استمرار احتلال إسرائيل لغزة يشكل نقطة محورية في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، مما يعكس تعقيدات الوضع الراهن في المنطقة. منذ بداية العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، مر القطاع الفلسطيني بتغيرات كارثية ألقت بظلالها على حياة المدنيين في القطاع، حيث لا تزال آثار الاحتلال مستمرة رغم اتفاقات وقف إطلاق النار.
في ظل هذا الوضع، تتكشف تداعيات خطيرة على المستوى الإنساني والسياسي، في وقت تتعثر فيه محاولات فرض حلول دائمة تضمن الأمن والسلام للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء. وهذه السطور تسعى إلى استكشاف الآثار طويلة الأمد لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة، من خلال دراسة الوضع العسكري والإنساني، وكذلك التحديات التي تواجه المجتمع الدولي في محاولة إيجاد حل مستدام للأزمة.
دخل وقف إطلاق النار المؤقت حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر، عقب عامين من الدمار الشامل والإبادة الجماعية الإسرائيلية للسكان الفلسطينيين بغزة، وبعد ذلك بوقت قصير أعادت حماس ما تبقى من رهائن إسرائيليين أحياء، وأكد دانيال إي. موتون، زميل غير مُقيم في مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي، ضرورة «الحذر» تجاه مسألة انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي التي احتلها بعنف، وهو شرط نصت عليه خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المكونة من عشرين نقطة.
في الواقع، بعد مرور شهرين تقريبًا، لم يُحرز سوى تقدم ضئيل، مع عدم وجود ما يسمى «قوة الاستقرار الدولية» سارية المفعول، وعدم وجود حكومة انتقالية تتولى السلطة المدنية في غزة، وشهادة منظمة العفو الدولية بأن إسرائيل «لا تزال ترتكب إبادة جماعية» ضد المدنيين الفلسطينيين، ليس فقط من خلال استمرار قصفها الجوي الذي أسفر عن استشهاد المئات، ولكن أيضًا من خلال خنق عمليات تسليم المساعدات إلى القطاع، والتي لم تزيدها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلا «اسميًّا فقط» عما كانت عليه قبل وقف إطلاق النار.
في حين أبدى ديفيد إغناتيوس، من صحيفة واشنطن بوست رأيه في هذه الأحداث بأن «رؤية غزة المنتعشة بعد الحرب» التي حددها المسؤولون الدوليون بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار، قد تحولت إلى «خيال»؛ لا يمكن تجاهل كيف استمر ائتلاف بنيامين نتنياهو المتطرف في التصرف كدأبه، بضربات عنيفة ودفع كارثة إنسانية إلى الأمام مع الإفلات من العقاب، في ظل الحماية الدبلوماسية والاقتصادية لداعميها الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
ويمتد هذا الإفلات من العقاب مع استمرار احتلال إسرائيل لأراضي غزة. وأبرز ستيفن أ. كوك، زميل بارز لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، كيف أن ما يسمى بحدود «الخط الأصفر» في غزة حيث يبقى الجنود الإسرائيليون في ظل وقف إطلاق النار «من المفترض أن يكون مؤقتًا»؛ ومع ذلك فقد اعترف كيف أنهم منذ أكتوبر «يتخندقون»، ولم يبدوا كما هو متوقع أي نية للانسحاب من هذا الموقع.
وتطرق لويس إمبرت وماري جو، من صحيفة لوموند إلى تأزيم حكومة نتنياهو للوضع خلف الخط الأصفر، ووصفه بأنه «منطقة عمليات ما بعد الحرب» لإسرائيل، وتبقى الظروف مُزرية؛ بالنسبة إلى حوالي 85% من سكان غزة النازحين داخليًا الذين يعيشون في الأراضي التي لا يحتلها الجيش الإسرائيلي مباشرة، والتي تقل مساحتها عن نصف حجمها قبل الحرب، وهو المقرر أن يستمر إلى أجل غير مسمى مع استبعاد الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية مرارًا أي جهد دولي لإعادة بناء غزة؛ طالما بقت حماس كيانًا سياسيًا وعسكريًا.
علاوة على ذلك، مع تقرير حنا كيروس، من مجلة أتلانتيك في نوفمبر عن امتلاك إدارة ترامب «خطة جديدة لغزة» تتضمن إيواءً مؤقتًا لبعض الفلسطينيين النازحين فيما يسمى «المجتمعات الآمنة البديلة»، يجب فهم هذا على أنه امتداد لمخططات التطهير العرقي لإجلاء الفلسطينيين بشكل دائم من غزة والتي دعمتها إسرائيل وواشنطن بشكل مشترك منذ أشهر.
ومع انصراف الإعلام الغربي عن الاهتمام بمصير الفلسطينيين في غزة منذ دخول وقف إطلاق النار المؤقت حيز التنفيذ في 10 أكتوبر، نددت أنياس كالامارد، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، بأن هذا «يخاطر بخلق وهم خطير بأن الحياة في غزة تعود إلى طبيعتها»، فيما تسيطر إسرائيل على أراضي غزة عبر ما يسمى «الخط الأصفر».
لقد أحاط عدم الوضوح بهذا المفهوم منذ إنشائه، حيث سلطت هيئة الإذاعة البريطانية، بي بي سي، الضوء على كيف أن ثلاث خرائط منفصلة – أصدرتها الحكومة الأمريكية وترامب نفسه والجيش الإسرائيلي – حددت جميعها حدود «الخط الأصفر» في إحداثيات متباينة. وتركت هذه الترسيمات إسرائيل تسيطر على قرابة 53% من أراضي غزة قبل الحرب – فضلًا عن تمكينها من الخروج عبر جميع الجهات.
كما كشفت صور الأقمار الصناعية كيف تعمد الجيش الإسرائيلي وضع علامات على الأراضي بفرض أنها تحت سيطرته «على عمق مئات الأمتار داخل القطاع من خط الانسحاب المتوقع»، بحسب شبكة «بي بي سي»، وهو الأمر الذي أوضح د. أندرياس كريج، المحاضر الأول في كلية الدراسات الأمنية بجامعة كينجز كوليدج لندن، كيف سمح بإنشاء «منطقة قتل» ليس بوسع المدنيين عبورها.
بينما أثار لورانس هيل – كاوثورن، أستاذ القانون الدولي العام بجامعة بريستول، كيف أن «التزامات إسرائيل بموجب قانون النزاع المسلح لا تتوقف حتى بالنسبة إلى أولئك الذين يخرقون الخط الأصفر»؛ بيد أن جيشها قد أقر بقتل مدنيين فلسطينيين – بمن فيهم أطفال– كانوا داخل أراضي غزة التي وافقت خطة وقف إطلاق النار المذكورة أعلاه على وجودها خارج السيطرة الإسرائيلية.
وشرح ستيفن كوك كذلك كيف أن الجيش الإسرائيلي «من المفترض أن ينسحب» إلى خط الانسحاب التالي – «الخط الأحمر» – عندما يتم نشر «قوة الاستقرار الدولية» متعددة الجنسيات في غزة لدعم السلطة المدنية الانتقالية، ثم التراجع إلى «منطقة عازلة موسعة» يتم الاتفاق على حدودها مع السلطة الانتقالية.
حتى مطلع ديسمبر، لم يُطبَّق أي وجود لقوة كهذه، مما ترك إسرائيل تتصرف داخل منطقة احتلالها بإفلات كامل من المساءلة. وبذلك خلص كوك إلى أن «النتيجة» بعيدة المدى «ستظل على الأرجح كما هي الآن – الإسرائيليون باقون عند الخط الأصفر». وأوضح كوك أن «الخط الأصفر» سيكتسب «أهمية لم تكن مقصودة»، مشبهًا إياه بما حدث في «المنطقة ج» بالضفة الغربية، حيث تواصل إسرائيل فرض احتلال عسكري كامل على أكثر من 60% من الأرض وعلى الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، رغم أنه كان من المفترض أن تنتقل إلى السلطة الفلسطينية ضمن اتفاق الوضع النهائي، وهو ما لم يحدث قط.
وبدلاً من ذلك، يقيم اليوم نحو 500 ألف مستوطن إسرائيلي في 132 مستوطنة وبؤرة غير قانونية في المنطقة ج. وكما أشارت رويترز إلى أن «استراتيجية» إسرائيل القائمة على عنف المستوطنين وضم الأراضي تهدف إلى «دفن الدولة الفلسطينية»، فإن احتلالها العسكري لنصف غزة –وربما إقامة مستوطنات غير قانونية– سيقلّص مساحة القطاع إلى النصف تقريبًا، ويزيد من تدهور أوضاع سكانه المدنيين.
وقد شرع الجيش الإسرائيلي فعليًا في تطبيق هذا المخطط؛ إذ تم توثيق تدمير أكثر من 1500 مبنى في تلك المنطقة منذ 10 أكتوبر. وذكر بنديكت جارمان وباربرا ميتزلر من بي بي سي أن العديد من هذه المباني «لم تبدُ عليها آثار تضرر سابق»، فيما حذّر هيو لوفات، الزميل البارز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، من أن هذا العدد «سيزداد كلما طال بقاء إسرائيل في المنطقة الواقعة خلف الخط الأصفر».
وعلى الرغم من تقييم إتش إيه هيلير، الزميل الأول في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، بأن ذلك يمثل «انتهاكًا واضحًا لوقف إطلاق النار»، فإن الحكومة الأمريكية – التي نصبت نفسها وسيطًا رئيسيًا للهدنة – لم تتخذ أي خطوة لوقف عمليات الهدم، بل تبدو وكأنها تتواطأ مجددًا في إبعاد المدنيين عن المناطق المتبقية من غزة التي لا تخضع للاحتلال الكامل.
وفي هذا السياق، اقترح جاريد كوشنر، مستشار ترامب وصهره، إنشاء ما أسماه «مجتمعات آمنة بديلة» في الجزء الخاضع لسيطرة إسرائيل من غزة، بينما أفاد كيروس بأن وزارة الخارجية الأمريكية منحت عقدًا لشركة تيترا تيك لإزالة الأنقاض والذخائر غير المنفجرة قرب رفح. ويأتي هذا ضمن سياق حملة التطهير العرقي التي تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين – والتي حظيت أيضًا بدعم من إدارة ترامب.
وقد أوضح كيروس أن الخطة الأمريكية الجديدة ستقتصر على «سكان غزة الذين تم التحقق من هويتهم»، وأن عدد المقيمين في كل مجتمع انخفض من تقدير أولي يبلغ 25 ألفًا إلى 6 آلاف فقط، وأن الجيش الإسرائيلي أبلغ واشنطن بأن «المدنيين المسموح لهم بالانتقال إلى المنطقة التنموية لن يُسمح لهم بالعودة إلى الجزء الذي تسيطر عليه حماس».
ومع إشارة كالامارد إلى أن الجيش الإسرائيلي «يواصل فرض قيود شديدة على دخول الإمدادات واستعادة الخدمات الأساسية لمدنيي غزة»، جاء إعلان حكومة نتنياهو في 3 ديسمبر عن قرب فتح معبر رفح مع مصر – بما يسمح لعشرات الآلاف بالخروج – ليجسد تتويجًا لحملة إسرائيل المستمرة لجعل حياة أكثر من مليوني مدني غير قابلة للعيش، ودفعهم قسرًا نحو الدول المجاورة.
وعلى عكس تغطية بعض وسائل الإعلام الغربية مثل شبكة بي بي إس الأمريكية التي تحدثت عن قرب انتهاء المرحلة الأولى من الهدنة مع تسليم حماس لجثامين رهائن، يرى لوفات أن ائتلاف نتنياهو المتطرف «يعطل وقف إطلاق النار» عمدًا لـ«خلق حقائق دائمة جديدة على الأرض» في غزة، من بينها تشديد حدود «الخط الأصفر» وترسيخ السيطرة العسكرية الإسرائيلية، على غرار ما جرى في الضفة الغربية.
وبالمثل، حذّر كوك من أنه «إذا تحوّل الوضع القائم في غزة إلى واقع طويل الأمد»، فسوف تقاوم الحكومة الإسرائيلية أي ضغط – حتى من الولايات المتحدة – للانسحاب، معتبرًا أن ذلك «سيعيد إنتاج الديناميكيات نفسها منذ عام 1967»: الاحتلال، دورات العنف المتكررة، وتزايد فقدان الشرعية الدولية لإسرائيل. ومع ذلك، يتضح خلال العامين الأخيرين أن الحكومة الإسرائيلية تمضي نحو هدفها المعلن بإزالة الفلسطينيين بالقوة من أراضيهم، وهو ما يجعل مفهوم «غزة الجديدة» – الذي روّج له كوشنر باسم الإدارة الأمريكية – مجرد غطاء لاحتلال دائم واستمرار جرائم الإبادة الجماعية بحق المدنيين.
إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي لغزة يعكس حالة من الاستعصاء السياسي والإنساني التي تهدد بتفاقم الأزمة في المنطقة. مع غياب الحلول الفعالة والجهود الدولية لإعادة بناء غزة وتحقيق الاستقرار، يبقى الوضع في غزة على حافة الهاوية، حيث يستمر الشعب الفلسطيني في مواجهة تحديات مروعة في ظل احتلال إسرائيل العسكري وسياساتها الاستيطانية. في الوقت الذي تدعي فيه إسرائيل أنها تسعى إلى «تحقيق الأمن»، فإن الإجراءات المتخذة على الأرض تؤدي إلى مزيد من العنف والدمار.
في المستقبل القريب، قد تكون هناك حاجة ماسة إلى ضغط دولي قوي من أجل إيجاد حل حقيقي للمعاناة الإنسانية المستمرة في غزة وتفكيك الديناميكيات المدمرة التي أسفرت عنها سنوات من الاحتلال المستمر.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك