في مركز الشيخ زايد طيب الله ثراه لذوي الهمم في أبوظبي الشقيقة الجميلة كان لنا لقاء مع مجموعة من خبراء التنمية البشرية المستدامة خلال الفترة 30-31 أكتوبر 2025، تحدثنا وألقينا عديدا من أوراق العمل المتعلقة بمثل هذه الموضوعات، وكان جل المشاركين من أولياء أمور الأطفال من ذوي الهمم بمختلف أنواعهم، حتى إن بعضا من منتسبي المركز قد حضر الملتقى خلال فترات زمنية مختلفة.
وفي فترة الاستراحة قابلتني عدة أمهات؛ ودار بيننا عدد من الحوارات، وفي بعض الأحيان خواطر وقصص ومعاناة، وهي كثيرة، ولكن ما أود أن أتحدث عنه قصة سيدة طفلها من ذوي الإعاقة ومصاب بمرض ضمور العضلات (دوشن)، تقول السيدة: ذهبتُ كالعادة للفحص الدوري للحمل، لا أتذكر متى كان ذلك أو في أي شهر، ولكن ذهبت وكلي أمل وتفاؤل بنتيجة الفحص، انتظرت في عيادة الحوامل، جاء دوري، دخلت، بدأت عمليات الفحص، بالأشعة وبعض الأمور الأخرى، استدعى الطبيب الممرضة، وكانوا يدققون في الشاشة، وأنا أبتسم، ثم خرجت الممرضة ورجعت بعد ثوان مع طبيبة أمراض النساء، وكانوا يتكلمون باللغة التي لا أفهمها، استغرق الوقت أكثر من المعتاد، وأنا ما بين التفاؤل والرجاء وبدايات الخوف، والتساؤل؛ ما الذي يحدث؟
انتهى الفحص بالأشعة، ودخلتُ على الطبيب المكتب، وقال لي بهدوء غريب: هذا تحويل لإجراء المزيد من الفحوصات، اذهبي وقومي بكل ما هو مطلوب ثم نتحدث.
قلت وأنا وجلة: هل من سوء أيها الطبيب؟
الطبيب: لا، ولكن حتى نضمن أن الجنين بخير إن شاء الله.
خرجتُ من عند الطبيب، وأنا غير مقتنعة بما قال، ولكني أخذت أوراق التحويل، وذهبتُ إلى المختبر لإجراء المزيد من الفحوصات، وأعدنا الفحوصات مرات ومرات، وفي النهاية قالوا: يمكنك الآن الذهاب إلى الطبيب الخاص للتحدث معه، فقلت: هل من أحد يطمئنني لماذا كل هذه الفحوصات؟ ما الذي يجري؟
لم يتحدث أحد، ولكن في الأخير قالت لي فنية المختبر: اذهبي إلى الطبيب فهو أكثر فهمًا منا في مثل هذه الأمور.
تقول الأم: أخذتُ موعدًا لزيارة الطبيب، وبعد عدة أيام عدتُ إلى المستشفى لزيارة الطبيب، دخلتُ وجلستُ، انتظرت ماذا سيتفوه به الطبيب من كلمات. فتح الطبيب جهاز الحاسوب الذي أمامه، وبعدها بدقائق التفت إلي وابتسم، ثم قال: يا أم فلان، أنت إنسانة مؤمنة بالله سبحانه وتعالى، والله سبحانه هو المانح وهو الوهاب، ونحن نرضى بأي رزق يأتينا من الله سبحانه.
هنا قاطعته، وقلت: أيها الطبيب من غير كل هذه المقدمات، قل لي ما الأمر؟
سكت الطبيب لحظة وقال: ربما، وليس بالأكيد أن يكون في طفلك اختلال في الجينات، بمعنى أن يكون معاقًا بطريقة أو بأخرى.
لم أسمع ماذا قال بعد ذلك، توقفت عقارب الساعة، توقف الزمن، الكلمات تحولت إلى سهام اخترقت شغاف القلب، حاولت الوقوف إلا أنني لم أستطع، تحولت الغرفة إلى فراغ كبير، لا أسمع إلا دقات قلبي وكأنها تحاول اللحاق بوقع الصدمة التي اخترقت الأذن والقلب والعقل، وكان السؤال الذي يلح عليّ في تلك اللحظة: هل ما يقوله الطبيب صحيح أم أنه يمزح؟ نظرت إليه وفي عيني كل الحزن، وفي عينه هو ملامح أنه يحاول أن يقول شيئًا، ولكن لا شيء، ولكن قرأت في عينه جملة أنه يقول فيها: اصبري وأجرك على الله سبحانه.
التفتُّ إليه وقلت والدموع تملأ عيني وفمي: هل تمزح يا دكتور؟
سكت لحظات، ثم قال: لا، إنها الحقيقة، استعيني بالصبر وأجرك على الله سبحانه، ليس ذلك فحسب ولكن هذا الصبر يحتاج إليه طفلك الآن أكثر من بقية أطفالك.
جلستُ لحظات، ثم خرجت إلى مواقف السيارات، وفي الطريق كانت الأسئلة تنهمر على رأسي بلا توقف أسرع وأكثر من الدموع التي كانت تحاول الهروب من مقلتي: ماذا فعلت؟ هل سيكون سعيدًا؟ كيف سيعيش؟
في تلك اللحظة، كان الخوف سيد الموقف، شعرت بثقل العالم كله على كتفي، وكأنني أقف أمام باب مظلم لا أعرف ما خلفه، وكان الخوف يختلط بالألم. ولكن وسط كل هذا الظلام، كان هناك شعور خفي بالحب، حب أكبر من أي شيء، حب جعلني أقول لنفسي: مهما كان الطريق صعبًا، فلن أترك يده أبدًا.
دخلت المنزل، وكان السؤال الأهم في تلك اللحظة هو: كيف سأفاتح زوجي وطفليّ بهذا الموضوع؟ ولكن بفضل الله لم يكن أحد في المنزل في تلك اللحظة. جلستُ، ثم قمت ووقفت، ثم دخلت المطبخ، لا أعرف ماذا أريد أن أفعل، عدت إلى الصالة، انتظرت، في تلك اللحظة سمعت أذان الظهر، حينها وقفت لحظات، ثم جلست وبكيت، وبكيت وبكيت، توضأت وأخذت سجادتي وصليت، وسجدت وفي تلك اللحظة بكيت بغزارة شديدة وقلبي يعصره الألم والرجاء من حسن الظن بالله سبحانه. لا أعرف كم بقيتُ ساجدة، ولكن عندما رفعت رأسي شعرت بنوع من الاطمئنان يغزو قلبي، وكأنها رسالة من الله سبحانه وتعالي يقول فيها: أنت محظوظة بهذا الطفل، خذي بيديه سيدخلك في رضوان الله سبحانه، لا تيأسي ولا تتخاذلي، فأنت الأم وهو الطفل الذي يحتاج إليك في كل لحظات عمره، هيا قومي وأنت قوية وتمسكي بحبل الله سبحانه وهو الذي سيرشدك.
تقول السيدة: بهذا الأمل وهذا الرجاء جلستُ مع زوجي وطفليّ وشرحت لهم كل الذي كان وسيكون، بكى زوجي، وبكي طفليّ وطرحوا الكثير من الأسئلة التي لم أكن أعرف لها إجابة، ولكن قلت في ختام حديثي: هذا القادم سيكون كأي فرد من العائلة، ولكن يجب أن يكون له اهتمام خاص، نحبه ونقدم له العون بقدر ما نستطيع، وأنا أعرف أن الأمر صعب ولكنها منحة ومحنة من الله سبحانه وتعالى يختبرنا به، ويختبره بنا، يجب أن نتعاون جميعًا لاستقبال هذا الإنسان مهما كانت الصعاب.
لا أعرف كيف خرجت هذه الكلمات من فمي، ولكن أشعر أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أنطقني، فخرجت هكذا كما هي.
مرت الأيام والشهور، فجاء الطفل، فكانت الأيام الأولى هي الأصعب، لم يكن الأمر مجرد مواجهة الإعاقة، بل مواجهة المجتمع أيضًا. ولكن مازال الأمل يغزو قلبي أن يكون التشخيص خاطئًا، فكثيرًا ما يخطأ الأطباء، نعم، أكيد التشخيص خاطئ.
تم إجراء الفحص، بل الكثير من الفحوصات على الولد، ولكن في النهاية كان التشخيص صحيح، فالطفل يعاني من مرض ضمور العضلات، وهذا يعني أنه لن يستطيع أن يمشي أو أن يلعب أو أن يعتمد على نفسه في الكثير من الأمور الحياتية.
بكيت وهو في حضني، كادت دموعي المنهمرة تغسله.
مرت الأيام، وأنا رابطة على قلبي، وكانت نظرات الشفقة، التعليقات غير المقصودة، وحتى الصمت أحيانًا كان يجرحني أكثر من الكلمات، كنتُ أبحث عن إجابات في كل مكان، لكنني وجدت نفسي أمام حقيقة واحدة: «طفلي يحتاج مني أن قوية، لا منهارة».
كنت أستيقظ كل صباح وأنا أحمل همًّا ثقيلًا، لكنني كنت أقول لنفسي: «إذا لم أكن أنا الأمل له، فمن سيكون؟».
مرت الأيام، وربما بضع أشهر، بدأ الولد يحاول أن يتحرك، في أحد الأيام، بينما كنت أراقبه يحاول تركيب قطع المكعبات بيديه الصغيرتين، رأيت في عينيه إصرارًا لا يوصف، تلك اللحظة كانت نقطة التحول في حياتي، أدركت أن الإعاقة ليست نهاية الطريق، بل بداية لطريق مختلف مليء بالإبداع والصبر.
بدأت أحتفل معه ومع طفليّ بالإنجازات الصغيرة: أول كلمة نطقها بوضوح، أول مرة مسك القلم، أول خطوة أكملها من دون مساعدة، كل لحظة كانت انتصارًا لنا معًا، وكل ابتسامة منه كانت رسالة تقول: «أنا قادر، فقط آمنِ بي».
فبدأت أبحث عن أنشطة تناسب قدراته، وانضممت إلى مجموعات دعم للأمهات، وعلى الرغم من ذلك كنتُ أحاول أن أبحث عن بعض الجهات التي يمكنها أن تستوعب طفلي والعديد من الأطفال المعاقين وذوي الهمم.
وأنا في رحلتي تلك، تعرفت على مركز الشيخ زايد لذوي الهمم، أخذته إلى المركز، تم استقبالي بصورة لم أكن متوقعة، تم استقبالي بأفضل صورة، جلست في قاعة الانتظار، ثم تم استدعائي، وفتح ملف لطفلي، وتمت دراسة حالته من قبل مجموعة من الأخصائيين، وفي هذه الأثناء جلست معي واحدة من الأخصائيات وحاولت أن تخرجني من الحياة الكئيبة التي كنتُ أعيشها، كانت في الحقيقة تدرس حياتي ووضعي ووضع طفلي، والكثير من الأمور التي لم أكن أفهم أي شيء منها، ولكني كنت أتجاوب بكل عفوية، فقد كانت الاختصاصية ذكية إلى درجة أني لم أعرف أنها كانت تدرسني وتحفزني في الوقت نفسه.
وبعد حوالي ساعة ونصف الساعة جاء اختصاصي آخر وجلس معنا، وقال بكل هدوء: «لقد قبلنا طفلك، فلا تيأسي من عطاء الله سبحانه وتعالى».
فرحتُ كما لم أفرح خلال السنوات الماضية، فرحتُ إلى درجة أني كنت أريد أن أقبل رأس الاختصاصي والاختصاصية، لا أعرف كيف أصف فرحتي في تلك اللحظة، فالأمل والشمس أشرقت من جديد.
وتمر الأيام والأشهر، وعلى الرغم من أني لم أهمل أبنائي الأكبر فإنني أذهب بأبني بصورة يومية إلى المركز وأعود به، ففي المركز تعرفتُ على طبيعة الإعاقة وتأثيرها على النمو والتعلم، ووفر المركز بيئة آمنة ومناسبة لاحتياجاته مثل: أدوات مساعدة، ما يسهل الحركة لديه، وكذلك شجعه على الاستقلالية تدريجيًا، مثل الأمور البسيطة كارتداء الملابس أو تناول الطعام بنفسه.
اليوم، أنظر إلى طفلي وأرى بطلًا صغيرًا علمني معنى القوة الحقيقية. فلم تعد الإعاقة حاجزًا، بل أصبحت جسرًا نحو عالم مليء بالأمل.
وقبل أن تنهي الأخت المتحدثة قلت لها: ماذا تقولين لكل أم لديها طفل من ذوي الهمم.
فكرت لحظة وقالت: رسالتي لكل أم تمر بهذه التجربة: «أنتِ قوية بما يكفي لتصنعي المعجزات، فقط آمني بنفسك وبطفلك، فالإعاقة ليست نهاية الحلم، بل بداية لحلم مختلف أجمل مما تتصورين».
Zkhunji@hotmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك