دعوني أنقل لكم هذه الفقرة من كتاب (السيطرة على الإعلام – الإنجازات الهائلة للبروباجندا) للكاتب نعوم تشومسكي: «لنبدأ أولاً بالإشارة إلى أول عملية دعائية حكومية في العصر الحديث، حيث كانت أثناء إدارة الرئيس وودرو ويلسون الذي انتخب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1916، وفق برنامج انتخابي بعنوان (سلام بدون نصر)، وكان ذلك في منتصف الحرب العالمية الأولى. في تلك الأثناء كان المواطنون مسالمين لأقصى الدرجات، ولم يروا سببًا للانخراط والتورط في حرب أوربية بالأساس، بينما كان على إدارة ويلسون التزامات تجاه الحرب، ومن ثم كان عليها فعل شيء ما حيال هذا الأمر؛ فقامت الإدارة بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها (لجنة كريل)، وقد نجحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم الهستيريا والتعطش للحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وخوض الحرب وإنقاذ العالم».
يواصل نعوم ويقول: «كان هذا الأمر بمثابة إنجاز هائل، وقد قاد بدوره إلى إنجاز آخر، ذلك أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها تم توظيف ذات التكتيك لإثارة الهستيريا ضد الرعب الشيوعي -كما كان يطلق عليه- وقد نجحت إلى حد كبير في تدمير الاتحادات العمالية، والقضاء على بعض المشكلات الخطيرة مثل حرية الصحافة وحرية الفكر السياسي، وكان هناك تأييد قوي من قبل وسائل الإعلام، وكذلك من قبل مؤسسة رجال الأعمال التي نظمت بل وشجعت جل هذا العمل، وكان بصفة عامة نجاحًا عظيمًا».
وعندما تستمر في قراءة الكتاب تفاجأ أن لجنة (كريل) كانت مهمتها الأهم هي قلب الحقائق، بطريقة تخدم المصالح السياسية والفكر الإمبريالي من خلال وسائل الإعلام المختلفة. وحتى يستدل الكاتب على ذلك فقد ضرب العديد من الأمثلة من شتى بقاع العالم، وكيف أن القوة الإمبريالية تحاول بكل حرفية تسيير الإعلام وفق أجندتها ومنهجها الرأسمالي.
هذه اللجنة مازالت تعمل وتنتج، ولكن بمسميات أخرى، إلا أن وظيفتها الأساسية مازالت كما كانت، وهي قلب الحقائق والتضليل الإعلامي، وحتى نستدل على ذلك لنضرب مثالا:
مستشفى الشفاء وأنفاق غزة؛ في 27 أكتوبر 2024 نشر على الحساب الرسمي للجيش الإسرائيلي على منصة (إكس) عرض ثلاثي الأبعاد لمتاهة معقدة من الأنفاق والمخابئ تحت مستشفى الشفاء، زاعمًا أن المقاومة كانت تستخدمها كمركز قيادة. وكانت مزاعمهم محددة أن مستشفى الشفاء كان (القلب النابض) للبنية التحتية لقيادة المقاومة، وأن العديد من مباني المستشفيات تقع مباشرة فوق الأنفاق التي يمكن الوصول إليها من أجنحة المستشفى، ولم تقدم دولة الاحتلال أي دليل يثبت مزاعمها، إلا أن ذلك لم يمنع إدارة بايدن من ترديد الرواية الإسرائيلية، وقبل يوم من اقتحام المستشفى أكد جون كربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي في حديثه للصحفيين أن «أعضاء حماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني لا يديرون مقرًا للقيادة والسيطرة من مستشفى الشفاء فحسب، بل يستخدمونه لاحتجاز الرهائن وأنهم متأهبون للرد على أي عملية عسكرية إسرائيلية». ومن الملاحظ أنه لم يقدم أيًا من الجيش الإسرائيلي ولا كيربي أي قرائن تؤكد كل تلك المزاعم.
وعندما اقتحمت القوات الإسرائيلية مستشفى الشفاء في 15 نوفمبر 2024 فإن ما وجدوه أقل بكثير من كل تلك المزاعم، وفي حين أنها اكتشفت نفقًا يمتد تحت زاوية من زوايا مجمع المستشفى، لم يكن أي من مباني المستشفى متصلاً بشبكة الأنفاق التي لم يظهر عليها ما يدل على استخدامها عسكريًا، وبعد ذلك تبين أن كل تلك المزاعم كانت غير حقيقية ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، ولكنها نوع من التضليل الإعلامي الذي تستخدمه دولة الاحتلال بمعية الولايات المتحدة لقلب الحقائق لتتوافق مع السردية التي تريد أن تزرعها في عقول العامة، كما فعلت من قبلها لجنة (كريل).
ليس ذلك فحسب، وإنما تشير بعض المصادر الإعلامية إلى أن «مستشفى الشفاء يمثل الركن الأساسي في حملة التضليل الإعلامي الإسرائيلية ضد البنية التحتية الصحية الفلسطينية، ولكن ليس الهدف الوحيد. فقد نفذت القوات الإسرائيلية ما يزيد على 500 هجوم على العاملين في مجال الرعاية الصحية والبنية التحتية في غزة والضفة الغربية منذ 7 أكتوبر 2023، بمعدل حوالي 7 هجمات يوميًا طالت المستشفيات والعيادات والعاملين في مجال الرعاية الصحية وسيارات الإسعاف والمرضى، وكانت الفكرة أن المقاومة لربما تستخدم المستشفيات لأغراض عسكرية، فإن إسرائيل، بغض النظر عن مصداقية الخبر، تشكك فيما إذا كان النظام الصحي في غزة برمته مستحقًا للحماية التي يوفرها القانون الإنساني الدولي، وبذلك تحول إسرائيل مفهوم الهجمات على المستشفيات من انتهاك صارخ للقانون الدولي إلى عُرف، وحولت المستشفيات من مراكز لتلقي العلاج إلى مراكز هجوم عسكرية.
التضليل الإعلامي
بعد 7 أكتوبر 2023
من الملاحظ أنه بعد حرب 7 أكتوبر 2023 لجأت إسرائيل والدول الإمبريالية إلى أساليب متقدمة في الحرب النفسية والتضليل الإعلامي، في محاولة للسيطرة على الرأي العام المحلي والدولي، وتبرير عملياتها العسكرية في غزة. ومن أبرز هذه الأساليب كما وردت في التحليلات والدراسات الحديثة:
1. التضليل الداخلي لرفع المعنويات، وتم ذلك من خلال:
* تضخيم الإنجازات العسكرية، وذلك بتصوير العمليات العسكرية على أنها ناجحة بشكل ساحق، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبدها الجيش الإسرائيلي في الأيام الأولى من الحرب، حتى اليوم.
* إخفاء الفشل الأمني، قامت قوات الاحتلال بمحاولة التغطية على فشل المنظومة الأمنية في التصدي لهجوم 7 أكتوبر، عبر التركيز على (الرد القاسي) و(استعادة الردع).
2. شيطنة الفلسطينيين والمقاومة، مثلاً:
* استخدام لغة تحريضية: بوصف المقاومة بالإرهاب والوحشية وأنهم دواعش وكارهون للحياة، وتصوير المقاومة كتهديد وجودي.
* نشر صور مفبركة أو مجزأة، بهدف تبرير القصف العنيف على غزة، وخاصة ضد المستشفيات والمدارس، بزعم استخدامها لأغراض عسكرية.
3. استهداف الوعي الفلسطيني، مثل:
* بث رسائل تهديد عبر وسائل التواصل، كإرسال رسائل نصية لسكان غزة تطالبهم بإخلاء منازلهم، أو تنشر الرعب بينهم.
* محاولة كسر الروح المعنوية، عبر الترويج لانهيار المقاومة، أو نشر أخبار كاذبة عن استسلام قادتها.
4. استهداف الصحفيين والإعلام الفلسطيني، وذلك عن طريق:
* اغتيال واستهداف الصحفيين، لتكميم الأفواه ومنع نقل الحقيقة من الميدان.
* قصف مقار إعلامية، بهدف إسكات الرواية الفلسطينية ومنع توثيق الجرائم.
وربما نطرح سؤال آخر، هل لهذه الحرب أي تأثير على الساحة والشعوب العربية؟
التأثيرات النفسية
والإعلامية على الإنسان العربي
1. تشكيل المفاهيم والقيم، وجدنا أن:
* الإعلام المضلل أسهم في إعادة تشكيل قناعات بعض الأفراد حول القضية الفلسطينية، وخاصة لدى من يتعرضون لتأثير الإعلام الغربي أو الرسمي المنحاز، فأصبحوا يتكلمون باللسان الغربي الصهيوني.
* ظهرت حالة من الارتباك الفكري بين من يصدق الرواية الإسرائيلية ومن يرفضها.
2. نشر الخوف والقلق، أشارت بعض الدراسات إلى أن:
* الصور المروعة والقصص الإنسانية المفجعة أدت إلى حالة من القلق الجماعي، وخاصة بين الشباب العربي.
* البعض شعر بالعجز أو الإحباط نتيجة غياب رد فعل عربي رسمي قوي.
3. زيادة الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وأتضح ذلك من خلال استخدام الإعلام لتغذية الانقسامات الداخلية في بعض الدول العربية، عبر ربط التضامن مع فلسطين بمواقف سياسية أو آيديولوجية.
النشاط الإعلامي المضاد
ولكن في المقابل، وفقًا لمقال عن (عرب 48)، فإن الإعلام الإسرائيلي واجه أزمة في ترويج روايته بعد 7 أكتوبر، حيث لم يعد الرأي العام العربي يصدق بسهولة السردية الإسرائيلية، وخاصة مع التناقضات الواضحة في التغطية؛ وذلك لأن الإعلام الإسرائيلي تحوّل من أداة نقل إلى أداة تضليل وتكرار خطاب رسمي، ما دفع الجماهير العربية والعالمية إلى التشكيك في مصداقيته.
هذا التحول في الرأي العام دفع إنسانة مثل (أبي مارتين) وهي مضيفة برامج صحفية أمريكية وكاتبة معروفة بتناولها للقضايا السياسية والاجتماعية تقول في مقابلة تلفزيونية: «أنا سئمت، لقد سئمت من رؤية البروباجندا المؤيدة لجرائم إسرائيل بشكل مستمر، فهذا كل ما شاهدته طوال حياتي. لقد نشأت من دون أن أفهم حتى ما هي غزة. نحن نكبر في أمريكا ونحن نظن أن إسرائيل هي الولاية الأمريكية رقم 51، وأن إسرائيل لا يمكن أن تخطئ لأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط».
وتواصل حديثها وتقول: «ولكن من الواضح جدا الآن أن كل هذا مزيف. ولذلك كان اكتشاف الحقيقة أمرًا مؤلمًا ومثيرًا للغضب، وشعرت أن الناس بحاجة إلى معرفة الحقيقة، وفهم سياق الوضع. وللأسف الغالبية العظمى من المواطنين الأمريكيين لا يملكون أي فكرة عما يحدث فعليًا بسبب التعقيد المبالغ فيه لقضية بسيطة وواضحة. كانوا يقولون لنا إن حماس تستخدم الأطفال كدروع بشرية حرفيًا، وأنهم يجلبون الأطفال إلى الحدود ويجعلون القناصة يقتلونهم، هذا ما كانوا يخبروننا به».
وتختم بقولها: «لكنهم بشر لا يخجلون، ومرضى نفسيون، ولذلك تجدهم يحرفون ويشوهون الحقيقة ولا أحد يحملهم المسؤولية. فإذا نظرت إلى قطاع واسع من الإعلام الأمريكي لن تجد هناك سوى دعاية إسرائيلية مستمرة فحسب، بل هناك جواسيس إسرائيليون فعليًا وجنود سابقون في الجيش الإسرائيلي ومتحدثون باسم الجيش الإسرائيلي، أو أن العديد من هؤلاء الصحفيين لديهم أبناء يقاتلون في الجيش الإسرائيلي، لذلك فهم يدافعون عن إسرائيل».

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك