زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
رجب يسوي العجب
أمامي الآن قصاصة من الزميلة الشرق الأوسط، تحوي حكاية الكرواتي الحاج ريجو (رجب)، وشعرت عند قراءتها بمزيج من الفخر والفرح: هو شخص مارس الفلاحة منذ أن بلغ الخامسة عشرة، وظل قانعا بما تدره عليه أرض أجداده، ولكنه –مثل مئات الآلاف من المسلمين في منطقة البلقان- شهد الأهوال عندما بدأ الصرب ينكلون بهم في تسعينيات القرن الماضي في عمليات إبادة جماعية، فكان أن فقَد رجب خلالها زوجته وشقيقه، وخسر الجرارات والمركبات التي كان يستخدمها في الزراعة حتى بات يبحث عن شريك يأتي بتلك المعدات ويشاركه ريع أرض أجداده.
ذات يوم وجد الحاج رجب لفافة بلاستيكية، وفضّها ليجد بداخلها مليوني يورو أي نحو مليونين وثلاثمائة ألف دولار أمريكي، ولم يجد في اللفافة ما يشير إلى اسم أو عنوان صاحبها، فما كان منه إلا أن توجه إلى محطة التلفزيون المحلية ليعلن من خلالها عثوره على تلك الثروة النقدية، واتضح أنها تخص شخصا باع أرضه وبيته ومحلات تجارية كان يملكها لتوفير المال لعلاج ابنه المصاب بسرطان الدم. ولم تكن تلك أول مرة يعثر فيها رجب على مال ملقى في قارعة الطريق، فقد سبق له أن وجد خلال الفترة المضطربة من تاريخ كرواتيا نحو ستين ألف دولار كان شخص ما قد سحبها من البنك لشراء بيت وسقطت منه، ففوض أمره لله، فأكرمه الله بأن جعل شخصا أمينا شريفا مثل رجب يعثر عليها ويعيدها إليه، وفي كلتا الحالتين رفض رجب الحصول على نسبة 10% من المبلغ التي يسمح القانون بمن عثر عليه الحصول عليها، ولكن الرئيس الكرواتي ومؤسسة «أدرا» الخيرية قاما بتكريمه بمنحه فيلا صغيرة وجميلة.
طبعا لم يسلم حاج رجب من ألسنة الناس فقد وصفه كثيرون بأنه عبيط وأبله ومغفل وساذج «خلي أمانتك تنفعك!!». هؤلاء لا يعرفون متعة الإحساس براحة البال والضمير. هناك من لو رأى –مثلا– ألف دولار تسقط من شخص يسير أمامه، داس عليها برجله ولا يلتقطها إلا بعد أن يطمئن إلى أن صاحب المال لم يحس بفقدانها وواصل سيره، وقد لا يفكر قط في أن ذلك المبلغ يمثل أجرة كذا شهر للمنزل الذي يستأجره صاحب المال الأصلي وتمكن من الحصول عليه بالاقتراض لتفادي حكم بطرده وعائلته من المنزل، فهناك أناس أعطوا ضمائرهم إجازات مفتوحة، ولا يهمهم مصدر المال: خزانة الحكومة أو مال يتيم أو مال تم جمعه بـ«ذريعة» مشروع خيري.
في ذات مناسبة اجتماعية تخصني ودعوت إليها نفرا ليس بالقليل من الناس، توقفت عند طاولة ضمت عددا منهم لتحيتهم بالطريقة العربية المطولة أي بالسؤال عن حال العيال والماعز والضأن والجيران، وبعد دقائق افتقدت هاتفي الجوال، وكنت متأكدا من أنني وضعته على تلك الطاولة كي أمارس التحية باليدين. استخدمت هاتف صديق وأدرت الرقم الخاص بي ولكن الهاتف كان مغلقا. فكرت برهة قصيرة في أن أعود إلى الجالسين على الطاولة وأقول لهم: «أحدكم سرق هاتفي وأرجو أن يعيده بالتي هي أحسن وإلا فالشرطة بيننا!!» ولكنني قررت أن ذلك «عيب». عيب لأنه ليس منطقيا أن يكون جميع الجالسين على الطاولة قد تواطأوا لسرقة الجوال، وبالتالي فليس من حسن الخلق وآداب الضيافة إلقاء الاتهام «جزافا» وأخذ البريء بجريرة المذنب.
حتى في المكاتب صار الواحد منا يحمل هاتفه الجوال إلى دورة المياه. الأمانة صارت عملة نادرة، وأسوأ ما ترتب على ذلك أننا صرنا نسيء الظن بالآخرين، وهذا يؤدي إلى الانغلاق والجفاء.. ولكنني على ثقة بأن الأخيار أكثر عددا من الأشرار، وكل ما هناك هو أن الناس تتداول الأخبار والأقوال «السيئة» في حين تبقى الفعال الحسنة قليلة التداول، ومن ثم فإن الكثيرين منا لم يسمعوا بأمانة الحاج رجب إلا اليوم رغم أن حكاية المليوني يورو تعود إلى نحو عشرة أعوام.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك