في عالم يتسارع فيه التغيير وتزداد فيه التحديات الاقتصادية والتكنولوجية، تبرز الحرية الأكاديمية كأحد أهم ركائز التنمية المستدامة والابتكار. فالحرية الأكاديمية هي الأساس الذي تقوم عليه الجامعات في إنتاج المعرفة، وتطوير البحث العلمي، وتعزيز الابتكار وريادة الأعمال. تسمح هذه الحرية للباحثين والأساتذة والطلاب بالتعبير عن آرائهم، واستكشاف الأفكار الجديدة، دون خوف من الرقابة أو العقوبات السياسية أو الإدارية. هذا يعني أن الجامعات ليست مجرد مؤسسات تعليمية، بل هي مصانع للأفكار ومختبرات للإبداع، حيث يولد المستقبل وتتشكل ملامح الريادة الاقتصادية. هذه البيئة الحرة هي الأساس الذي تقوم عليه الجامعات في إنتاج المعرفة وتطوير البحث العلمي، وجذب المواهب المحلية والدولية، وهي أحد أسباب التقدم العلمي والتكنولوجي في الدول المتقدمة، الذي انعكس إيجابًا على القدرة التنافسية العالمية والتنمية بشكل عام. غير أن هذه الحرية تواجه اليوم ضغوطًا متزايدة حتى في أكثر الدول تقدمًا، مما يهدد مكانة هذه الدول في سباق الاقتصاد العالمي ويضعف قدرتها على مواجهة تحديات المستقبل.
تشير الدراسات إلى أن تراجع الحرية الأكاديمية يؤدي إلى انخفاض واضح في مؤشرات الابتكار. بحسب دراسة منشورة في مجلة (PLOS ONE ) عام 2024، فإن زيادة الحرية الأكاديمية بمقدار انحراف معياري واحد تؤدي إلى زيادة طلبات براءات الاختراع بنسبة 41%، وزيادة الاستشهادات العلمية بنسبة 29%. كما تؤكد الدراسة أن تراجع الحرية الأكاديمية عالميًا في العقد الأخير أدى إلى انخفاض القدرة الابتكارية للدول بنسبة تراوحت بين 4% و8% في الدول ذات القاعدة العلمية القوية. أي أن تراجع الحرية الأكاديمية يهدد المكانة المتقدمة للاقتصاد الأمريكي والأوروبي. فقد حدث مؤخرا في أمريكا تقليص التمويل، وتقييد حرية البحث، مما قد يؤدي إلى تراجع القدرة التنافسية، ويمنح الدول المنافسة، مثل الصين، فرصة للتفوق في مجالات التكنولوجيا والبحث العلمي. كما أن تراجع الحرية الأكاديمية يضعف الشراكة التاريخية بين الجامعات والدولة، والتي كانت من أسس النجاح الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية. في المحصلة فإن الجامعات هي المحرك الرئيسي للابتكار، وتوفير الكفاءات البشرية، ودعم الصناعات المتقدمة.
إن تقييد الحرية الأكاديمية (أيا كانت دوافعه) يؤدي إلى تراجع جودة البحث العلمي وتشويه نتائجه، كما يضعف بيئة الابتكار، ويحد من قدرة الجامعات على جذب المواهب (من مختلف دول العالم أمثال أحمد زويل من مصر وغيره من القيادات التكنولوجية في أمريكا، فمعظمها من أصول آسيوية). إن السياسات التي تفرض قيودًا على تمويل الأبحاث أو تضع شروطًا سياسية على منح التمويل، أو رقابة على نتائج الأبحاث في العلوم الإنسانية بشكل خاص، تؤدي إلى هجرة العقول، وتراجع عدد الباحثين، وإغلاق المختبرات، وانخفاض عدد الطلاب في برامج الدراسات العليا (فمثلا شهدت أمريكا منذ بداية 2025 تراجعا في الطلب على دراسة الماجستير من الخارج بنسبة 61%). كل ذلك ينعكس سلبًا على ريادة الأعمال وعلى التنمية والتقدم بشكل عام، حيث إن الجامعات هي المصدر الرئيسي للإبداع والابتكار والأفكار الريادية وتمثل بيئة داعمة (مفرخة) للشركات الناشئة.
تشهد اليوم الجامعات ضغوطًا متزايدة من الحكومات، سواء عبر تقليص التمويل أو فرض رقابة سياسية على المناهج والأبحاث. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أدت سياسات الإدارة الأمريكية الأخيرة (ولاية ترامب الثانية) إلى تعليق أو إنهاء تمويلات للأبحاث، وفرض غرامات على جامعات كبرى مثل هارفارد وجامعة كاليفورنيا، وفرض ضرائب جديدة على حقوق الملكية الفكرية، وزيادة الرسوم على استقدام الباحثين الدوليين. كما تم التدخل في سياسات التوظيف والقبول، وإلغاء برامج التنوع والشمول، مما أثر في استقلالية الجامعات. اتضح هذا التوجه وازدادت وتيرته منذ اندلاع حرب الإبادة على غزة وظهور الملايين في الشوارع وفي الجامعات. حدا هذا التضييق على الحرية الأكاديمية إلى تنبؤ البعض ببداية النهاية للهيمنة الأمريكية، ما لم يتوقف هذا التدخل الرسمي في الحياة الأكاديمية والابحاث العلمية. من ذلك يتضح، أن الضغوط على الحرية الأكاديمية ليست حكرًا على الدول النامية والاستبدادية، بل وصل إلى الدول الديمقراطية الغربية. فقد سجلت تقارير دولية ارتفاعًا غير مسبوق في حالات العنف ضد الطلاب والأساتذة، والسجن التعسفي، والتدخلات السياسية في الجامعات في دول عدة دول ديمقراطية. هذا الاتجاه يهدد مستقبل البحث العلمي، ويضعف قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات المستقبلية.الدرس الذي نستخلصه من ذلك هو أن معالجة التخلف الذي تعيشه الأمة العربية، والذي جعلها غير قادرة على مواجهة تحديات حرب غزة، يحتاج إلى الاهتمام بالبحث العلمي والاستثمار فيه، بما في ذلك العلوم الإنسانية التي تحلل المجتمعات والمنظومات وتخرج بحلول تدفع نحو التقدم في مختلف المجالات. هذه الأبحاث تحتاج إلى الحرية الفكرية والحرية الأكاديمية بجميع مجالاتها؛ كما تحتاج إلى إيمان عميق بأهمية إنتاج المعرفة وضرورة إزالة التناقض بين الحريات والأمن القومي.
في الختام، فإن الحرية الأكاديمية ليست ترفًا فكريًا ولا مجرد قضية جامعية، بل هي ضرورة استراتيجية وقضية تنموية واقتصادية وسياسية تخص المجتمعات ككل؛ وإن الحفاظ عليها ضروري لضمان استمرار الابتكار، وتعزيز الريادة والابتكار، ودعم النمو الاقتصادي. ينبغي من صناع القرار حماية استقلالية الجامعات، وتوفير التمويل الكافي، وتشجيع بيئة بحثية حرة ومنفتحة، حتى تظل الجامعات مصدرًا للقوة الاقتصادية والمعرفية. إن تراجع هذه الحرية، سواء عبر التدخلات السياسية أو تقليص التمويل، يحمل في طياته مخاطر جسيمة على مكانة الدولة المتقدمة ويمنح المنافسين الآخرين فرصة للتفوق. لذا، فإن حماية استقلالية الجامعات ودعم بيئة بحثية حرة يجب أن يكونا في صميم السياسات التنموية لأي دولة تريد أن تدخل في التنافسية العالمية أو الإقليمية، وتحقيق مستقبل أفضل.
drmekuwaiti@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك