تواجه أسواق الطاقة العالمية تحولات كبيرة نتيجة لعديد من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية، والتي تتضمن تزايد الطلب على الطاقة وتطور التكنولوجيات الجديدة. في هذا السياق، تقدم وكالة الطاقة الدولية توقعاتها السنوية التي تبرز الديناميكيات المتغيرة في صناعة النفط والطاقة.
ورغم التقدم الملحوظ في مجال الطاقة المتجددة، يبقى النفط أحد المصادر الأساسية للطاقة العالمية على المدى الطويل. وسط هذه التحولات، يظهر دور المعادن الحيوية في تأمين مستقبل الطاقة، مع تزايد أهمية هذه الموارد في بناء شبكات الطاقة الحديثة. وسيتم تناول التوقعات المستقبلية للطلب على النفط، والتحديات التي تواجه أسواق الطاقة العالمية، وتأثير الضغط السياسي والتغيرات الجيوسياسية في تشكيل هذه التوقعات.
لقد تناول رون بوسو، كاتب عمود بوكالة رويترز، تقارير وكالة الطاقة الدولية بشأن توقعاتها السنوية لسوق الطاقة العالمية، ووصفها بأنها «دورية»، حيث تقوم الوكالة، التي تتخذ من باريس مقرًا لها، بتعديل توقعاتها بناءً على ديناميكيات السوق وعوامل اقتصادية وجيوسياسية واسعة.
لكن الوضع اختلف في عام 2025، حيث نُشرت أحدث نتائج وكالة الطاقة الدولية في نوفمبر 2025 بالتزامن مع مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (كوب 30) في مدينة «بيليم» البرازيلية. بالإضافة إلى تقييم الوكالة بأن تجارة الطاقة العالمية أصبحت «أكثر أهمية من أي وقت مضى»، تتوقع الوكالة أن يرتفع الطلب العالمي على الطاقة بنسبة 32% بحلول منتصف القرن الحالي.
ومع ذلك، أشارت كيت دوريان، زميلة غير مقيمة في معهد دول الخليج العربية، إلى أن معظم «التعليقات والتفسير» تركزت حول سيناريو محدد يتوقع زيادة كبيرة في الطلب على النفط على مدار العقود المقبلة، حيث يتجاوز الطلب في النهاية 113 مليون برميل يوميًا.
ونظرًا لأن وكالة الطاقة الدولية كانت قد تقدمت بتوقعات سابقة تشير إلى بلوغ الطلب العالمي على النفط ذروته بحلول نهاية العقد الحالي، فقد اختلفت التحليلات حول أسباب تحول هذه النظرة بشكل ملحوظ. وأشار بوسو إلى أن التوقعات المتعلقة بمستقبل الطاقة تشبه «مناورة سياسية»، بينما تساءلت جرانت سميث من وكالة بلومبرج عن كيف أن «إعادة التقييم الأخيرة لآفاق النفط على المدى الطويل» كانت تطورًا غير مفاجئ بالنسبة إلى مراقبي السوق، بالنظر إلى دفاع إدارة ترامب عن «الوقود الأحفوري» ومهاجمتها الطاقة المتجددة.
وفي تعليقه على هذا، وصف بوسو نتائج وكالة الطاقة الدولية بأنها «إشارة» إلى ضغوط سياسية أمريكية، و«جرس إنذار» للحكومات التي تأمل في تعزيز التحول العالمي للطاقة وأهداف الانبعاثات الصفرية. ورغم أن فاتح بيرول، المدير التنفيذي للوكالة، أقر بأن «الأولوية المعطاة لتغير المناخ» من قبل القادة الوطنيين والدوليين «تراجعت بشكل ملحوظ في معظم الحالات»، فإن الوكالة تشير إلى أن «المخاطر التقليدية للإمدادات» باتت الآن مصحوبة بـ «قيود على إمدادات المعادن الحيوية» اللازمة لإنتاج وصيانة مصادر الطاقة المتجددة.
وتوضيحًا لهذه النقطة، أوضحت الوكالة كيف أن «الهشاشة الجيوسياسية» تتعايش مع «انخفاض أسعار النفط»، وهو ما يُعزى إلى «توازنات السوق» التي أظهرت فائضًا كبيرًا في العرض مقارنة بالطلب. وخلصت وكالة الطاقة الدولية إلى أن السوق العالمية ستظل تتمتع بـ «إمدادات جيدة على المدى القريب». فعلى سبيل المثال، مع زيادة الإنتاج من خارج منظمة «أوبك»، أوردت جيليان أمبروز من صحيفة الجارديان أنه «قد يكون هناك فائض يصل إلى 4 ملايين برميل يوميًا في السوق بحلول عام 2026».
لكن على المدى الطويل، من المتوقع أن يتجاوز نمو الطلب نمو الإنتاج. وبحلول عام 2035، يتوقع أن يزيد الطلب بمقدار 5 ملايين برميل يوميًا، مع تقديرات تفيد بأن الهند وإندونيسيا ستستوردان ما لا يقل عن 3% من احتياجاتهما النفطية سنويًا خلال العقد المقبل، مما يرفع إجمالي صادرات النفط إلى 105 ملايين برميل يوميًا.
وأشار بوسو إلى أن «التحول الحاد» في حسابات وكالة الطاقة الدولية كان مدفوعًا بـ «سيناريو السياسات الحالية»، الذي يعتمد على اللوائح الحكومية المتعلقة بمستويات الانبعاثات، ويعطي «رؤية حذرة بشأن سرعة نشر تقنيات الطاقة الجديدة». بناءً على هذه الحسابات، ومع الأخذ في الاعتبار «الانخفاضات في الإنتاج من الحقول الحالية وزيادة الاستهلاك»، قدرت الوكالة أن السوق ستحتاج إلى حوالي 25 مليون برميل من النفط يوميًا كإمدادات جديدة بحلول عام 2035.
فيما يتعلق بكيفية سد هذه الفجوة في العرض، توقعت وكالة الطاقة الدولية أن تستحوذ دول أوبك «على ما يصل إلى 62 مليون برميل من النفط يوميًا، وهو رقم أشارت دوريان إلى أنه «أعلى بنسبة 15% من أي وقت مضى». وبالتوازي مع هذا، يُتوقع أن تنتج المملكة العربية السعودية ما يصل إلى 13 مليون برميل من النفط يوميًا بحلول عام 2050، بشرط أن تتراجع عن سياسة خفض طاقتها الإنتاجية. أما بالنسبة إلى الأسعار المحتملة في هذا السيناريو، فقد كتب كيلي نوروز من شركة «ستاندرد آند بورز» عن احتمال أن «تتجاوز الأسعار 100 دولار أمريكي» للبرميل بحلول عام 2050.
وفي تفكيرها في هذه الديناميكيات، كتبت دوريان أن نتائج وكالة الطاقة الدولية تعزز «ما أشار إليه العديد من المحللين في السنوات الأخيرة»، وهو أن «التحول في مجال الطاقة لن يحل محل الوقود الأحفوري بالسرعة المتوقعة»، بل في الواقع «يضيف طبقات جديدة من الطاقة المتجددة فوق قاعدة متنامية من النفط والغاز».
لقد ركز التغيير الملحوظ في حسابات الوكالة والتوقعات الناتجة عنها انتباه الجميع على عوامل أخرى تؤثر في تقاريرها. على الرغم من أن خبراء نرويجيين بشركة ستاندرد آند بورز العالمية كتبوا عن كيفية «انعكاس منهجيتها الجديدة على عدم اليقين بشأن اللوائح المستقبلية وعزم البلدان على تحقيق أهداف المناخ»، إلا أن دوريان لاحظت أن أحدث نتائج وكالة الطاقة الدولية «لا تمثل مقارنة دقيقة» بتقارير السنوات السابقة، وذلك بسبب كيفية «إحياء» سيناريو السياسات الحالية تحت الضغط السياسي من إدارة ترامب.
في الواقع، بالإضافة إلى انسحاب واشنطن الثاني من اتفاقيات باريس لتغير المناخ في عهد ترامب في عام 2025، فقد انتقد البيت الأبيض مرارًا وتكرارًا وكالة الطاقة الدولية ومديرها التنفيذي بسبب موقفهم المعارض للوقود الأحفوري. ومع كون الحكومة الأمريكية أكبر مساهم مالي فردي في الوكالة، كان لتقليل وزير الطاقة الأمريكي كريس رايت من شأن فكرة «ذروة الطلب على النفط» تأثيره في تقارير الوكالة.
وفي تقييمها لتأثير هذا الضغط السياسي على توقعات الوكالة، انتقدت دوريان كيف يفترض سيناريو السياسات الحالية «أن الحكومات ستلتزم بالسياسات الحالية دون تعديل»، وهو أمر تعتبره احتمالًا غير واقعي. كما زعمت أنها بحاجة إلى «مقارنة أكثر دقة» مع سيناريو السياسات السابقة الصادر في 2019، الذي كان يتوقع أن يتجاوز الطلب 121 مليون برميل يوميًا بحلول عام 2040.
وفي هذا السياق، خلصت دوريان إلى أن الأرقام الحالية للوكالة تُظهر «مراجعة هبوطية كبيرة» تؤكد «تأثير التحول النظيف على مزيج الطاقة العالمي خلال السنوات الست الماضية». أما في ردها على من يزعمون أن هذا التغيير الجذري يُعدّ «جرعة من الواقعية التي نحتاج إليها بشدة»، فقد أكد بوسو أن تقديرات الوكالة السابقة كانت «مفرطة في التفاؤل بشأن تطبيق السياسات الصديقة للمناخ والتحول عن الوقود الأحفوري».
إن تقرير وكالة الطاقة الدولية لعام 2025 تضمن أيضًا سيناريو «صافي صفر بحلول 2050» للطلب على النفط، مع اعتراف دوريان بحجة أوبك والمنتجين من خارجها بأن «التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري قبل نهاية العقد واستبداله بالطاقة المتجددة أمر غير واقعي». هذه الحجة تدعمها حقيقة أن استهلاك النفط والغاز الطبيعي والفحم قد «بلغ مستويات قياسية» في العام الماضي، رغم تحقيق الطاقة المتجددة «أرقامًا قياسية جديدة للانتشار في عام 2024».
فيما يتعلق بمصادر الطاقة المتجددة، أكدت وكالة الطاقة الدولية في نتائجها الأخيرة أهمية المعادن الأساسية مثل الكوبالت والليثيوم والنحاس والنيكل والكروم لبناء شبكات الطاقة والبطاريات والمركبات الكهربائية، فضلاً عن رقائق أشباه الموصلات التي ستشغّل العديد من أنظمة الطاقة المستقبلية عبر الذكاء الاصطناعي.
وفي الوقت نفسه، يعد «الخطر الرئيسي» على أمن الطاقة العالمي هو «المستويات العالية من تركيز السوق» التي تتمتع بها الصين، التي تُعدّ «المُكرّر المهيمن لـ 19 من أصل 20 معدنًا استراتيجيًا مرتبطًا بالطاقة»، بحصة سوقية تصل إلى 70%. وهذا يمنح بكين نفوذًا هائلًا على وتيرة التحول في مجال الطاقة.
تعتبر وكالة الطاقة الدولية أن التبني السريع للذكاء الاصطناعي في الصناعات هو أحد الأسباب التي تجعلها تتوقع «نموًا هائلًا» في الطلب على الكهرباء في المستقبل. ووفقًا لمديرة الاستدامة والتكنولوجيا والتوقعات، لورا كوزي، من المتوقع بحلول عام 2035 أن تعتمد القطاعات التي تمثل أكثر من نصف الاقتصاد العالمي على الكهرباء.
وأوضحت دوريان أن مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية «لا يمكنها تلبية» الطلب المتزايد على الطاقة وحدها. في الواقع، التوقعات تشير إلى أن الطلب على الغاز الطبيعي المسال سيرتفع من 560 مليار متر مكعب في 2024 إلى أكثر من 1000 مليار متر مكعب بحلول عام 2025، مدفوعًا بزيادة كبيرة في استخدام الكهرباء لتشغيل مراكز البيانات وأنظمة الذكاء الاصطناعي.
وفي المراجعة، رغم أن براد بلومر من صحيفة نيويورك تايمز قد صنف أن «أيًا من السيناريوهين» الذي حددته وكالة الطاقة الدولية في تقريرها عن التوقعات العالمية «لا ينبغي اعتباره تنبؤًا نهائيًا»، من الواضح أن تقديرات الوكالة السابقة حول ذروة الطلب على النفط واستبداله السريع بالطاقة المتجددة قد تم التراجع عنها. ومع التوقعات بأن الطلب على النفط سيستمر في الزيادة حتى منتصف القرن الواحد والعشرين على الأقل، أكد بيرول أن مسألة المعادن الأساسية أصبحت الآن «الخط الأمامي الجديد لأمن الطاقة». وقد حكم بوسو على أن «تركيز» سوق الطاقة «قد تحول بوضوح من الانتقال إلى الطاقة إلى تأمين الطاقة».
وقد وافقت دوريان على هذه النقطة، حيث أشار إلى أن «التحدي» الكبير في التحول الأوسع في مجال الطاقة ليس فقط في «بناء المزيد من الألواح الشمسية أو توربينات الرياح»، بل في «ضمان وجود المواد والاستثمارات والتعاون السياسي لجعل هذه التقنيات مرنة وسهلة الوصول إليها». وفي ضوء هذا التحليل، من المتوقع أن تظل صادرات النفط والغاز الطبيعي – بما في ذلك من دول الخليج العربي – مركزية في سوق الطاقة العالمية لعقود قادمة.
في ضوء التوقعات الجديدة التي أعلنتها وكالة الطاقة الدولية، من الواضح أن سوق النفط والطاقة ما زال يشهد تغيرات جوهرية مدفوعة بالضغوط السياسية، التحديات الاقتصادية، والتحولات التكنولوجية. على الرغم من التحول التدريجي نحو الطاقة المتجددة، يظل النفط أحد الأعمدة الأساسية لعديد من الاقتصادات العالمية في المستقبل المنظور. ومع ذلك، فإن استمرار الطلب على المعادن الحيوية والموارد الأخرى الضرورية للطاقة المتجددة يعكس أهمية استدامة الإمدادات واستراتيجية التنويع. في النهاية، تظل التحديات والفرص التي تخلقها هذه الديناميكيات محورًا أساسيًا في تشكيل مستقبل أسواق الطاقة العالمية لعقود قادمة.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك