مازلت أذكر ذلك الصباح في مستشفى السلمانية. كنت في قاعة الانتظار حين جلست إلى جواري شابة في مطلع العشرين، تمسك بيد طفلها الصغير.
تحدثنا قليلا، ثم أخبرتني أنها تزوجت وهي في الخامسة عشرة، لأن أهلها أقنعوها أن في الزواج «ستر للبنت». قالت بصوت خافت، وكأنها مازالت تستوعب ما جرى: «كنت صغيرة، وما كنت أعرف شنو يعني زواج، بس الكل قال لي هذي مصلحتج».
خمس سنوات فقط كانت كافية لينتهي الزواج وتبدأ رحلة جديدة مع طفلين، أحدهما مصاب بالتوحُّد. لم تكن تلك القصة غريبة، فهي تجربة عادية في ظاهرها، مؤلمة في حقيقتها، تبدأ بالستر وتنتهي بانكسارٍ لا يُرى إلا في تفاصيل الحياة اليومية.
قبل أيام، شاهدت مقابلة في برنامج «شو القصة» مع الإعلامية اللبنانية رابعة الزيات. كانت الضيفة فتاة متزوجة لم تتجاوز الرابعة عشرة.
سألتها الإعلامية بهدوء:
- شو بتعرفي عن الزواج؟
صمتت طويلا ثم قالت بصوت خافت: «زوجوني.. بس ما بعرف شو يعني زواج».
تلك الجملة بقيت ترنّ في أذني. كم من طفلة مثلها تُزفّ وهي ما زالت تحلم بدميتها، لا ببيتها؟
لا يهم في أي بلد كانت المقابلة، فالوجع واحد وإن اختلفت اللهجات. في مجتمعاتنا جميعًا، ما زال البعض يرى في الزواج المبكر سترا لا مخاطرة. وربما في كل بلد حكاية تشبه تلك الفتاة، بأسماء مختلفة ونهايات متشابهة.
في البحرين، تنص المادة (20) من قانون الأسرة رقم (19) لسنة 2017 على أنه:
«لا يؤذن بالزواج لمن لم يتم السادسة عشرة من عمره، إلا إذا كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك».
وبموجب هذا النص، يكون سنّ السادسة عشرة هو الحد الأدنى للزواج، مع إمكانية استثناء بعض الحالات بقرار من المحكمة إذا رأت في ذلك مصلحة للطرفين.
غير أن النقاش حول العمر الأدنى نفسه في الأساس قيد النقاش، فعمر السادسة عشرة لا يعني بالضرورة اكتمال النضج النفسي أو الاجتماعي اللازم لاتخاذ قرار بهذا الحجم. ومن منظور حماية القاصرين، فإن المراجعة الهادئة لهذا السنّ تُعدّ خطوة لتعزيز استقرار الأسرة لا لمصادرة الحرية الشخصية.
وفي المقابل، ينص قانون الطفل رقم (37) لسنة 2012 في مادته الأولى على أن «كل من لم يتم الثامنة عشرة من عمره يُعدّ طفلا».
وبذلك نجد أن الفتى أو الفتاة قد يُعدّان «طفلَين» في قانون، و«زوجَين» في قانون آخر، ما يخلق تناقضا يستحق التأمل والمراجعة.
فإذا كان الهدف من القوانين هو حماية القاصر حتى يكتمل وعيه، فالأجدر أن تتسق النصوص في رؤيتها لمفهوم الطفولة والنضج، حتى لا يُعامل من يحتاج إلى حماية قانونية كمن يمتلك أهلية كاملة لتحمّل تبعات الزواج ومسؤولياته.
القضية تتجاوز النصوص إلى جوهر الوعي ذاته. فالزواج ليس مناسبة عائلية أو اجتماعية، فهو عقد قانوني ينشئ التزاماتٍ نفسية واجتماعية ومالية لا تقل شأنا عن أي تصرف قانوني آخر. وإذا كان من لم يبلغ الثامنة عشرة لا يُخوّل بإبرام عقد بيع أو وكالة إلا بولي، فكيف يُمنح صلاحية عقد زواج يُنشئ التزامات دائمة ويمسّ استقرار حياة إنسانين وأسرة بأكملها؟
المسألة أعمق من الأرقام والنصوص؛ إنها تتصل بمدى فهمنا لمعنى الحماية والاختيار، وبقدرتنا على إدراك ما يترتب على القرار.
كل استعجال في نقل الأبناء من عالم الطفولة إلى مسؤوليات الكبار ينتزع منهم شيئا من أمانهم الداخلي، ويترك أثرا لا يزول بسهولة.
كأم وكبحرينية عايشت قصصا واقعية، يؤلمني أن تُختصر سنوات النمو في قرارٍ مبكر لا يمنحهم فرصة الاكتمال.
الزواج يحتاج إلى وعي واستعداد، فالحياة لا تُدار بالعجلة. واجبنا أن نهيئ أبناءنا بطمأنينة وخبرة، كي يدخلوا التجارب وهم قادرون على حمل مسؤولياتها.
فلنصن طفولتهم من أن تتحول إلى عقد على الورق، قبل أن تُكتب أسماؤهم في خانة «المتزوجين»، فالكثير منهم ما زالوا في خانة الأطفال، حتى وإن بدا العقد قانونيا صحيحا.
والبحرين، التي أولت الأسرة والطفولة عناية راسخة، لله الحمد، قادرة على أن تمضي أبعد في ترسيخ ثقافة تحمي القرار قبل أن يتحول إلى التزام، وتوازن بين الحرية والمسؤولية في أسمى صورها الإنسانية.
rajabnabeela@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك