في زمنٍ تتزايد فيه التحديات البيئية وتقلّ فيه المساحات الخضراء، تبرز الحاجة إلى مبادراتٍ تُعيد الإنسان إلى علاقته الأولى بالطبيعة، علاقة العطاء والانسجام. ومن هنا تنطلق فكرة مبادرة «بذرة أثر»، التي تأتي في إطار أسبوع الشجرة في البحرين لتغرس في المجتمع وعيًا جديدًا يرى في الشجرة أكثر من مجرد نبات، بل رمزًا للحياة والاستدامة والمسؤولية. وفي كل عام، يأتي أسبوع الشجرة ليذكّرنا بأن العطاء يبدأ من غرس صغير، وأن حماية البيئة ليست مهمة فرد، بل مسؤولية مجتمع بأكمله.
 هذا العام، اكتسى الأسبوع بطابعٍ مختلف، إذ تحوّل إلى منصة تعليمية وتوعية حقيقية بـ غرس «بذرة أثر» التي ربطت بين التعليم والعمل البيئي في مشهد يجمع الوعي فعًلا، والفكر بالممارسة.
وتحت شعار «من التعليم إلى التغيير»، تواصل البحرين سعيها لبناء جيل يؤمن بأن حماية البيئة ليست واجبًا مؤقتًا، بل أسلوب حياة. فكل شجرة تُزرع اليوم هي وعد بمستقبل أكثر جمالًا، وكل مبادرة تُتبنّى هي خطوة نحو وطنٍ يزدهر بالوعي والمسؤولية، وتقوم «بذرة أثر» على فكرة بسيطة لكنها عميقة: أن التشجير المدرسي أكثر من مجرد زراعة. فغرس الأشجار والنباتات في فضاءات المدارس ليس نشاطًا وقتيًا، بل خطوة لبناء ثقافةٍ بيئية تُعلّم الجيل الجديد أن الاهتمام بالطبيعة يبدأ من محيطه الصغير ويمتد إلى المجتمع بأسره. تهدف المبادرة إلى تحويل التعليم البيئي إلى سلوكٍ حياتي، حيث يصبح كل طالب شريكًا فاعلًا في رحلة العطاء البيئي، يرى أثر جهده يتحول إلى خضرةٍ تزيّن فَنَاء مدرسته، ثم إلى وعيٍ يرافقه في بيته وشارعه ومجتمعه. إنها دعوة إلى تربية جيلٍ لا يكتفي بزرع الشتلات، بل يزرع القيم والالتزام والمسؤولية.
إن زراعة الأشجار في المدرسة تعلم الطلاب قيمًا أساسية، مثل الصبر، المثابرة، والمسؤولية. وهي بذلك تربط التعلم بالقيم البيئية، حيث يكتسب الطلاب فهمًا عمليًا لمفاهيم الاستدامة: المحافظة على الموارد، إعادة الاستخدام، الحفاظ على الطاقة والمياه، والاعتناء بالكائنات الحية. كل شجرة تُزرع، وكل زهرة تُعتنى بها، تظهر درسًا حيًا في أن حماية البيئة مسؤولية جماعية وفردية في آن واحد. ولأن التغيير لا يتحقق إلا بتكاتف الجهود، تدعو المبادرة إلى تعاون المؤسسات التربوية والوزارات والبلديات والمجتمع المحلي في البحرين، لتتسع دائرة الأثر من المدارس إلى الأحياء، ومن التعليم إلى الممارسة، في انسجامٍ مع توجهات المملكة نحو الاستدامة وحماية البيئة. فكل شجرة تُزرع اليوم هي بذرة لمستقبلٍ أكثر وعيًا وخُضرة، وكل يدٍ تمتد للغرس هي وعدٌ بأن البحرين ستبقى وطنًا يحتفي بالحياة، ويزرع الأمل في كل ركنٍ من أرضه.
تهدف المبادرة إلى تحويل التعليم البيئي إلى تجربة حية وسلوكٍ مستدام، بحيث يصبح كل طالب شريكًا في صناعة الأثر البيئي، يرى نتيجة جهده تنمو أمامه يومًا بعد يوم، فيتعلم أن التغيير الحقيقي يبدأ من الفعل، لا من القول. ومن خلال هذا النهج، تسعى المبادرة إلى غرس قيم المسؤولية والانتماء، وتعزيز روح المواطنة البيئية في نفوس الناشئة، ومبادرة «بذرة أثر» تحمل رسالة بسيطة لكنها عميقة: كل طالب يسهم بزرع شجرة، ليصبح جزءًا حيًا من حماية البيئة وغرس قيم المسؤولية البيئية منذ بداياته الدراسية.
مازلت أذكر تلك اللحظات بوضوح في مدرستي، عندما كنت أعمل معلمة في إحدى المدارس الثانوية بالمملكة، شاركت طالباتي في تنفيذ العديد من الممارسات البيئية، حيث قامت عدة طالبات بزرع شجيرات صغيرة خاصة بهن. اخترنا أشجار الياسمين الهندي، والتي أضفت لمسة جمالية وعطرية على فناء المدرسة: أصابع الطالبات وهنّ يغرسنّ الشتلات بعناية، وابتساماتهم وهن يسقين الأرض، والفرحة التي ملأت وجوههن عند رؤية الأشجار الصغيرة تنمو أمامهن. واليوم، عندما أزور المدرسة وأرى تلك الأشجار، وقد نمت وكبرت، يغمرني شعور بالفرحة والفخر؛ فهي لم تعد مجرد نباتات، بل أصبحت رمزًا حيًا لما زرعناه من قيم ومسؤوليات لدى الطلاب. هذه التجربة تثبت أن المبادرات الصغيرة، مثل «بذرة أثر»، تترك أثرًا طويل المدى في نفوس الطلاب وفي البيئة المدرسية، وتعزز مفهوم الاستدامة بطريقة عملية وملموسة.
إن مؤسساتنا التعليمية في البحرين تعمل كمنصات حيوية لغرس القيم والسلوكيات البيئية في نفوس الأجيال القادمة. ومن بين المبادرات المؤثرة والبسيطة التي أثبتت فعاليتها في هذا السياق، تأتي زراعة الأشجار داخل الحرم المدرسي، باعتبارها أكثر من مجرد نشاط زراعي، بل وسيلة تربوية متكاملة تعزز مفهوم المسؤولية البيئية. 
لذا فإن زراعة الأشجار خاصة في فَنَاء المؤسسات التعليمية يعزز مفهوم المسؤولية البيئية، التي من أهمها: التجربة المباشرة والتي يشارك الطلبة فعليًا في غرس الأشجار ورعايتها، مما يرفع من مستوى الشعور بالمسؤولية تجاه بيئتهم المدرسية انطلاقًا من الممارسات البيئية بشكل يومي.
 وبهذا يتكون لدى الطلبة ارتباط عاطفي نتيجة العناية المستمرة بالأشجار المزروعة من قبلهم، ثم تنشأ علاقة وجدانية بــ الطبيعة، ما يعزز تقديره للموارد البيئية في وطنه. وكذلك فإن هذه التجربة تجعل من النشاط البيئي جزءًا من الحياة المدرسية، وترسخ هذا العمل كمبدأ تطبيقي ناتج عن الفهم النظري للمناهج البيئية، وكذلك فإنها توفر فرصة لفهم قضايا مثل التغير المناخي، وحماية الغطاء النباتي في بيئتنا من التدهور وتقليل نسب التلوث في الهواء، وعلى هذا الأساس يتكون لدى الطلبة الشعور بأنه جزء من حل بيئي وطني، مما يسهم في تنمية روح المبادرة والعمل التطوعي من أجل المصلحة الوطنية.
أن هذه المبادرات ليست مجرّد زرع شجرة، بل هي درس حيّ في الاستدامة، ووسيلة تعليمية عملية تُرسّخ في ذهن الطالب مفاهيم كالحفاظ على البيئة، والارتباط بالهوية الوطنية، واحترام النظم البيئية. فعندما يزرع الطالب شجرة، يصبح مسؤولًا عن متابعتها، سقيها، ملاحظة نموّها، وربما حتى التفاعل مع محيطها من طيور وكائنات. إنها عملية تربوية مستمرة، تتجاوز حدود الكتاب والمقرر، ولجعل مبادرة «بذرة أثر» أكثر تأثيرًا، يمكن للمدارس تبني عدة أفكار مبتكرة:
 خريطة التشجير المدرسي: إنشاء خريطة لكل مدرسة تحدد مواقع الأشجار والأحواض والأصص، مع ترك مساحات حرة للطلاب ليختاروا ويعتنوا بها.
 المسؤوليات الفردية والجماعية: يمكن تخصيص كل ممر أو فَنَاء في المدرسة لطالب أو مجموعة من الطلاب، ليكونوا مسؤولين عن تنسيقه وزراعة الأصص والنباتات فيه.
 الأحواض والأصص المحمولة: تشجيع الطلاب على زراعة النباتات في أحواض وأصص يمكن نقلها حول المدرسة، مما يمنحهم حرية الإبداع في التصميم والزرع.
 المشاركة المجتمعية: دعوة أولياء الأمور والمجتمع المحلي للمشاركة في التشجير، وزيارة المدرسة لرؤية تأثير الطلاب، وتعزيز روح المسؤولية البيئية في المجتمع كله.
وفي نهاية المطاف، يمكن القول إن مبادرة التشجير في المدارس تتجاوز كونها مجرد نشاط رمزي. إنها تجربة تعليمية شاملة، تنمي الوعي البيئي، وتعزز المسؤولية الفردية والجماعية، وتخلق عِلاقة قوية ومندمجة بين الطالب والطبيعة. وبواسطة هذه المبادرات، تتحول المدارس إلى مختبرات حية للبيئة، حيث يتعلم الطلاب أن كل شجرة تُزرع هي خطوة نحو مستقبل أكثر استدامة وكوكب أكثر خضرة.
 
  
  
  
 
 
 
                	
                	
                	





 
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك