ليس غريبًا أن تتسع المفردة القرآنية إلى معاني كثيرة، وأن قدرة المفردات الإسلامية تحمل في أرحامها ذلك الثراء الذي لا تضيق به الألفاظ أو المفردات، وهذا من أدلة قدرة اللغة العربية التي اختارها الله تعالى لتكون الوعاء المبارك الذي يجسد هذه المعاني، وهذا ما جاء التأكيد عليه: «ولو جعلناه قرآنًا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد» فصلت / 44.
وقال تعالى: «إنّا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون» يوسف / 2.
والاعتماد على العقل والتعويل عليه لإدراك الحكمة في نزوله باللغة العربية، وهي أشرف اللغات وأكثرها ثراءً وقدرة على الوفاء بمتطلبات هذا الكتاب، وفي هذا دليل على أنها معجزة تحدى الله تعالى بها أمة البيان، وأصحابها في مجال تميزهم وتفردهم فيما تفوقوا فيه على الأمم الأخرى الذين عجزوا في أن يأتوا ولو حتى بسورة واحدة مفتراة، قال تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» الإسراء / 88.
لقد عجز العلماء والعظماء، من أهل اللغة والبيان، الذين نزل القرآن بلغتهم وفهموا شاردها وواردها، وتحداهم الله تعالى، ولا يزال التحدي قائمًا وغالبًا وهم حياله وبإزائه عاجزون، وكأن هناك من شلَّ حركتهم، وغيب وعيهم، ورُغم تقدم العلوم والمعارف في مجال دراسة اللغات والإبحار في بحارها ومحيطاتها، ورُغم ذلك لم يستطيعوا بعلمهم هذا، وبإدراكهم ما بلغته الأمم من تطور في لغاتها ومن تأثر هذه اللغات وتميزهم فيها إلا أنهم حين يحاولون ذلك، ويبذلون جهدهم ويبالغون في سعيهم وفي مواجهتهم هذا التحدي الذي لا نزال نقرأه ونتلوه صباح مساء.
ونعود إلى السر وراء اختيار الله سبحانه لكتاب ليكون المعجزة الوحيدة الباقية، والمستمرة بين معجزات الأنبياء لنقول: إن في هذا، وهو اختيار مثل هذه المعجزة لكتاب في أمة اشتهر عنها البلاغة، وسحر البيان في أشعارها وخطبها ثم تقف هذه الأمة عاجزة ليس فقط عن الإتيان بمثل هذه المعجزة، بل عاجزة حتى عن أن يأتوا بسورة قصيرة من مثله، وهم الذين اشتهروا بأسواقهم الشعرية كسوق عكاظ وغيره من الأسواق التي كانوا يتنافسون فيها، ويختارون من بينها القصيدة الفائزة ليعلقوها على أستار الكعبة دليلًا على عظمة هذه القصائد، واحتفائهم بفوز هذا الشاعر أو ذاك، ثم يتأهل ويستعد بقية الشعراء الذين لم يفوزوا بنظم قصائد جديدة لعام قابل يشتركون بها في احتفالات جديدة طمعًا في الفوز والتفوق بين شعرائهم. أما الشعراء الذين لا يجيدون فن إلقاء الشعر فإنهم يسعون إلى تكليف من يحسن فن الإلقاء بهذه المهمة حتى يجمعوا إلى جودة القصيدة جودة الإلقاء ليكون حظهم في الفوز أكبر وأكثر. وفي العصر الحاضر من هؤلاء الشعراء: أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، فرغم أن أحمد شوقي قد صار أميرًا للشعراء، فإن حافظ إبراهيم قد تفوق عليه في فن إلقاء الشعر، ولهذا فحين ينظم شوقي قصيدة يطلب من حافظ إلقاءها، فيجمع شوقي الحسنيين: جودة النظم وجودة الإلقاء.
وبعد، فنقول: إن اختيار الحق سبحانه وتعالى معجزة نبيه محمد (صلى الله عليه وسلم) كتابًا تعزز الثقة في القرآن الكريم، والحكم بصلاحيته كمعجزة دائمة، وباقية لا ينتهي عصرها، ولا يضعف أثرها، وتظل مهما تعاقبت عليها العصور والدهور معجزة متجددة، دائمة يتحدى بها النبي الأمي محمد (صلى الله عليه وسلم) رُغم أنه لم يخط فيها حرفًا واحدًا، ولم ينطق منها بكلمة واحدة جاء إلى أمة تقيم للكلمة أسواقًا، وللشعر مهرجانًا، ويتبارى فيها الشعراء، وليس هذا فحسب، بل يعلقون القصيدة الفائزة على أستار الكعبة المشرفة، وهي بيت الله تعالى المعظم، فيشتهروا في الأمم شهرتهم بين شعراء الأمم، وتخلد بين القصيد قصائدهم، ويلقبوا بـ(شعراء المعلقات).
وبعد، فهذا هو القرآن الكريم.. الكتاب المبارك الذي يحتفي به المسلمون بعددهم الملياري، وهذا الاهتمام ليس مقصورًا على المسلمين وحدهم، بل يهتم به غير المسلمون ومن يبحث عن المعرفة الإنسانية في أعظم تجلياتها، وعن البيان وسحره، وعن الإعجاز في ألفاظه ومعانيه، حتى في وسائله وغاياته.
إنه القرآن الكريم معجزة الإسلام الباقية، ومنهاجه القويم.. إنه القرآن وكفى!!

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك