ما يكشف حقيقة العدالة هو قدرتها على مواجهة الإفلات من العقاب. في الثاني من نوفمبر، يُحيي العالم يوما دوليا مخصصا لهذه القضية، تأكيدا لأن احترام الكلمة جزء من عدالة أي دولة، وأن حماية من ينقلون الحقيقة واجب لا يمكن التهاون فيه.
لم يسعَ أولئك إلى بطولة. كانوا يؤدون عملهم كما يفعلون كل يوم، من دون أن يتخيلوا أن الكلمة قد تكلفهم حياتهم.
في غزة تحديدا، وبحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين والمكتب الإعلامي الحكومي هناك، فقد المئات حياتهم وهم يحاولون توثيق ما يجري.
هذا اليوم لا يخص الصحفيين وحدهم. فكل من يحترم الحقيقة، أينما كان موقعه، يشارك في حفظ معناها واستمرارها.
أحيانا تكون الكلمة «بنت اللحظة» ولكن أثرها يدوم سنوات، الآن الجميع يتكلم، والمنابر في كل مكان. المشكلة ليست في الكثرة، بل فيمن يتكلم بأمانة ومن لا يهمه الأمر.
في كثير من الأوقات تمر بنا مواقف تبدو بسيطة، لكنها تختبر شجاعتنا في التعبير.. سواء في البيت، أو في مجال العمل، وحتى بين الأصدقاء. نرى ما يستحق أن يُقال، ثم نصمت خوفا من الإحراج أو حفاظا على الود أو حتى المكانة. نؤجل الحديث إلى وقت نراه أنسب، لكن الأنسب لا يأتي.
وما نسكت عنه لا يزول، يبقى مثل الغبار الخفيف يتراكم بين القلوب. ويكفي أن نتأمل قوله تعالى: «ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد»، لندرك أن الكلمة تترك أثرها مهما بدا بسيطا، حتى حين تخرج في لحظة غضب أو حماس.
وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قوله: «وهل يُكب الناسَ على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم».
تختلف الأزمنة والميادين، لكن الهاجس واحد: أن تبقى الحقيقة ممكنة، وألا يُخنق الصدق بالخوف.
في البحرين، ولله الحمد، جاءت التعديلات الجديدة على قانون الصحافة لتفتح صفحة مختلفة في علاقة الكلمة بالقانون. فقد ألغت عقوبة الحبس في قضايا النشر، ونظّمت واقع الإعلام الإلكتروني الذي أصبح جزءًا من حياة الناس اليومية.
تعد تلك خطوة تحمل في معناها وعيا بأهمية حرية التعبير، وإدراكا لدور الصحافة في بناء الثقة بين المجتمع ومؤسساته.
ومع ذلك، تبقى الطموحات دائما مفتوحة نحو مساحة أوسع للتعبير المسؤول، لتُرسخ مبدأ المشاركة وتقوية الإيمان بالعدالة والنزاهة.
فالقانون، مهما اتسع نصه، لا يكتمل أثره إلا حين تُمارَس الحرية بوعي يجمع بين الحق والواجب، وعندها فقط تتقوى المجتمعات وتستقر. فلا تنمية بلا وعي.
وحين تتكامل جهود الدولة والمجتمع في فتح مساحات للحوار وقبول الاختلاف، يصبح الإصغاء طريقا للفهم، والبصيرة سبيلا للاستقرار.
ككاتبة، أعرف ثقل القلم قبل أن يُخطّ. أعترف أنني مازلت أتردد أحيانا قبل نشر ما أكتب، والخوف من أن تُفهم الفكرة التي اريد ايصالها على غير وجهها، أو يُغلق باب كان يجب أن يظل مفتوحا.
ومع ذلك، أؤمن بأن بقاء الصوت الحر في بلادي ضرورة؛ لأنه مساحة للنور والصدق، يقرب بين العقول بدل أن يباعد بينها، ويمنح كل صوت نزيه حقه في أن يُسمع بلا رهبة. ومن يختار أن يكون رسولا للحقيقة، إنما يبحث عن ضوء يصل إلى الآخرين.
في الثاني من نوفمبر، نتذكر من دفعوا حياتهم ثمنا للحقيقة. ونتذكر أن العدالة لا تسقط بالتقادم، حتى لو تأخرت.
rajabnabeela@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك