من المفروض نظريا أن ماء المطر الذي ينزل من المُزْن ومن السماء أن يكون آمناً، وصحياً، ونقياً، وصالحاً للشرب مباشرة، سواء للإنسان، أو الحيوان، أو ري المناطق الزراعية، والغابات الكثيفة، والأعشاب والشجيرات الصحراوية.
ولكن مع بزوغ فجر الثورة الصناعية، ومع انتشار المصانع، ومحطات توليد الكهرباء، وازدياد أعداد وأنواع وسائل المواصلات البرية، والبحرية، والجوية، فإن الإنسان في كل أنحاء العالم أطلق سراح أحجامٍ عظيمة ومهولة من شتى أنواع الملوثات إلى الهواء الجوي، وإلى الأوساط البيئية الأخرى، فلم يبق شبر من كوكبنا قريباً كان أم نائياً وبعيداً إلا وأصابه داء التلوث العقيم، وعرَّض صحته للأسقام المزمنة.
وهذه الأمراض والعلل التي نزلت على مكونات بيئتنا، انكشفت لنا على شكل ظواهر غريبة وغامضة لم يشهدها التاريخ البشري من قبل، ولم يعرف ماهيتها وأسرارها وانعكاساتها على صحة البيئة من جهة، وصحة البشر من جهة أخرى.
وهذه المظاهر البيئية بدأت تكشف عن نفسها يوماً بعد يوم منذ مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم وحتى يومنا هذا، فكلما ظهرت علينا ظاهرة ومشكلة بيئية جديدة، وتعرف الإنسان على أسرارها وتفاصيلها وكيفية وأسباب نزولها، انكشفت له ظاهرة أخرى بعد سنوات قليلة أخطر من أختها، وأشد وطأة وتنكيلاً بأمن البيئة وسلامتها، وأكثر تهديداً بصحة الإنسان والحياة الفطرية.
ومن المظاهر القديمة المتجددة التي لها علاقة بجودة ماء المطر هي وجود بعض الملوثات التي أطلقها الإنسان في الهواء الجوي في ماء المطر الذي ينزل من السماء، فحوَّل هذا الماء العذب الزلال الصافي الذي اعتمدت عليه المجتمعات البشرية كمياه للشرب والزراعة والأغراض المنزلية إلى مياه آسنة، ملوثة، وغير صحية، ولا يمكن استخدامها مباشرة.
فهذه الظاهرة القديمة المتجددة تختلف فقط في نوعية الملوثات الموجودة في مياه الأمطار، فهي كلها مياه أمطار ملوثة، ولكن هوية هذه الملوثات ونوعيتها اختلفت مع الزمن، ومع العقود المتلاحقة.
ففي منتصف القرن المنصرم عانى الإنسان من ظاهرة أُطلق عليها «المطر الحمضي»، أو الثلج الحمضي، أي أن ماء المطر، أو الثلج الذي نزل على البشر لم يكن عادياً وطبيعياً في نوعيته وجودته، وإنما كان ماء المطر حمضياً، أي كما نٌطلق عليه في البحرين «التيزاب»، وهو السائل الموجود في بطارية السيارات.
وقد تكون هذا المطر الحمضي نتيجة لإطلاق ملوثات وغازات حمضية إلى الهواء الجوي من خلال احتراق الوقود في السيارات، والقطارات، والطائرات، ومحطات توليد الكهرباء والمصانع. ومن هذه الملوثات التي انبعثت من كل هذه المصادر الذي لا تعد ولا تحصى في كل أنحاء العالم هي غاز ثاني أكسيد الكبريت، وثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكربون. وكل هذه الملوثات الحمضية بعد انتقالها إلى الهواء الجوي وفي أعالي السماء تفاعلت مع الماء وكونت حمض الكبريتيك، وحمض النيتريك، وحمض الكربونيك، فنزلت مع ماء المطر فلوثت البر، والبحر.
فهذا المطر والثلج الحمضي لوثت مساحات واسعة من الكرة الأرضية، فعندما نزلت على المسطحات المائية رفعت من مستوى حمضيتها فأثرت في نوعية المياه، وأهلكت الأسماك والحياة الفطرية المائية برمتها، وحولت هذه البيئات المائية الجميلة والمنتجة إلى صحاري جرداء مقفرة لا حياة فيها. وعلاوة على ذلك، فقد كشف بحث جديد عن ظاهرة حديثة لم يعرفها العلماء في تلك الحقبة الزمنية، وهذا البحث المنشور في مجلة (Frontier Marine Science) في 27 أغسطس 2025، صدر بعنوان: «تأثيرات حموضة المحيطات على مورفولوجيا أسنان القرش»، وخلص إلى أن ارتفاع حموضة المياه يؤثر في بنية وصحة أسنان سمك القرش ويؤدي إلى ضعفها وسرعة تآكلها، مما يعني على المدى البعيد عدم قدرة هذا الكائن الحي وغيره من الكائنات على اصطياد وأكل الفريسة، ثم انقراضها مع الزمن.
وعندما نزلت هذه الأمطار الحمضية على المباني والتماثيل التي شيدها الإنسان، وأنفق على إنشائها مبالغ باهظة، فإنه يحولها إلى مسحوق، ويضعف قوتها، ويهدد من تماسكها، ويتسبب في سقوطها. كما إن هذه الأمطار والثلوج الملوثة عندما سقطت على الغابات والأشجار الكثيفة، كانت لها مردودات خطيرة تهدد حياتها واستدامة إنتاجها.
وتمكن الإنسان بعد أن عرف السبب في الحد من هذه الظاهرة البيئية المهلكة لجميع مكونات البيئية، وبالتحديد من خلال إزالة الكبريت في كل أنواع الوقود الأحفوري، إضافة إلى خفض انبعاث غازات أكاسيد النيتروجين إلى الهواء.
ولكن ما أن تخلص الإنسان من هذه المشكلة العقيمة، ومن المطر والثلج الحمضي، وإذا به يواجه معضلة أخرى، وظاهرة لم تكن في الحسبان، ولم تخطر على قلب بشر، وهي نزول المطر الميكروبلاستيكي، أي وجود مخلفات وجسيمات بلاستيكية متناهية في الصغر في مياه الأمطار والثلوج!
وفي الحقيقة، وبالرغم من غرابة الظاهرة، فقد كان على الإنسان بخبرته وعلمه التراكمي الواسع أن يتوقع وقوعها، فعشرات الآلاف من المنتجات البلاستيكية دخلت في جميع المواد الاستهلاكية التي نستخدمها منذ عقود طويلة من الزمن في المنزل، والمكتب، ومكان العمل، بل وأستطيع أن أُجزم بأنك قلما تشاهد منتجاً لا يدخل في تركيبه البلاستيك. فكل هذه المنتجات لا بد من أن تجد طريقها مع الوقت في الأوساط البيئية بعد أن تنتهي صلاحيتها، ومع مرور الزمن لأنها مستقرة ولا تتحلل في البيئة، فإنها تنتقل وتتحرك على هيئة قطع كبيرة، أو صغيرة، أو جسيمات متناهية في الصغر من وسطٍ بيئي إلى آخر، حتى تتعلق في الهواء، فترتفع إلى الأعلى وتختلط بماء السحب وتصبح جزءاً من تكوينه، وتنزل أخيراً معها كمطر أو ثلج ميكروبلاستيكي.
وقد وثق العلماء الآن «دورة حياة المخلفات البلاستيكية»، وأجروا دراسات كثيرة أثبتوا غزوها واحتلالها لكل مكونات البيئة الحية وغير الحية، علاوة على كل أعضاء جسم الإنسان، الصغيرة والكبيرة. أما بالنسبة إلى ماء المطر والثلج فقد أجمعت الدراسات على احتوائه مخلفات مايكروبلاستيكية. وسأُقدم لكم عدداً من هذه الدراسات. فهناك دراسة نُشرت في 14 أغسطس 2019 في مجلة «العلوم» (Science) تحت عنوان: «أبيض وعجيب؟ الميكروبلاستيك في الثلج من جبال الألب إلى القطب الشمالي»، حيث كشفت عن وجود الجسيمات البلاستيكية المتناهية في الصغر في الثلوج، في القطب الشمالي والثلوج في القارة الأوروبية، مما يؤكد تحرك هذه الجسيمات عبر الهواء ومن خلال حركة الرياح من منطقة إلى أخرى، ومعظم هذه الجسيمات كانت من نوع بولي إيثلين، والمطاط، والبلاستيك الموجود في الطلاء والأصباغ، إضافة إلى المواد البلاستيكية العضوية التي تحتوي على عديد من عنصر الفلورين، ويُطلق عليها حالياً بمجموعة مركبات (PFAS).
كذلك نُشرت دراسة في مجلة «نشرة تلوث البحار»
(Marine Pollution Bulletin) في يناير 2022 تحت عنوان: «ترسب الميكروبلاستيك من الغلاف الجوي في جاكرتا من الأمطار»، والأنواع التي تم الكشف عنها كانت بولي ستيرين، وبولي بيوتاديين، وبولي إيثلين، والتركيز في ماء المطر تراوح بين 3 إلى 40 جسيماً من الجسيمات والألياف البلاستيكية في المتر المربع في اليوم.
ودراسة ثالثة منشورة في 5 أغسطس 2024 في مجلة
(Nature Geoscience) تحت عنوان: «انتقال الميكروبلاستيك وترسبه عبر الغلاف الجوي في الجبال النائية في فرنسا»، حيث تم تحليل الترسبات الجافة والرطبة، أي ماء المطر الذي يسقط على جبال فرنسا، وأكدت وجود المخلفات الميكروبلاستيكية في هذه الترسبات، بالرغم من أن المنطقة بعيدة جداً عن الأنشطة البشرية. كذلك هناك الدراسة تحت عنوان: «المايكروبلاستيك في مياه الأمطار» والمنشورة في يونيو 2023 في مجلة (TrAC Trends in Analytical Chemistry)، إضافة إلى البحث تحت عنوان: «إنها تمطر مواد ميكروبلاستيكية(بي إف أي إس) في فلوريدا» والمنشور في مجلة «أبحاث تلوث الغلاف الجوي» (Atmospheric Pollution Research) في ديسمبر 2024.
وخلاصة القول، واستناداً إلى الدراسات العلمية فإن مياه الأمطار اليوم لا تصلح مباشرة للاستهلاك الآدمي، وبخاصة للشرب، ففي السابق كان حمضياً، واليوم بلاستيكياً، ولا نعلم غداً ماذا سيكون في مياه الأمطار؟!

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك