وقت مستقطع
علي ميرزا
حين ترتعد الفرائص
شهدت الكرة الطائرة تحولات فنية وتكتيكية كبيرة منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين كانت المدرسة الآسيوية هي السائدة والمثال الأعلى في الأداء الجماعي المتقن، إذ كان اللاعب في ذلك الوقت نتاج منظومة تدريبية تؤمن بأن المهارة هي الأساس، وأن من لا يتقنها لا يجد له مكانا في التشكيلة الأساسية.
فكان اللاعب يجيد بل يتقن الاستقبال والدفاع والإعداد والهجوم، ويؤدي أدواره كافة بكفاءة تجعل من الفريق وحدة متكاملة لا تهتز بتبدل المراكز.
غير أنه مع دخول اللعبة مرحلة «التخصص» بدأت الصورة تتبدل فصار لكل مركز مهارات محددة، وبدأنا نرى لاعبين ومنهم دوليون ترتعد فرائصهم وتحمر وجوههم عندما تأتيهم كرة ليعدوها أو يدافعوها أو يستقبلوها، بل وصل الأمر إلى أن بعضهم يفتقر إلى أبسط أساسيات اللعبة، وكأن مرحلة التكوين (الفئات العمرية) لم تغرس فيهم الجذور الصحيحة.
لا شك أن التخصص يحمل مزايا فنية مهمة، فهو يسمح بتركيز الجهد وتجويد الأداء في مهارة معينة، غير أن المشكلة تكمن في سوء تطبيق هذا المبدأ داخل مراحل التكوين الأولى، فبدل أن يكون التخصص مرحلة متقدمة تأتي بعد الإلمام الشامل بأساسيات اللعبة، أصبح يفرض مبكرا على الناشئين، فتختزل تجربتهم التدريبية في جانب واحد من جوانب اللعب، مما يفرخ لاعبين محدودي وناقصي القدرات، يسهل «كسرهم» تكتيكيا عند الحاجة إلى تنويع الأدوار.
السؤال الجوهري هنا: ماذا إذن يتعلم اللاعبون ويتدربون عليه طيلة وجودهم في فرق الفئات العمرية؟
إذا كانت تلك المرحلة هي المختبر الحقيقي لبناء المهارة وصقلها، فمن غير المقبول أن يخرج منها لاعب لا يحسن أداء مهارات اللعبة، يبدو أن الخلل يكمن في فلسفة التدريب نفسها، التي باتت تركز على النتائج السريعة والمواصفات البدنية أكثر من تركيزها على الجودة المهارية. وكأننا نريد لاعبين بمعلومات جسمانية ولو بمهارات ضعيفة، فنفقد روح اللعبة في سبيل أرقام ومظاهر.
الأمر يشبه تماما ما يحدث في التعليم: ماذا نرتجي من معلم رياضيات لا يجيد العمليات الأساسية من جمع وطرح وضرب؟ أو من معلم لغة عربية يفتقر إلى علم النحو والصرف والبلاغة والتذوق الأدبي؟ لا يمكن للعقل أن يبدع في تخصص دقيق وهو لم يؤسس جيدا في القواعد العامة. وكذلك في الرياضة، لا يمكن للاعب أن يبدع في مركزه وهو لا يملك قاعدة مهارية عريضة تعينه على التكيف مع ظروف اللعب المختلفة.
إن إعادة الاعتبار لفلسفة اللاعب الشامل ليست عودة إلى الوراء كما يبدو للآخرين، بل هي استعادة للجوهر المفقود في زمن التخصص المفرط، المطلوب أن تبنى برامج الفئات العمرية على مبدأ الشمول في التعلم والتكامل في المهارة، بحيث يكون التخصص مرحلة نضج لا نقطة انطلاق. فالمهارة هي اللغة التي يفهم بها اللاعب اللعبة، ومن لا يجيد لغتها لا يمكن أن يبدع فيها، مهما بلغت قدراته البدنية.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك