العدد : ١٧٤٣٠ - الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٣٠ - الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

من ليالي المحرق إلى هوى المنامة.. وطن يبنى بالناس

بقلم: نبيلة رجب

الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٥ - 02:00

ليالي‭ ‬المحرّق‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬لا‭ ‬تحتاج‭ ‬شرحا‭ ‬بصراحة،‭ ‬يكفيك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬لتفهم‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬وماذا‭ ‬أقصد‭. ‬الأزقّة‭ ‬تمتلئ‭ ‬بالناس،‭ ‬والوجوه‭ ‬تعطي‭ ‬المكان‭ ‬حياة‭ ‬لا‭ ‬نشعر‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬العام‭.. ‬كأن‭ ‬المحرق‭ ‬تستعيد‭ ‬روحها‭ ‬عندما‭ ‬تمتلئ‭ ‬بهذا‭ ‬القدر‭ ‬من‭ ‬الخطوات‭ ‬والأصوات‭.‬

في‭ ‬زيارتي‭ ‬قبل‭ ‬أيام،‭ ‬كنت‭ ‬أمشي‭ ‬مع‭ ‬زوجي‭ ‬بجانب‭ ‬بائع‭ ‬الوبّة‭ ‬الحارة‭ ‬التي‭ ‬نحبها‭. ‬المكان‭ ‬مزدحم‭ ‬بشكل‭ ‬جميل،‭ ‬لا‭ ‬خانقا‭ ‬ولا‭ ‬فارغا،‭ ‬فجأة‭ ‬لمحنا‭ ‬أسرة‭ ‬قابلناها‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬نفسه‭ ‬تقريبا‭.‬

كانت‭ ‬التحية‭ ‬بيننا‭ ‬دافئة‭ ‬جدا،‭ ‬وبيننا‭ ‬ألفة‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬مصدرها،‭ ‬رغم‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬أسماء‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭. ‬صارت‭ ‬ليالي‭ ‬المحرّق‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬موعدا‭ ‬غير‭ ‬متفق‭ ‬عليه،‭ ‬نلتقي‭ ‬فيه‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬لحظة‭ ‬عفوية،‭ ‬لكنها‭ ‬تكشف‭ ‬معنى‭ ‬واضحا‭ ‬عن‭ ‬بلد‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬القرب‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عنه‭.‬

ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهل‭ ‬التنظيم‭ ‬هذا‭ ‬العام‭.‬

المسارات‭ ‬أوضح،‭ ‬الحركة‭ ‬أسهل،‭ ‬والناس‭ ‬الذين‭ ‬يشرفون‭ ‬على‭ ‬الفعالية‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬الزوار‭ ‬بهدوء‭ ‬واحترام‭ ‬ودراية‭ ‬عالية‭ ‬جدا‭. ‬الترتيب‭ ‬الجيد‭ ‬يجعل‭ ‬المكان‭ ‬مريحا‭ ‬فعلا،‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬يُحسب‭ ‬للقائمين‭ ‬على‭ ‬الفعالية‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬التجربة‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬المجاملة‭.‬

مثل‭ ‬هذه‭ ‬الفعاليات‭ ‬لا‭ ‬تغيّر‭ ‬شكل‭ ‬المكان‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬تدخل‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬وإيقاعهم‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر؛‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الأكشاك،‭ ‬إلى‭ ‬العائلات‭ ‬التي‭ ‬تنتظر‭ ‬هذا‭ ‬الموسم‭ ‬للخروج‭ ‬والاستمتاع‭ ‬معا،‭ ‬إلى‭ ‬الأطفال‭ ‬الذين‭ ‬يصنعون‭ ‬ذاكرتهم‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ينتبهوا‭ ‬لذلك‭.‬

أما‭ ‬هوى‭ ‬المنامة،‭ ‬الذي‭ ‬ننتظره،‭ ‬فما‭ ‬زال‭ ‬اسمه‭ ‬يتردّد‭ ‬بوصفه‭ ‬محطة‭ ‬قادمة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المزاج‭ ‬الشتوي،‭ ‬فعالية‭ ‬مختلفة‭ ‬بطريقتها،‭ ‬لكنها‭ ‬تكمل‭ ‬نبض‭ ‬الموسم،‭ ‬والمثير‭ ‬أن‭ ‬الشعور‭ ‬ينتقل‭ ‬بين‭ ‬المدينتين‭ ‬بسهولة،‭ ‬كأن‭ ‬البحرين‭ ‬تختصر‭ ‬المسافة‭ ‬بطبيعة‭ ‬أهلها‭.‬

ومع‭ ‬هذه‭ ‬الأجواء،‭ ‬يعود‭ ‬لي‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬الحنين‭ ‬القديم،‭ ‬من‭ ‬تفاصيل‭ ‬طفولتي‭ ‬في‭ ‬المنامة،‭ ‬وفي‭ ‬فريق‭ ‬الحطب‭ ‬تحديدا‭. ‬البراحة‭ ‬الصغيرة‭ ‬بجانب‭ ‬بيتنا‭ ‬كانت‭ ‬عالمنا‭ ‬المفتوح‭. ‬العصرية‭ ‬موعدنا‭ ‬اليومي‭. ‬نرسم‭ ‬‮«‬السكون‮»‬‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬نقذف‭ ‬الحصاة‭ ‬بسرعة،‭ ‬ونقفز‭ ‬ونحن‭ ‬نضحك‭ ‬لأن‭ ‬اللعبة‭ ‬أحيانا‭ ‬كانت‭ ‬أسرع‭ ‬من‭ ‬أقدامنا‭. ‬ثم‭ ‬ننتقل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬القفّة‮»‬،‭ ‬خمس‭ ‬حصوات‭ ‬فقط،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬وقتها‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نملك‭ ‬من‭ ‬متعة‭ ‬وتركيز‭.‬

وأكثر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يرافق‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬رائحة‭ ‬كباب‭ ‬أمي،‭ ‬تصل‭ ‬إلينا‭ ‬ونحن‭ ‬نلعب،‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬بيتنا‭ ‬إلى‭ ‬بيوت‭ ‬الجيران،‭ ‬كأنها‭ ‬تنبيه‭ ‬بأن‭ ‬وقت‭ ‬الرجوع‭ ‬اقترب‭. ‬كانت‭ ‬الرائحة‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬الفريج،‭ ‬إلى‭ ‬سابع‭ ‬بيت‭ ‬تقريبا،‭ ‬فنضحك‭ ‬ونكمل‭ ‬اللعب‭ ‬ونحن‭ ‬نعرف‭ ‬أن‭ ‬البيت‭ ‬قريب،‭ ‬والعشاء‭ ‬قريب،‭ ‬وأن‭ ‬الدفء‭ ‬ينتظرنا‭ ‬هناك‭.‬

اليوم‭ ‬للأسف‭ ‬تغيّر‭ ‬إيقاع‭ ‬البيوت‭.‬

الأطفال‭ ‬يمضون‭ ‬وقتا‭ ‬أطول‭ ‬أمام‭ ‬الشاشات،‭ ‬واللقاءات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحدث‭ ‬بين‭ ‬الجيران‭ ‬تلقائيا‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تأتي‭ ‬بالسهولة‭ ‬نفسها‭. ‬العلاقات‭ ‬لم‭ ‬تختفِ،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ظاهرة‭ ‬كما‭ ‬كانت،‭ ‬وهذا‭ ‬يترك‭ ‬أثره‭ ‬على‭ ‬الإحساس‭ ‬اليومي‭ ‬بالقرب‭ ‬بين‭ ‬الناس‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬المساحات‭ ‬المفتوحة‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬الناس‭ ‬بلا‭ ‬ترتيب‭ ‬مسبق،‭ ‬يذوب‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬الاختلاف‭ ‬تلقائيا‭. ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يُسأل‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتى‭ ‬أو‭ ‬ماذا‭ ‬يمثّل،‭ ‬الجميع‭ ‬يتحرك‭ ‬في‭ ‬الإيقاع‭ ‬نفسه‭ ‬وبالطمأنينة‭ ‬نفسها‭. ‬يمضي‭ ‬التنظيم‭ ‬بانسجام،‭ ‬وتمضي‭ ‬الجموع‭ ‬بحركة‭ ‬طبيعية،‭ ‬وتظهر‭ ‬بينهما‭ ‬صورة‭ ‬ناس‭ ‬اعتادوا‭ ‬أن‭ ‬يتباينوا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفسد‭ ‬ذلك‭ ‬ودّهم‭.‬

وفي‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬موسم،‭ ‬يتأكد‭ ‬الشعور‭ ‬نفسه؛‭ ‬أن‭ ‬البحرين‭ ‬ليست‭ ‬المكان‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يملؤونها‭. ‬نلتقي‭ ‬في‭ ‬ليالي‭ ‬المحرق،‭ ‬ننتظر‭ ‬هوى‭ ‬المنامة،‭ ‬ونحمل‭ ‬معنا‭ ‬ذكرى‭ ‬طفولة‭ ‬لم‭ ‬تمت،‭ ‬بل‭ ‬تتجدد‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬أطفالنا‭ ‬اليوم‭. ‬وحين‭ ‬تأتي‭ ‬أعيادنا‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الموسم‭ ‬بالذات،‭ ‬تكتمل‭ ‬الصورة؛‭ ‬نحتفل‭ ‬بما‭ ‬يجمعنا‭ ‬الآن،‭ ‬بالوجوه‭ ‬والأصوات‭ ‬والذكريات،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نحتفل‭ ‬بما‭ ‬كان‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا