العدد : ١٧٤٠٩ - الجمعة ٢١ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٣٠ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٠٩ - الجمعة ٢١ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٣٠ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

طفل في القانون.. ولكن زوج في عقد الزواج.. كيف؟!

بقلم: نبيلة رجب

الجمعة ٢١ نوفمبر ٢٠٢٥ - 02:00

مازلت‭ ‬أذكر‭ ‬ذلك‭ ‬الصباح‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬السلمانية‭. ‬كنت‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الانتظار‭ ‬حين‭ ‬جلست‭ ‬إلى‭ ‬جواري‭ ‬شابة‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬العشرين،‭ ‬تمسك‭ ‬بيد‭ ‬طفلها‭ ‬الصغير‭.‬

تحدثنا‭ ‬قليلا،‭ ‬ثم‭ ‬أخبرتني‭ ‬أنها‭ ‬تزوجت‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة،‭ ‬لأن‭ ‬أهلها‭ ‬أقنعوها‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬‮«‬ستر‭ ‬للبنت‮»‬‭. ‬قالت‭ ‬بصوت‭ ‬خافت،‭ ‬وكأنها‭ ‬مازالت‭ ‬تستوعب‭ ‬ما‭ ‬جرى‭: ‬‮«‬كنت‭ ‬صغيرة،‭ ‬وما‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬شنو‭ ‬يعني‭ ‬زواج،‭ ‬بس‭ ‬الكل‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬هذي‭ ‬مصلحتج‮»‬‭.‬

خمس‭ ‬سنوات‭ ‬فقط‭ ‬كانت‭ ‬كافية‭ ‬لينتهي‭ ‬الزواج‭ ‬وتبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬جديدة‭ ‬مع‭ ‬طفلين،‭ ‬أحدهما‭ ‬مصاب‭ ‬بالتوحُّد‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬القصة‭ ‬غريبة،‭ ‬فهي‭ ‬تجربة‭ ‬عادية‭ ‬في‭ ‬ظاهرها،‭ ‬مؤلمة‭ ‬في‭ ‬حقيقتها،‭ ‬تبدأ‭ ‬بالستر‭ ‬وتنتهي‭ ‬بانكسارٍ‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭.‬

قبل‭ ‬أيام،‭ ‬شاهدت‭ ‬مقابلة‭ ‬في‭ ‬برنامج‭ ‬‮«‬شو‭ ‬القصة‮»‬‭ ‬مع‭ ‬الإعلامية‭ ‬اللبنانية‭ ‬رابعة‭ ‬الزيات‭. ‬كانت‭ ‬الضيفة‭ ‬فتاة‭ ‬متزوجة‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬الرابعة‭ ‬عشرة‭.‬

سألتها‭ ‬الإعلامية‭ ‬بهدوء‭:‬

‭- ‬شو‭ ‬بتعرفي‭ ‬عن‭ ‬الزواج؟

صمتت‭ ‬طويلا‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭ ‬بصوت‭ ‬خافت‭: ‬‮«‬زوجوني‭.. ‬بس‭ ‬ما‭ ‬بعرف‭ ‬شو‭ ‬يعني‭ ‬زواج‮»‬‭.‬

تلك‭ ‬الجملة‭ ‬بقيت‭ ‬ترنّ‭ ‬في‭ ‬أذني‭. ‬كم‭ ‬من‭ ‬طفلة‭ ‬مثلها‭ ‬تُزفّ‭ ‬وهي‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬تحلم‭ ‬بدميتها،‭ ‬لا‭ ‬ببيتها؟

لا‭ ‬يهم‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬كانت‭ ‬المقابلة،‭ ‬فالوجع‭ ‬واحد‭ ‬وإن‭ ‬اختلفت‭ ‬اللهجات‭. ‬في‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬جميعًا،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬البعض‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬المبكر‭ ‬سترا‭ ‬لا‭ ‬مخاطرة‭. ‬وربما‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬حكاية‭ ‬تشبه‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة،‭ ‬بأسماء‭ ‬مختلفة‭ ‬ونهايات‭ ‬متشابهة‭.‬

في‭ ‬البحرين،‭ ‬تنص‭ ‬المادة‭ (‬20‭) ‬من‭ ‬قانون‭ ‬الأسرة‭ ‬رقم‭ (‬19‭) ‬لسنة‭ ‬2017‭ ‬على‭ ‬أنه‭:‬

‮«‬لا‭ ‬يؤذن‭ ‬بالزواج‭ ‬لمن‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬مصلحة‭ ‬تقتضي‭ ‬ذلك‮»‬‭.‬

وبموجب‭ ‬هذا‭ ‬النص،‭ ‬يكون‭ ‬سنّ‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬هو‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬للزواج،‭ ‬مع‭ ‬إمكانية‭ ‬استثناء‭ ‬بعض‭ ‬الحالات‭ ‬بقرار‭ ‬من‭ ‬المحكمة‭ ‬إذا‭ ‬رأت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مصلحة‭ ‬للطرفين‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬العمر‭ ‬الأدنى‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬قيد‭ ‬النقاش،‭ ‬فعمر‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬اكتمال‭ ‬النضج‭ ‬النفسي‭ ‬أو‭ ‬الاجتماعي‭ ‬اللازم‭ ‬لاتخاذ‭ ‬قرار‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم‭. ‬ومن‭ ‬منظور‭ ‬حماية‭ ‬القاصرين،‭ ‬فإن‭ ‬المراجعة‭ ‬الهادئة‭ ‬لهذا‭ ‬السنّ‭ ‬تُعدّ‭ ‬خطوة‭ ‬لتعزيز‭ ‬استقرار‭ ‬الأسرة‭ ‬لا‭ ‬لمصادرة‭ ‬الحرية‭ ‬الشخصية‭.‬

وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬ينص‭ ‬قانون‭ ‬الطفل‭ ‬رقم‭ (‬37‭) ‬لسنة‭ ‬2012‭ ‬في‭ ‬مادته‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬‮«‬كل‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬يُعدّ‭ ‬طفلا‮»‬‭.‬

وبذلك‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الفتى‭ ‬أو‭ ‬الفتاة‭ ‬قد‭ ‬يُعدّان‭ ‬‮«‬طفلَين‮»‬‭ ‬في‭ ‬قانون،‭ ‬و«زوجَين‮»‬‭ ‬في‭ ‬قانون‭ ‬آخر،‭ ‬ما‭ ‬يخلق‭ ‬تناقضا‭ ‬يستحق‭ ‬التأمل‭ ‬والمراجعة‭.‬

فإذا‭ ‬كان‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬القوانين‭ ‬هو‭ ‬حماية‭ ‬القاصر‭ ‬حتى‭ ‬يكتمل‭ ‬وعيه،‭ ‬فالأجدر‭ ‬أن‭ ‬تتسق‭ ‬النصوص‭ ‬في‭ ‬رؤيتها‭ ‬لمفهوم‭ ‬الطفولة‭ ‬والنضج،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يُعامل‭ ‬من‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬حماية‭ ‬قانونية‭ ‬كمن‭ ‬يمتلك‭ ‬أهلية‭ ‬كاملة‭ ‬لتحمّل‭ ‬تبعات‭ ‬الزواج‭ ‬ومسؤولياته‭.‬

القضية‭ ‬تتجاوز‭ ‬النصوص‭ ‬إلى‭ ‬جوهر‭ ‬الوعي‭ ‬ذاته‭. ‬فالزواج‭ ‬ليس‭ ‬مناسبة‭ ‬عائلية‭ ‬أو‭ ‬اجتماعية،‭ ‬فهو‭ ‬عقد‭ ‬قانوني‭ ‬ينشئ‭ ‬التزاماتٍ‭ ‬نفسية‭ ‬واجتماعية‭ ‬ومالية‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬شأنا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬تصرف‭ ‬قانوني‭ ‬آخر‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬الثامنة‭ ‬عشرة‭ ‬لا‭ ‬يُخوّل‭ ‬بإبرام‭ ‬عقد‭ ‬بيع‭ ‬أو‭ ‬وكالة‭ ‬إلا‭ ‬بولي،‭ ‬فكيف‭ ‬يُمنح‭ ‬صلاحية‭ ‬عقد‭ ‬زواج‭ ‬يُنشئ‭ ‬التزامات‭ ‬دائمة‭ ‬ويمسّ‭ ‬استقرار‭ ‬حياة‭ ‬إنسانين‭ ‬وأسرة‭ ‬بأكملها؟

المسألة‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬الأرقام‭ ‬والنصوص؛‭ ‬إنها‭ ‬تتصل‭ ‬بمدى‭ ‬فهمنا‭ ‬لمعنى‭ ‬الحماية‭ ‬والاختيار،‭ ‬وبقدرتنا‭ ‬على‭ ‬إدراك‭ ‬ما‭ ‬يترتب‭ ‬على‭ ‬القرار‭.‬

كل‭ ‬استعجال‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬الأبناء‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الطفولة‭ ‬إلى‭ ‬مسؤوليات‭ ‬الكبار‭ ‬ينتزع‭ ‬منهم‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬أمانهم‭ ‬الداخلي،‭ ‬ويترك‭ ‬أثرا‭ ‬لا‭ ‬يزول‭ ‬بسهولة‭.‬

كأم‭ ‬وكبحرينية‭ ‬عايشت‭ ‬قصصا‭ ‬واقعية،‭ ‬يؤلمني‭ ‬أن‭ ‬تُختصر‭ ‬سنوات‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬قرارٍ‭ ‬مبكر‭ ‬لا‭ ‬يمنحهم‭ ‬فرصة‭ ‬الاكتمال‭.‬

الزواج‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬وعي‭ ‬واستعداد،‭ ‬فالحياة‭ ‬لا‭ ‬تُدار‭ ‬بالعجلة‭. ‬واجبنا‭ ‬أن‭ ‬نهيئ‭ ‬أبناءنا‭ ‬بطمأنينة‭ ‬وخبرة،‭ ‬كي‭ ‬يدخلوا‭ ‬التجارب‭ ‬وهم‭ ‬قادرون‭ ‬على‭ ‬حمل‭ ‬مسؤولياتها‭.‬

فلنصن‭ ‬طفولتهم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تُكتب‭ ‬أسماؤهم‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬‮«‬المتزوجين‮»‬،‭ ‬فالكثير‭ ‬منهم‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬في‭ ‬خانة‭ ‬الأطفال،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬العقد‭ ‬قانونيا‭ ‬صحيحا‭.‬

والبحرين،‭ ‬التي‭ ‬أولت‭ ‬الأسرة‭ ‬والطفولة‭ ‬عناية‭ ‬راسخة،‭ ‬لله‭ ‬الحمد،‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تمضي‭ ‬أبعد‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬ثقافة‭ ‬تحمي‭ ‬القرار‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬التزام،‭ ‬وتوازن‭ ‬بين‭ ‬الحرية‭ ‬والمسؤولية‭ ‬في‭ ‬أسمى‭ ‬صورها‭ ‬الإنسانية‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا