أثارت الحرب الإسرائيلية على غزة موجة انتقادات واسعة للدور الأمريكي، بعد أن كشفت تقارير دولية عن حجم الدعم المالي والعسكري الذي قدمته واشنطن لإسرائيل رغم التحذيرات من ارتكاب جرائم حرب. ويرى خبراء أن هذا الدعم تجاوز الحسابات الاستراتيجية إلى تواطؤ فعلي، مكّن الجيش الإسرائيلي من تنفيذ هجمات مدمرة ضد المدنيين الفلسطينيين وسط غياب شبه تام للمساءلة.
أدى القصف الإسرائيلي المتواصل والعشوائي على غزة إلى تدمير أكثر من 90% من المباني أو إلحاق أضرار جسيمة بها، وتشريد معظم السكان داخليًا، وسقوط عدد من الشهداء يفوق بكثير ما أعلنته الأمم المتحدة. وقد أعرب العديد من المعلقين الغربيين عن أسفهم لمواقف حكوماتهم، وخاصة الولايات المتحدة، التي ساهمت بشكل رئيسي في هذا الدمار الهائل ضد ملايين المدنيين الفلسطينيين، مما قوّض الاستقرار الإقليمي وأدى إلى جعل الشرق الأوسط أكثر هشاشة وأقل أمنًا على المدى الطويل.
أبدى ستيفن أ. كوك، الزميل البارز في مجلس العلاقات الخارجية، أسفه لأداء إدارة جو بايدن الديمقراطية، التي تولت السلطة من أكتوبر 2023 حتى يناير 2025، مشيرًا إلى أنه حين أدرك بايدن – البالغ 81 عامًا – أنه قد «أساء فهم» نيات إسرائيل الإبادة تجاه غزة، كان العنف قد دخل شهره الرابع، في حين تجاهل ائتلاف بنيامين نتنياهو المتطرف واشنطن عمليًا طوال فترة رئاسته الوحيدة. وفي السياق ذاته، عبّر برايان كاتوليس، الزميل البارز في معهد الشرق الأوسط، عن استيائه من «الانحراف الاستراتيجي» في موقف واشنطن من المنطقة، إذ اتسمت إدارة ترامب الجمهورية التالية لبايدن بـ«السلبية المفرطة» تجاه الطريقة التي واصلت بها الحكومة الإسرائيلية خطتها لتدمير غزة بالكامل.
ورغم كل المبررات السياسية حول حماية إسرائيل من المساءلة الدولية، فإن التواطؤ الأخطر للولايات المتحدة في الدمار الواسع لغزة تمثل في ما قدمته من دعم مالي وعسكري مباشر مكّن إسرائيل من تنفيذ هجماتها.
فقد كانت واشنطن قد رسخت موقعها كأكبر مانح لإسرائيل قبل 7 أكتوبر 2023، مقدمةً ما لا يقل عن 3.3 مليارات دولار سنويًا ضمن برنامج التمويل العسكري الأجنبي. وتتبع معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون حجم هذا الدعم عبر برنامجه «تكاليف الحرب»، الذي أظهر في تقريره السنوي لعام 2024، بمناسبة الذكرى الأولى للحرب، أن إدارة بايدن أنفقت حتى ذلك الوقت ما لا يقل عن 22.76 مليار دولار على المساعدات العسكرية لإسرائيل و«العمليات الأمريكية ذات الصلة بالمنطقة»، وهو رقم وصفه المعهد بأنه «متحفظ»، بالنظر إلى قنوات الدعم الأخرى التي استخدمتها واشنطن، فضلًا عن تعهدها بتقديم المزيد لاحقًا.
وفي أحدث تقاريره المنشورة في أكتوبر 2025، قدّر المعهد أن إجمالي الدعم الأمريكي المباشر لإسرائيل ارتفع إلى ما بين 31.35 و33.77 مليار دولار، من بينها نحو 21.7 مليار دولار كمساعدات عسكرية مباشرة، إضافةً إلى 9.65 إلى 12.07 مليار دولار لتغطية العمليات الأمريكية في الشرق الأوسط، بما في ذلك هجمات ضد اليمن وإيران. وأشار التقرير إلى أن البيت الأبيض ووزارة الخارجية تعهدا بتقديم «عشرات المليارات الإضافية» عبر صفقات سلاح مستقبلية «ستظل سارية سنوات قادمة».
وأوضح معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن 66% من واردات السلاح الإسرائيلية بين عامي 2020 و2024 جاءت من الولايات المتحدة. وأكد ويليام د. هارتونغ، الزميل البارز في معهد كوينسي للحكم المسؤول ومؤلف تقرير «تقييم تكاليف الحرب» لعام 2025 الصادر عن معهد واتسون، أن إسرائيل «تعتمد كليًّا على الأسلحة الأمريكية»، خصوصًا الطائرات والقنابل والصواريخ التي كانت وراء أغلب الدمار في غزة، كما أسهمت في تغذية هجماتها على دول أخرى في المنطقة.
وبحسب بيانات معهد واتسون، فإن من أصل 22.76 مليار دولار قدمتها واشنطن لإسرائيل بين أكتوبر 2023 ونهاية سبتمبر 2024، كان نحو 17.9 مليار دولار منها «مساعدات أمنية مباشرة»، شملت أكثر من 57 ألف قذيفة مدفعية، و36 ألف طلقة مدفعية، و20 ألف بندقية، وما يقرب من 14 ألف صاروخ مضاد للدبابات، إضافة إلى 8,700 قنبلة من طراز «إم كيه-82» زنة 500 رطل غير موجهة.
وقد وُصفت هذه القنابل، من قبل جيسون بيرك وإيناس طنطش في صحيفة الغارديان، بأنها «أسلحة عشوائية مدمرة»، واُستخدمت على نطاق واسع في تدمير غزة. وفي حادثة بارزة بتاريخ 30 يونيو، أدى إسقاط قنبلة من هذا النوع على مقهى ساحلي في غزة إلى استشهاد 41 شخصًا وإصابة 75 آخرين، مما دفع مارك شاك، أستاذ القانون الدولي في جامعة كوبنهاغن، إلى القول إنه «من شبه المستحيل تبرير استخدام مثل هذه الذخائر في تلك الظروف».
وأشار هارتونغ إلى أن إدارة ترامب، منذ توليها السلطة في يناير 2025، «سرّعت بشكل كبير» وتيرة تقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل، بما في ذلك رفع القيود عن بعض شحنات القنابل التي كانت الإدارة السابقة قد علقتها.
ولتسهيل نقل الأسلحة الصغيرة والذخائر الثقيلة والصواريخ والمركبات والطائرات، تعمّدت كل من إدارتي بايدن وترامب تجاوز الرقابة التي يفرضها الكونغرس الأمريكي. ففي ديسمبر 2023، وافق وزير الخارجية آنذاك أنتوني بلينكن على بيع نحو 14 ألف طلقة من ذخيرة الدبابات لإسرائيل دون أي إشراف خارجي، ثم أقر في الشهر ذاته صفقة أخرى بقيمة 147.5 مليون دولار تضمنت قذائف مدفعية عيار 155 ملم، في تجاهل واضح للرقابة التشريعية.
في مارس 2025، استخدم ماركو روبيو، خليفة بلينكن، سلطات الطوارئ دون توضيح للموافقة على صفقة أسلحة إضافية لإسرائيل بقيمة 4 مليارات دولار، تضمنت أكثر من 35 ألف قنبلة زنة 2000 رطل كان الجيش الإسرائيلي يعتزم إسقاطها على المدنيين في غزة. وكشف معهد واتسون لاحقًا أن الحكومة الأمريكية أبرمت ما لا يقل عن 100 صفقة أسلحة مع إسرائيل، جرى تقسيمها عمدًا إلى صفقات صغيرة تقل قيمتها عن الحد الذي يُلزم بإخطار الكونجرس، لكنها مثّلت مجتمعة مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية.
في تقرير صدر عن معهد كوينسي في يوليو 2025، وثّق ويليام هارتونغ وستيفن سيملر، مؤسس معهد إصلاح السياسة الأمنية، أن شركات السلاح الأمريكية الكبرى مثل لوكهيد مارتن، رايثيون، بوينغ، وجنرال ديناميكس، كانت المستفيد الأكبر من إنفاق وزارة الدفاع الأمريكية منذ عام 2020. وأكد معهد واتسون بدوره أن هذه الشركات نفسها تعد الموردين الرئيسيين للجيش الإسرائيلي.
وفي تقريرها المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بعنوان «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية»، والمنشور في يوليو 2025، أوضحت المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيز أن الطائرات الأمريكية الصنع من طراز إف-16 وإف-35، التي تسيطر عليها إسرائيل، كانت «جزءًا أساسيًا» من القصف الجوي على غزة، حيث أُلقي ما يُقدر بـ85 ألف طن من القنابل، أغلبها غير موجهة، أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 179 ألف شخص. كما أشار التقرير إلى أن بعض أكبر البنوك وشركات الاستثمار الغربية استفادت ماليًا من تدمير غزة، نظرًا لاستثماراتها في شركات الأسلحة الأمريكية التي تزود الجيش الإسرائيلي. فشركة بلاك روك الأمريكية تعد ثالث أكبر مستثمر في لوكهيد مارتن بنسبة 7.2%، بينما قدّم بنك باركليز البريطاني للشركة نفسها أكثر من 860 مليون دولار على شكل قروض.
وفي سبتمبر 2025، أصدرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة حكمها الذي أكد ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة جماعية ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة والأراضي المحتلة، ودعت فيه الدول الأعضاء إلى «وقف نقل الأسلحة والمعدات» إلى إسرائيل، مع وجود «سبب للاعتقاد بأنها تُستخدم في عمليات قد تتضمن إبادة جماعية». ومع تصاعد الدعوات في الدول الغربية لفرض حظر على السلاح، يُلاحظ أن ألمانيا أوقفت صادراتها تمامًا بعد قرار المستشار فريدريش ميرز بفرض قيود جزئية في أغسطس 2025.
ورغم أن هارتونغ شدد على أن أي محاولة أمريكية جادة لوقف تدمير غزة يجب أن تشمل «حظر المبيعات الجديدة، وتعليق تسليم الأسلحة المتعاقد عليها، ووقف توريد قطع الغيار والدعم الفني»، إلا أن تحقيق ذلك يبدو مستبعدًا. فالبيت الأبيض ما زال منحازًا لائتلاف نتنياهو المتطرف، فضلًا عن النفوذ المتزايد للوبي المؤيد لإسرائيل في واشنطن.
وعلى عكس النهج الألماني، تباهت إدارة ترامب بأنها، إلى جانب الإدارات السابقة، قدمت لإسرائيل مساعدات تتجاوز 130 مليار دولار منذ عام 1948، وتسعى الآن إلى إتمام صفقة جديدة بقيمة 6.4 مليارات دولار تشمل 30 مروحية أباتشي هجومية ونحو 3250 مركبة قتال للمشاة.
كما أن احتمال إحداث أي تغيير في السياسة الخارجية الأمريكية عبر العمل التشريعي يبدو ضعيفًا، إذ ذكر موقع «أوبن سيكرتس» أن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، أيباك، أنفقت أكثر من 50 مليون دولار لدعم أعضاء الكونغرس في عام 2024 وحده. ووفقًا للباحثة ستافرولا بابست من مؤسسة «ريسبونسبل ستيت كرافت»، فإن أيباك تعمل بلا توقف للحفاظ على دعم المشرعين، وقد نظمت مؤخرًا رحلات لنواب جمهوريين وديمقراطيين إلى القدس للقاء نتنياهو شخصيًا. ووصف جوش بول، مدير مركز «سياسة جديدة» في واشنطن، هذه الرحلات بأنها «رحلات فاخرة ممولة بالكامل» تشكل في جوهرها «نفوذًا أجنبيًا غير مشروع تحت غطاء التعليم السياسي».
وبهذا المستوى من التأثير في صنع القرار الأمريكي، لم يكن مفاجئًا أن يصوّت مجلس الشيوخ بأغلبية كبيرة ضد قرارات السيناتور المستقل بيرني ساندرز في يوليو 2025 التي دعت إلى حظر تصدير الأسلحة لإسرائيل، حيث رُفض أحدها بـ73 صوتًا مقابل 24 وآخر بـ70 مقابل 27. وخلال النقاش، برّر السيناتور الجمهوري عن ولاية أيداهو جيم ريش، الذي تلقى أكثر من 255 ألف دولار من أيباك، استمرار مبيعات السلاح لإسرائيل بأنها «في مصلحة أمريكا والعالم».
واختتم هارتونغ بالتأكيد أن الجيش الإسرائيلي، الساعي إلى تحقيق هدف إبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، «لم يكن ليتمكن من إحداث هذا الدمار» أو تصعيد العنف في المنطقة «لولا الدعم المالي والعسكري والسياسي الأمريكي». ورغم التحول الكبير في الرأي العام الأمريكي تجاه إسرائيل، حيث أظهر استطلاع لمركز بيو في أكتوبر 2025 أن نحو 60% من الأمريكيين يحملون نظرة سلبية تجاهها، فإن إدارة ترامب لا تزال متمسكة، مثل إدارة بايدن قبلها، بسياسة تسليح إسرائيل بلا حدود، متجاهلة الإدانات الدولية ومستمرة في تعزيز تواطؤ واشنطن في الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك