ ‬قليلًا‭ ‬احترامًا‭ ‬لقلبي‭ ‬الذي‭ ‬انكسر،‭ ‬لكن‭ ‬الحياة‭ ‬‭ ‬بعنادها‭ ‬المألوف‭ ‬‭ ‬واصلت‭ ‬طريقها،‭ ‬وتركتني‭ ‬أتعثر‭. ‬سنة‭ ‬كاملة‭ ‬وأنا‭ ‬أحاول‭ ‬فهم‭ ‬كيف‭ ‬اختفى‭ ‬صوتك‭ ‬فجأة،‭ ‬وكيف‭ ‬صرتُ‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأيام،‭ ‬بصباحاتها،‭ ‬ومساءاتها‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ملامحك‭ ‬بيننا‭.‬

على‭ ‬امتداد‭ ‬هذه‭ ‬السنة،‭ ‬كنتُ‭ ‬أرتّب‭ ‬حزني‭ ‬جيدًا‭ ‬قبل‭ ‬خروجي‭ ‬من‭ ‬غرفتي‭. ‬كنت‭ ‬أرتدي‭ ‬ابتسامتي‭ ‬أمام‭ ‬الناس،‭ ‬وألبس‭ ‬التماسك‭ ‬كشال‭ ‬يحميني،‭ ‬وداخلي‭ ‬يصرخ‭ ‬منهاراً‭ ‬في‭ ‬هدوءٍ‭ ‬لا‭ ‬يسمعه‭ ‬أحد‭. ‬لم‭ ‬أرد‭ ‬أن‭ ‬أثقل‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬حولي،‭ ‬ولا‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬حزني‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬الأيام،‭ ‬فهناك‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬عليها‭.‬

ومع‭ ‬كل‭ ‬محاولة‭ ‬للمضيّ،‭ ‬كانت‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬تعيدك‭ ‬إليّ‭: ‬لحظة‭ ‬فرح‭ ‬كنتُ‭ ‬سأهرع‭ ‬إليك‭ ‬بها،‭ ‬أو‭ ‬مأزق‭ ‬خانق‭ ‬كنت‭ ‬سأشاركه‭ ‬معك،‭ ‬واثقة‭ ‬بأن‭ ‬كلماتك‭ ‬ستعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬حولي‭.‬

نبرة‭ ‬صوتك‭ ‬يا‭ ‬أبي‮…‬

الهادئة،‭ ‬الواثقة،‭ ‬المطمئنة،‭ ‬الحنونة،‭ ‬الصبورة،‭ ‬الكريمة،‭ ‬نبرة‭ ‬صوتك‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬كانت‭ ‬تتسلل‭ ‬بين‭ ‬ساعاتي‭ ‬ولحظاتي،‭ ‬كما‭ ‬يتسلل‭ ‬الهواء‭ ‬عبر‭ ‬الشقوق،‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬ولكنه‭ ‬يهزني،‭ ‬تاركاً‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬رجفة‭ ‬تعرف‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬مدمعي‭. ‬

وأنا‭ ‬طفلة‭ ‬كنت‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الآباء‭ ‬يشبهونك،‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬أب‭ ‬يجعل‭ ‬ابنته‭ ‬تشعر‭ ‬كأنها‭ ‬أهم‭ ‬إنسانة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكون‭. ‬كبرت‭ ‬وأدركت‭ ‬كم‭ ‬كنت‭ ‬مميزاً‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭. ‬تعطي‭ ‬بلا‭ ‬حساب،‭ ‬تحضر‭ ‬بلا‭ ‬شروط،‭ ‬وتضعنا‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬كل‭ ‬مسؤولياتك‭ ‬مهما‭ ‬ازدحم‭ ‬يومك‭.‬

يا‭ ‬أبي‮…‬

معظم‭ ‬ذكريات‭ ‬طفولتنا‭ ‬محفوظة‭ ‬في‭ ‬صور‭ ‬وفيديوهات‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬أخذها‭ ‬بكاميرتك‭ ‬الضخمة‭ ‬الثقيلة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬تحملها‭ ‬على‭ ‬ظهرك‭. ‬واليوم‭ ‬هذه‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقدر‭ ‬بثمن‭ ‬هي‭ ‬واحة‭ ‬نلجأ‭ ‬إليها‭ ‬لنعيش،‭ ‬ولو‭ ‬للحظات‭ ‬قليلة،‭ ‬ذكريات‭ ‬وجودك‭ ‬بيننا‭. ‬ولكن‭ ‬الجزء‭ ‬المؤلم‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬صورا‭ ‬كثيرة‭ ‬لك،‭ ‬لأنك‭ ‬كنت‭ ‬دائما‭ ‬وراء‭ ‬الكاميرا‭.‬

أتذكر‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬فعاليات‭ ‬المدرسة‭ ‬من‭ ‬المسرحيات‭ ‬وحفلات‭ ‬توزيع‭ ‬الجوائز،‭ ‬وأنا‭ ‬واقفة‭ ‬وراء‭ ‬الكواليس،‭ ‬سماع‭ ‬صوتك‭ ‬وأنت‭ ‬تسعل‭ ‬خفيفاً،‭ ‬تلك‭ ‬الإشارة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬بها‭ ‬أنك‭ ‬وصلت،‭ ‬جالساً‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الأول،‭ ‬بابتسامتك‭ ‬العفوية،‭ ‬التي‭ ‬انتظرها‭ ‬لتثبت‭ ‬ثقتي‭ ‬وخطواتي‭ ‬قبل‭ ‬دخولي‭ ‬إلى‭ ‬المنصة‭. ‬

أحاول‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬غيابك‭ ‬كجزءٍ‭ ‬من‭ ‬وجودي،‭ ‬قد‭ ‬يتخفى‭ ‬الحزن‭ ‬احياناً،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يغادر،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬له‭ ‬ان‭ ‬يغادر،‭ ‬فالذين‭ ‬نحبهم‭ ‬لا‭ ‬يرحلون‭ ‬من‭ ‬وجودنا،‭ ‬يتركون‭ ‬أثراً‭ ‬يشبه‭ ‬الندبة،‭ ‬واضحة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬للتذكر،‭ ‬وهادئة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لكي‭ ‬نستمر‭. ‬

وهكذا‭ ‬بعد‭ ‬سنة‭ ‬طويلة،‭ ‬تعلمت‭ ‬أن‭ ‬الفقد‭ ‬ليس‭ ‬نهاية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬تحول،‭ ‬وان‭ ‬الحب‭ ‬حين‭ ‬يغيب‭ ‬صاحبه‭ ‬عن‭ ‬العين‭ ‬والوصال‭- ‬لا‭ ‬ينطفئ،‭ ‬بل‭ ‬يعود‭ ‬أكثر‭ ‬ترسخاً‭ ‬وعمقاً‮…‬‭ ‬

ذكراك‭ ‬يا‭ ‬أبي‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬البال،‭ ‬وأدعو‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬سجود،‭ ‬أن‭ ‬يرحمك‭ ‬الله‭ ‬برحمته‭ ‬الواسعة‭ ‬وأن‭ ‬يجعل‭ ‬قبرك‭ ‬روضةً‭ ‬من‭ ‬رياض‭ ‬الجنة،‭ ‬وأن‭ ‬يجمعني‭ ‬بك‭ ‬في‭ ‬الفردوس‭ ‬الأعلى‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا