اللحظة الراهنة، الإسلام يُفَعلها لتصبح واقعًا حيًا يلتفت إلى الماضي بعيون فاحصة، ويرنو إلى المستقبل بقلب متفائل ملؤه الإصرار والتحدي، وعند التقاء الضدين: الماضي والمستقبل يلتقي الفعل والانفعال، ومن خلال ذلك تنفعل الحضارة وتتفاعل مع غيرها من الحضارات بإيجابياتها وسلبياتها، ويكون كل ذلك نتيجة لتلاقح الحضارات وثباتها.
إذًا، فاللحظة الراهنة تعني الحاضر أو الوقت الحالي، وهي اللحظة الوحيدة التي نملكها فعلًا بين الماضي الذي ولى والمستقبل الذي لم يأت أوانه بعد!
والمسلمون في عصورهم التي مضت: الماضي بتجلياته، والحاضر أو المستقبل الذي كانوا يتطلعون إليه، ويملكون من أسباب تحققه الشيء الكثير.. يملكون الإرادة الحرة المالكة لمقدراتها، ويملكون الثراء المادي، والثراء المعنوي الذي كان خصومهم يحسدونهم عليه.
لقد تدفقت الثروات بين أيديهم حتى أنهم أصابتهم الحيرة في كيفية التصرف بها، وهم قد فاقوا ما كان يملكه قارون، قال تعالى: «إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إنّ الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)» سورة القصص.
لقد أنعم الله تعالى على أمة الإسلام بأعظم النعم، لقد جعلهم أمة الرسالة الخاتمة، والمعجزة الوحيدة الباقية، وجعلهم من أتباع خير الخلق محمد بن عبدالله (صلى الله عليه وسلم)، إنه النبي الخاتم الذي ختم الله تعالى به الرسالات، وبأمته ختم الله تعالى به الأمم، قال تعالى: «..كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله …»
آل عمران/110.
والله تعالى حين يستنفر أمة الإسلام إلى الدفاع عن دينه يكتفي منهم بالقليل، ولا يكلفهم بما لا يطيقون، قال سبحانه: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم …» الأنفال/60.
لقد أعطاهم الله سبحانه ملكة يعرفون بها، ومن خلالها مواطن الخطأ والصواب، ومتى يكون الله تعالى راضيًا عنهم، ومتى يكون غاضبًا عليهم، فيتجنبون مواطن غضبه، ويتقربون إليه في موطن رضاه والقرب منه سبحانه.
في غزوة أحد هُزم المسلمون لأنهم عصوا أمر الرسول القائد، فخالفوا أمره المشدد والصارم بملازمة الجبل، ولا يغادرونه مهما تغيرت الأحوال، أو تبدلت الظروف، وهنا القائد رسول مرسل من عند الله تعالى وهذا يعني مضاعفة الحرص على الاستجابة لنهيه صلى الله عليه وسلم وأمره، وحتى يعلموا خطورة الطاعة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) هزمهم الله تعالى عند المخالفة حتى لا يستهينوا بأمره ونهيه صلى الله عليه وسلم.
لقد كان طعم العقوبة مشددة لأنها جاءت في أعقاب نصرهم في بدر حتى يعلموا خطورة المعصية التي ارتكبوها، وأنها لم تكن معصية عادية من الممكن تجاوزها، والتكفير عنها بمجرد الاستغفار، بل كانت معصية في حق الرسول الذي امنوا به بعد إيمانهم بالله تعالى.
إنها معصية للرسول حين لم يلتزموا بأمره ونهيه، وعلموا أن طاعة القائد أمرٌ يجب عليهم الالتزام به ولو كان في ذلك التضحية بحياتهم، فاكتفى منهم بأن أذاقهم مر الهزيمة، وتعلموا درسًا رسخ في أذهانهم، ووعته قلوبهم بأن طاعة الرسول القائد واجبة مهما تعرضوا بسببها لمخاطر جمة، وأما في حنين، فقد انهزموا فيها بسبب إعجابهم بكثرتهم وظنوا أنها هي الفاعلة والمؤثرة في النصر، فأراد الله تعالى أن يصحح لهم اعتقادهم، ويلهمهم الإخلاص في القول والفعل، قال سبحانه : «ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون» آل عمران/123.
إذًا، فللنصر أسبابه، وللهزيمة أسبابها، وإذا كان العدد والعُدة سببين لا يمكن إنكارهما، أو تجاهلهما، فإن ذلك لا يعني أنهما السببان الوحيدان المؤثران في النصر والهزيمة، وإليكم تشخيص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) حين قال: «يوشك الأمم أن تتداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال، قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت» السلسلة الصحيحة.
لقد كان المسلمون في عصورهم الزاهرة المجيدة يحبون الموت في سبيل الله تعالى كما يحب عدوهم الحياة، وكان القائد المظفر، الصحابي الجليل خالد بن الوليد، يقول كلمته الشهيرة الخالدة للقائد الروماني: جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة!
وها هو خليفة رسول الله يقول للجيش الذاهب إلى ملاقاة العدو: احرصوا على الموت توهب لكم الحياة، حياة الخلود! أما الفاروق (رضي الله عنه) فقد قال لهم وهم في طريقهم إلى ملاقاة العدو: «أيها الناس إنكم إنما تنتصرون على عدوكم بطاعتكم، لله، ومعصيتهم له، فإذا تساويتم معهم في المعصية كانت الغلبة لهم، فهم أكثر منكم عدة وعددًا..».
هكذا كان وعي خلفاء الإسلام الراشدين للنصر والهزيمة، وهذا هو إدراكهم لما ينبغي عليهم أن يفعلوه تجاه أوطانهم وأممهم من الحرص على مواجهة الأعداء، والاستفادة من دروس الماضي، والتطلع إلى ما يرجونه لهم من جلب للنصر ودفع للهزيمة.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك