لقد كان تصريح واحد أدلى به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال مقابلة مع قناة فوكس نيوز في التاسع من أكتوبر كافيا كي يلقي الضوء على الحسابات الحقيقية وراء قرار إسرائيل بوقف إطلاق النار في قطاع غزة بعد حملة إبادة جماعية متواصلة على مدى عامين أسفرت عن مقتل وجرح ما يقرب من ربع مليون فلسطيني بشكل مأساوي.
فقد قال دونالد ترامب خلال تلك المقابلة التلفزيونية: «إن إسرائيل لا تستطيع محاربة العالم يا بيبي»، وهو تحذير مباشر قال إنه تم توجيهه في وقت سابق إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خضم الحرب على غزة.
في الحقيقة هناك قلة فقط من الناس حول العالم يدعمون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حاليًا. والأهم من ذلك، أن شريحة كبيرة من شعبه نفسه تكن له ازدراءً، وهو استياءٌ يعود تاريخه إلى ما قبل الحرب على غزة - وهي حربٌ اعتبرها نتنياهو سعيًا شخصيًا يائسًا لتجديد شعبيته المحلية.
ومع ذلك، لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متمسكا بأوهامه. فحتى في خضم احتجاج الملايين حول العالم على إبادته الممنهجة للفلسطينيين الأبرياء، يبدو أن نتنياهو قد أقنع نفسه بأن الرأي العام العالمي يتحول لصالحه بأعجوبة - وهو تحول كان يتطلب أن يكون العالم قد أحبه في المقام الأول.
ولكن ماذا كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يعني على وجه التحديد عندما قال: «لا يمكنكم محاربة العالم»؟
من الواضح أن مصطلح «القتال» هنا يتجاوز القتال الفعلي. فغزة، المحاصرة والمُجوعة والمُدمرة، كانت الكيان الذي واجه المواجهة الفعلية. يشير ترامب بوضوح إلى تصاعد المشاعر المعادية لإسرائيل عالميًا، فضلا عن العقوبات الرسمية التي فرضتها دول مثل إسبانيا، والإجراءات القانونية الحاسمة المتخذة في أعلى محاكم العالم، والمطالبات الواسعة بالمقاطعة، وتنظيم أساطيل الحرية، وغيرها.
ومن الأهمية بمكان أن تُعتبر هذه الأحداث العالمية، في أذهان واشنطن وتل أبيب، مصدر قلق استراتيجي بالغ الأهمية. ومن المرجح أن يعتبرها المؤرخون في المستقبل نقطة التحول الحاسمة في المواقف العالمية تجاه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وإذا ما تم تعزيز هذه الحركة التضامنية الناشئة بشكل محكم واستراتيجي من قبل الفلسطينيين، فإنها قد تصبح قادرة على عزل إسرائيل بشكل كامل، وإجبارها على الاستسلام في النهاية وتحرير الشعب الفلسطيني من نظامها الدائم من الاستعمار والفصل العنصري.
لكن بنيامين نتنياهو لا يخسر العالم فحسب، بل يخسر أمريكا نفسها في جوهرها. فعلى مدى عقود، دأبت الولايات المتحدة على لعب دور الراعي الأساسي لإسرائيل، حيث تولت تمويل كل حرب، وكل مستوطنة غير شرعية، وظلت تبرر كل عمل عنف، وتتصدى باستمرار لأي محاولة دولية لمحاسبة إسرائيل.
إن أسباب التزام الولايات المتحدة الثابت، على مدى عقود، بدعم إسرائيل معقدة للغاية. قد يعزى ذلك إلى النفوذ الهائل للوبي المؤيد لإسرائيل في واشنطن، ونفوذ إسرائيل على وسائل الإعلام الرئيسية، كعوامل أساسية، إلا أن الديناميكية أعمق من ذلك بكثير.
إن الرواية السائدة والمعززة بشكل متبادل في كلا البلدين المتحالفين تصور إسرائيل باستمرار ليس فقط كحليف، بل كامتداد أساسي وحاسم للهوية السياسية الأمريكية وقيمها الأساسية.
ومع ذلك، بدأت تصدعات هذا الصرح السياسي بالظهور بوضوح لا لبس فيه. فما كان يُوصف سابقًا بأصوات معارضة مهمشة، تُوصف غالبًا بـ«الراديكالية» داخل اليسار الأمريكي، تحول تدريجيًا إلى معارضة سائدة، لا سيما داخل الحزب الديمقراطي.
وقد أظهرت استطلاعات الرأي المتتالية تحولاً جماعياً، حيث أصبح أغلب الديمقراطيين يقفون ضد السياسة الإسرائيلية وقدموا دعمهم بدلاً من ذلك للشعب الفلسطيني ونضاله المشروع من أجل الحرية.
وكان أحد الاستطلاعات الأكثر دلالة على ذلك الذي أجرته مؤسسة غالوب في مارس 2025، حيث أظهر أن 59% من الناخبين الديمقراطيين يقولون أنهم يتعاطفون أكثر مع الفلسطينيين، في حين قال 21% فقط يتعاطفون أكثر مع الإسرائيليين.
لم تكن الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة مجرد معارضة داخل أحد الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة فحسب. بل أصبحت المعارضة الصريحة لإسرائيل تيارًا سائدًا، متجاوزةً بذلك الخطوط السياسية التقليدية – وهو ما يمثل قطيعةٌ أثارت قلقًا بالغًا لدى أولئك الذين صمّموا على الحفاظ على وهم قدرة إسرائيل على التصرف بحصانة، بعيدًا عن الاعتراض الأمريكي واستخدام واشنطن المتكرر للفيتو.
لقد خاضت أجهزة الإعلام الأمريكية المؤيدة لإسرائيل حربًا مخزية لإخفاء حجم الإبادة الجماعية الإسرائيلية. لقد سعى الإعلام باستمرار إلى تحميل الفلسطينيين مسؤولية أفعال إسرائيل، وروّج بوقاحة لفكرة خبيثة مفادها أن الحرب على أبرياء غزة جزء لا يتجزأ من «الحرب على الإرهاب».
لكن الناس العاديين، الذين تعززت أعدادهم بفضل الدور الذي تلعبه منصات التواصل الاجتماعي العديدة، هم من قاوموا جماعيًا، ونجحوا في هزيمة آلة الدعاية السائدة التي كانت، لعقود، بمثابة خط الدفاع الرئيسي لإسرائيل.
من الحقائق المُقلقة للغاية بالنسبة إلى إسرائيل تآكل قاعدة الدعم الجديدة التي كانت تحظى بها، أي الإنجيليين والحزب الجمهوري عمومًا. فقد أشارت استطلاعات الرأي إلى تغير كبير، لا سيما بين الناخبين الجمهوريين الشباب.
أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة ميريلاند في أغسطس 2025، أن 24% فقط من الناخبين الجمهوريين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً قالوا إنهم يتعاطفون مع الإسرائيليين أكثر من تعاطفهم مع الفلسطينيين.
وفقًا لموقع بوليتيكو الإخباري فقد حاولت إسرائيل التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي عبر دفع مبالغ طائلة للمؤثرين لنشر الأكاذيب والخداع الإسرائيلي، وقد سخرت تلك الحملة حوالي 600 حساب وهمي، يتولى نشر أكثر من 2000 تعليق مُنسّق أسبوعيًا، مستهدفةً أكثر من 120 مُشرّعًا أمريكيًا.
لكن هل تستطيع إسرائيل قلب موازين الأمور لصالحها؟ فبينما ستُنفق مبالغ طائلة، بلا شك، على إطلاق حملات متطورة تهدف إلى تلميع صورة إسرائيل المشوهة بشدة، ستُثبت هذه الجهود أنها عقيمة.
لقد تعززت الرواية الفلسطينية للصراع، التي ظلت مهمشة في السابق، لتصبح مرجعًا أخلاقيًا قويًا ومؤثرًا في جميع أنحاء العالم. وقد حظي صمود الشعب الفلسطيني القوي والبطولي بتعاطف عالمي ودعم غير مسبوق في التاريخ.
إن هذا الواقع الجديد قد يمثل بكل تأكيد الموقف النهائي للإعلام الإسرائيلي، حيث لا يمكن لأي قدر من المال أو التغطية الصحفية أو البرامج الخاصة على شبكة نتفليكس أن تنجح في تلميع صورة دولة ارتكبت إبادة جماعية بشكل علني، وهي واحدة من أكثر عمليات الإبادة الجماعية توثيقا في التاريخ المسجل.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك