ظلت سوريا خلال العصر الحديث تواجه التحديات وتذهب ضحية المؤامرات التي يحيكها ويدبرها الآخرون. وامتدادا لذلك التاريخ المثخن تواجه سوريا اليوم مشاكل داخلية وخارجية لا حصر لها ولا يمكن حل أي منها بسهولة.
لقد تحولت سوريا في تاريخها من حكم عثماني إلى بقايا بعد أن قَسَّم الفرنسيون والبريطانيون المشرق العربي إرضاءً لمآربهم الاستعمارية. وبسبب سوء الإدارة والانقسامات الطائفية، أصبحت سوريا، مثل «نصفها الآخر» (لبنان)، ساحةً للألعاب الفتاكة التي يمارسها الجيران والآخرون.
في السنوات الأخيرة، تورطت إسرائيل، وإيران، وتركيا، وروسيا، والولايات المتحدة، والفصائل والمليشيات اللبنانية والفلسطينية، والأكراد، وبالطبع داعش، جميعها في التدخل بدرجة ما في سوريا، عسكريًا وسياسيًا. ومثل أطفال متهورين منخرطين في لعبة خطيرة، لم يُعر هؤلاء «الغرباء» أي اهتمام للعواقب الوخيمة لسياساتهم.
عندما بدأت الحرب في سوريا عام 2011، تم تجاهل تحذيرات جميع أولئك الذين قالوا إنها لن تأتي بخير وأنها ستعود بعواقب وخيمة على البلاد. وعندما ارتفع عدد القتلى إلى 5000، وتعالت الدعوات في الولايات المتحدة والعالم العربي إلى تسليح المعارضة السورية، حذّر آخرون من أن إمداد معارضي الرئيس السوري السابق بشار الأسد بمزيد من الأسلحة سيزيد من كمية الأسلحة التي سيوفرها حلفاء نظام الأسد لحمايته.
وهكذا استمرت دوامة العنف والاقتتال وسفك الدماء، حيث استقطبت الفصائل الطائفية من ناحية ونظام الأسد من ناحية أخرى حلفاء كل طرف منهم، حتى تمزقت أوصال البلاد وغُرقت في الدماء.
وبعد 13 عاما من تفجر الصراع الدموي المدمر، زحفت الجماعة المرتبطة بتنظيم القاعدة، والتي سيطرت على محافظة إدلب في شمال سوريا سنوات عديدة، إلى دمشق وأطاحت بنظام الأسد، الذي كان قد تخلى عنه إلى حد كبير بحلول ذلك الوقت داعموه الروس والإيرانيون.
احتفل كثيرون في سوريا وحول العالم بذلك لكن في الواقع، لم يكن هناك ما يُحتفى به. تتراوح تقديرات عدد قتلى الحرب بين 560 ألفًا و680 ألفًا. دُمِّر جزء كبير من البنية التحتية السورية، ونفي أكثر من نصف سكانها أو نزحوا داخليًا، وتداعى التماسك الاجتماعي والسياسي الهش أصلًا في البلاد.
وبمجرد تنصيبها في العاصمة، ارتدت الجماعة، التي كانت تُعتبر منظمة إرهابية سابقًا، بزات رسمية وربطات عنق، وخففت من حدة خطابها لتُظهر قدرتها على إدارة «سوريا الجديدة» بمسؤولية، لكن المهام التي تواجهها قد تكون شاقة. قد يسيطرون على دمشق، لكن بقية البلاد لا تزال ممزقة.
ربما تكون إيران والمليشيات المتحالفة معها قد غادرت أو ضعفت، غير أن روسيا عززت موقعها على طول الساحل لحماية مينائها وقاعدتها الجوية على البحر الأبيض المتوسط، كما أن إسرائيل وتركيا تمركزتا بشكل أعمق.
كانت إسرائيل عدوانية بشكل خاص في الاستيلاء على الأراضي، وتأجيج الصراع الطائفي، وقصف معظم قدرات الدفاع والأمن الداخلي في سوريا. أضف إلى ذلك التحديات الداخلية التي تفرضها المجتمعات السورية المتنوعة عرقيًا وطائفيًا، والتي لا تزال تشعر بعدم الارتياح تجاه ماضي الحكومة الجديدة، وتشكك في أنها قد تغيرت حقًا.
وتستمر الدلائل في الإشارة إلى أن الحكومة الجديدة في دمشق لا تملك السيطرة الكاملة على بعض المليشيات المسلحة التي قاتلت إلى جانبها خلال الحرب الطويلة في سوريا.
في البداية، ارتكب حكام دمشق الجدد أخطاءً متوقعة، مما زاد من صعوبة مهمتهم. فبدلاً من السعي إلى طمأنة موظفي الخدمة المدنية والجيش والشرطة الذين عملوا في ظل نظام الأسد، فقد تم طرد عشرات الآلاف منهم.
وقد أدى هذا إلى تفاقم انعدام الأمن، وجعل مهمة الحكم أكثر صعوبة، وأوجد حشداً ضخماً من العاطلين عن العمل الجدد، وبعضهم يحتفظ بأسلحته وقد يكون مصدراً للاضطرابات في المستقبل.
ورغم أن خطاب الحكومة الجديدة كان واعدًا، إلا أن المشاكل التي تواجهها تُمثل خيارات تبدو مستحيلة. تُقيد هذه الخيارات قدرتها على المضي قدمًا، وإذا ازداد الضغط عليها، فقد تدفعها إلى التكتل واتخاذ إجراءات قمعية متزايدة لتجنب فقدان السلطة.
على سبيل المثال لا الحصر: تواجه الحكومة الجديدة ضغوطاً مالية هائلة لإعادة بناء البلاد، وتنمية اقتصادها، وإعادة تشكيلها ودفع رواتب موظفي الشرطة والخدمة المدنية.
لكن قدرة الحكومة على جمع الأموال وتأمين الاستثمارات الأجنبية تعوقها حقيقة أن نظام الأسد كان خاضعاً لعقوبات دولية، وأن الحكومة الجديدة لا تزال مدرجة على قائمة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كمنظمة إرهابية.
وفي حين تريد العديد من البلدان، عن حق، من الحكومة الجديدة أن تثبت أنها لم تعد الجماعة المتطرفة التي كانت عليها في السابق، فإن التأخير في الدعم يعني فقط التأخير في إعادة بناء سوريا، واستئناف الخدمات اللازمة، وتوفير الرواتب للموظفين العموميين السوريين.
ويبدو أن أسباب التردد الأمريكي في تخفيف العقوبات ترجع جزئياً إلى رغبة المفاوضين الأمريكيين في أن يتوصل السوريون إلى نوع ما من الترتيبات الأمنية مع إسرائيل.
ولكن ثمن مثل هذا الترتيبات سيكون تفاقم التوترات الداخلية، وخاصة مع العناصر المتحالفة مع الحكومة الجديدة التي ستجد في أي اتفاق مع إسرائيل حبة مريرة يصعب ابتلاعها.
خلاصة الأمر يمكن القول إنه عند تقييم كيفية تسوية أي مشكلة، شخصية كانت أو سياسية، لا ينبغي أن يرتكز الحل على متطلبات تفتقر الأطراف إلى القدرة على القيام بها أو ليس لديها أي اهتمام بالقيام بها.
ربما تكون الحكومة الجديدة في سوريا قد أطاحت بالنظام القديم، ولكن على الرغم من أنها ربما حكمت محافظتها في إدلب، فإن الأسئلة لا تزال قائمة حول ما إذا كانت قادرة على تكريس الوحدة الوطنية وحكم النظام السياسي السوري الأكثر تعقيدا وتنوعا.
إن إسرائيل وتركيا وإيران وغيرها من الدول بحاجة إلى مغادرة سوريا والتوقف عن استغلال التوترات الطائفية لتحقيق أهدافها الخاصة، ولكن هذه الأطراف ليس لديها أي مصلحة في القيام بذلك.
لو كان هناك وضعٌ يحتاج فيه العالم إلى أمم متحدة قوية وفعّالة، فإن هذا الوضع يتجسد في سوريا. ففي غياب آلية محايدة للمساعدة في حل النزاعات وإنفاذ سيادة القانون، تُركت سوريا وشعبها وحكامها الجدد لأجهزتهم الخاصة ولأهواء بعض القوى الإقليمية المتربصة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك