ليالي المحرّق هذه الأيام لا تحتاج شرحا بصراحة، يكفيك أن تكون في المكان لتفهم ما يحدث وماذا أقصد. الأزقّة تمتلئ بالناس، والوجوه تعطي المكان حياة لا نشعر بها في بقية العام.. كأن المحرق تستعيد روحها عندما تمتلئ بهذا القدر من الخطوات والأصوات.
في زيارتي قبل أيام، كنت أمشي مع زوجي بجانب بائع الوبّة الحارة التي نحبها. المكان مزدحم بشكل جميل، لا خانقا ولا فارغا، فجأة لمحنا أسرة قابلناها العام الماضي في المكان نفسه تقريبا.
كانت التحية بيننا دافئة جدا، وبيننا ألفة لا نعرف مصدرها، رغم أننا لا نعرف أسماء بعضنا البعض. صارت ليالي المحرّق في تلك اللحظة موعدا غير متفق عليه، نلتقي فيه مرة كل عام، لحظة عفوية، لكنها تكشف معنى واضحا عن بلد يقوم على القرب من دون حاجة إلى البحث عنه.
ولا يمكن تجاهل التنظيم هذا العام.
المسارات أوضح، الحركة أسهل، والناس الذين يشرفون على الفعالية يتعاملون مع الزوار بهدوء واحترام ودراية عالية جدا. الترتيب الجيد يجعل المكان مريحا فعلا، وهذا أمر يُحسب للقائمين على الفعالية من واقع التجربة لا من باب المجاملة.
مثل هذه الفعاليات لا تغيّر شكل المكان فقط، بل تدخل في تفاصيل يوم الناس وإيقاعهم بشكل مباشر؛ من أصحاب الأكشاك، إلى العائلات التي تنتظر هذا الموسم للخروج والاستمتاع معا، إلى الأطفال الذين يصنعون ذاكرتهم الآن من دون أن ينتبهوا لذلك.
أما هوى المنامة، الذي ننتظره، فما زال اسمه يتردّد بوصفه محطة قادمة في هذا المزاج الشتوي، فعالية مختلفة بطريقتها، لكنها تكمل نبض الموسم، والمثير أن الشعور ينتقل بين المدينتين بسهولة، كأن البحرين تختصر المسافة بطبيعة أهلها.
ومع هذه الأجواء، يعود لي شيء من الحنين القديم، من تفاصيل طفولتي في المنامة، وفي فريق الحطب تحديدا. البراحة الصغيرة بجانب بيتنا كانت عالمنا المفتوح. العصرية موعدنا اليومي. نرسم «السكون» على الأرض، نقذف الحصاة بسرعة، ونقفز ونحن نضحك لأن اللعبة أحيانا كانت أسرع من أقدامنا. ثم ننتقل إلى «القفّة»، خمس حصوات فقط، لكنها كانت وقتها كل ما نملك من متعة وتركيز.
وأكثر ما كان يرافق تلك اللحظات رائحة كباب أمي، تصل إلينا ونحن نلعب، تمتد من بيتنا إلى بيوت الجيران، كأنها تنبيه بأن وقت الرجوع اقترب. كانت الرائحة تصل إلى آخر الفريج، إلى سابع بيت تقريبا، فنضحك ونكمل اللعب ونحن نعرف أن البيت قريب، والعشاء قريب، وأن الدفء ينتظرنا هناك.
اليوم للأسف تغيّر إيقاع البيوت.
الأطفال يمضون وقتا أطول أمام الشاشات، واللقاءات التي كانت تحدث بين الجيران تلقائيا لم تعد تأتي بالسهولة نفسها. العلاقات لم تختفِ، لكنها لم تعد ظاهرة كما كانت، وهذا يترك أثره على الإحساس اليومي بالقرب بين الناس.
في هذه المساحات المفتوحة التي تجمع الناس بلا ترتيب مسبق، يذوب السؤال عن الاختلاف تلقائيا. لا أحد يُسأل من أين أتى أو ماذا يمثّل، الجميع يتحرك في الإيقاع نفسه وبالطمأنينة نفسها. يمضي التنظيم بانسجام، وتمضي الجموع بحركة طبيعية، وتظهر بينهما صورة ناس اعتادوا أن يتباينوا من دون أن يفسد ذلك ودّهم.
وفي نهاية كل موسم، يتأكد الشعور نفسه؛ أن البحرين ليست المكان فقط، بل الناس الذين يملؤونها. نلتقي في ليالي المحرق، ننتظر هوى المنامة، ونحمل معنا ذكرى طفولة لم تمت، بل تتجدد في وجوه أطفالنا اليوم. وحين تأتي أعيادنا الوطنية في هذا الموسم بالذات، تكتمل الصورة؛ نحتفل بما يجمعنا الآن، بالوجوه والأصوات والذكريات، قبل أن نحتفل بما كان.
rajabnabeela@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك