العدد : ١٧٤٣٠ - الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٤٣٠ - الجمعة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ جمادى الآخر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

حكاية أم في مركز الشيخ زايد لذوي الهمم

بقلم: د. زكريا الخنجي

الخميس ١١ ديسمبر ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬مركز‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬لذوي‭ ‬الهمم‭ ‬في‭ ‬أبوظبي‭ ‬الشقيقة‭ ‬الجميلة‭ ‬كان‭ ‬لنا‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬خبراء‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭ ‬المستدامة‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬30-31‭ ‬أكتوبر‭ ‬2025،‭ ‬تحدثنا‭ ‬وألقينا‭ ‬عديدا‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬العمل‭ ‬المتعلقة‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬الموضوعات،‭ ‬وكان‭ ‬جل‭ ‬المشاركين‭ ‬من‭ ‬أولياء‭ ‬أمور‭ ‬الأطفال‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم‭ ‬بمختلف‭ ‬أنواعهم،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬منتسبي‭ ‬المركز‭ ‬قد‭ ‬حضر‭ ‬الملتقى‭ ‬خلال‭ ‬فترات‭ ‬زمنية‭ ‬مختلفة‭.‬

وفي‭ ‬فترة‭ ‬الاستراحة‭ ‬قابلتني‭ ‬عدة‭ ‬أمهات؛‭ ‬ودار‭ ‬بيننا‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الحوارات،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬خواطر‭ ‬وقصص‭ ‬ومعاناة،‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬أود‭ ‬أن‭ ‬أتحدث‭ ‬عنه‭ ‬قصة‭ ‬سيدة‭ ‬طفلها‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الإعاقة‭ ‬ومصاب‭ ‬بمرض‭ ‬ضمور‭ ‬العضلات‭ (‬دوشن‭)‬،‭ ‬تقول‭ ‬السيدة‭: ‬ذهبتُ‭ ‬كالعادة‭ ‬للفحص‭ ‬الدوري‭ ‬للحمل،‭ ‬لا‭ ‬أتذكر‭ ‬متى‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬شهر،‭ ‬ولكن‭ ‬ذهبت‭ ‬وكلي‭ ‬أمل‭ ‬وتفاؤل‭ ‬بنتيجة‭ ‬الفحص،‭ ‬انتظرت‭ ‬في‭ ‬عيادة‭ ‬الحوامل،‭ ‬جاء‭ ‬دوري،‭ ‬دخلت،‭ ‬بدأت‭ ‬عمليات‭ ‬الفحص،‭ ‬بالأشعة‭ ‬وبعض‭ ‬الأمور‭ ‬الأخرى،‭ ‬استدعى‭ ‬الطبيب‭ ‬الممرضة،‭ ‬وكانوا‭ ‬يدققون‭ ‬في‭ ‬الشاشة،‭ ‬وأنا‭ ‬أبتسم،‭ ‬ثم‭ ‬خرجت‭ ‬الممرضة‭ ‬ورجعت‭ ‬بعد‭ ‬ثوان‭ ‬مع‭ ‬طبيبة‭ ‬أمراض‭ ‬النساء،‭ ‬وكانوا‭ ‬يتكلمون‭ ‬باللغة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أفهمها،‭ ‬استغرق‭ ‬الوقت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬المعتاد،‭ ‬وأنا‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التفاؤل‭ ‬والرجاء‭ ‬وبدايات‭ ‬الخوف،‭ ‬والتساؤل؛‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يحدث؟

انتهى‭ ‬الفحص‭ ‬بالأشعة،‭ ‬ودخلتُ‭ ‬على‭ ‬الطبيب‭ ‬المكتب،‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬بهدوء‭ ‬غريب‭: ‬هذا‭ ‬تحويل‭ ‬لإجراء‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الفحوصات،‭ ‬اذهبي‭ ‬وقومي‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مطلوب‭ ‬ثم‭ ‬نتحدث‭.‬

قلت‭ ‬وأنا‭ ‬وجلة‭: ‬هل‭ ‬من‭ ‬سوء‭ ‬أيها‭ ‬الطبيب؟

الطبيب‭: ‬لا،‭ ‬ولكن‭ ‬حتى‭ ‬نضمن‭ ‬أن‭ ‬الجنين‭ ‬بخير‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭.‬

خرجتُ‭ ‬من‭ ‬عند‭ ‬الطبيب،‭ ‬وأنا‭ ‬غير‭ ‬مقتنعة‭ ‬بما‭ ‬قال،‭ ‬ولكني‭ ‬أخذت‭ ‬أوراق‭ ‬التحويل،‭ ‬وذهبتُ‭ ‬إلى‭ ‬المختبر‭ ‬لإجراء‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الفحوصات،‭ ‬وأعدنا‭ ‬الفحوصات‭ ‬مرات‭ ‬ومرات،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬قالوا‭: ‬يمكنك‭ ‬الآن‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬الخاص‭ ‬للتحدث‭ ‬معه،‭ ‬فقلت‭: ‬هل‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬يطمئنني‭ ‬لماذا‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الفحوصات؟‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجري؟

لم‭ ‬يتحدث‭ ‬أحد،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬قالت‭ ‬لي‭ ‬فنية‭ ‬المختبر‭: ‬اذهبي‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬فهو‭ ‬أكثر‭ ‬فهمًا‭ ‬منا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭.‬

تقول‭ ‬الأم‭: ‬أخذتُ‭ ‬موعدًا‭ ‬لزيارة‭ ‬الطبيب،‭ ‬وبعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬عدتُ‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬لزيارة‭ ‬الطبيب،‭ ‬دخلتُ‭ ‬وجلستُ،‭ ‬انتظرت‭ ‬ماذا‭ ‬سيتفوه‭ ‬به‭ ‬الطبيب‭ ‬من‭ ‬كلمات‭. ‬فتح‭ ‬الطبيب‭ ‬جهاز‭ ‬الحاسوب‭ ‬الذي‭ ‬أمامه،‭ ‬وبعدها‭ ‬بدقائق‭ ‬التفت‭ ‬إلي‭ ‬وابتسم،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬يا‭ ‬أم‭ ‬فلان،‭ ‬أنت‭ ‬إنسانة‭ ‬مؤمنة‭ ‬بالله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬والله‭ ‬سبحانه‭ ‬هو‭ ‬المانح‭ ‬وهو‭ ‬الوهاب،‭ ‬ونحن‭ ‬نرضى‭ ‬بأي‭ ‬رزق‭ ‬يأتينا‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭.‬

هنا‭ ‬قاطعته،‭ ‬وقلت‭: ‬أيها‭ ‬الطبيب‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المقدمات،‭ ‬قل‭ ‬لي‭ ‬ما‭ ‬الأمر؟

سكت‭ ‬الطبيب‭ ‬لحظة‭ ‬وقال‭: ‬ربما،‭ ‬وليس‭ ‬بالأكيد‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬طفلك‭ ‬اختلال‭ ‬في‭ ‬الجينات،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬معاقًا‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭.‬

لم‭ ‬أسمع‭ ‬ماذا‭ ‬قال‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬توقفت‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة،‭ ‬توقف‭ ‬الزمن،‭ ‬الكلمات‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬سهام‭ ‬اخترقت‭ ‬شغاف‭ ‬القلب،‭ ‬حاولت‭ ‬الوقوف‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أستطع،‭ ‬تحولت‭ ‬الغرفة‭ ‬إلى‭ ‬فراغ‭ ‬كبير،‭ ‬لا‭ ‬أسمع‭ ‬إلا‭ ‬دقات‭ ‬قلبي‭ ‬وكأنها‭ ‬تحاول‭ ‬اللحاق‭ ‬بوقع‭ ‬الصدمة‭ ‬التي‭ ‬اخترقت‭ ‬الأذن‭ ‬والقلب‭ ‬والعقل،‭ ‬وكان‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يلح‭ ‬عليّ‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭: ‬هل‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬الطبيب‭ ‬صحيح‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬يمزح؟‭ ‬نظرت‭ ‬إليه‭ ‬وفي‭ ‬عيني‭ ‬كل‭ ‬الحزن،‭ ‬وفي‭ ‬عينه‭ ‬هو‭ ‬ملامح‭ ‬أنه‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬شيئًا،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬شيء،‭ ‬ولكن‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬عينه‭ ‬جملة‭ ‬أنه‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬اصبري‭ ‬وأجرك‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭.‬

التفتُّ‭ ‬إليه‭ ‬وقلت‭ ‬والدموع‭ ‬تملأ‭ ‬عيني‭ ‬وفمي‭: ‬هل‭ ‬تمزح‭ ‬يا‭ ‬دكتور؟

سكت‭ ‬لحظات،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬لا،‭ ‬إنها‭ ‬الحقيقة،‭ ‬استعيني‭ ‬بالصبر‭ ‬وأجرك‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬سبحانه،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬ولكن‭ ‬هذا‭ ‬الصبر‭ ‬يحتاج‭ ‬إليه‭ ‬طفلك‭ ‬الآن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬أطفالك‭.‬

جلستُ‭ ‬لحظات،‭ ‬ثم‭ ‬خرجت‭ ‬إلى‭ ‬مواقف‭ ‬السيارات،‭ ‬وفي‭ ‬الطريق‭ ‬كانت‭ ‬الأسئلة‭ ‬تنهمر‭ ‬على‭ ‬رأسي‭ ‬بلا‭ ‬توقف‭ ‬أسرع‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬الدموع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحاول‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬مقلتي‭: ‬ماذا‭ ‬فعلت؟‭ ‬هل‭ ‬سيكون‭ ‬سعيدًا؟‭ ‬كيف‭ ‬سيعيش؟

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬كان‭ ‬الخوف‭ ‬سيد‭ ‬الموقف،‭ ‬شعرت‭ ‬بثقل‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬على‭ ‬كتفي،‭ ‬وكأنني‭ ‬أقف‭ ‬أمام‭ ‬باب‭ ‬مظلم‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬خلفه،‭ ‬وكان‭ ‬الخوف‭ ‬يختلط‭ ‬بالألم‭. ‬ولكن‭ ‬وسط‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الظلام،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬شعور‭ ‬خفي‭ ‬بالحب،‭ ‬حب‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شيء،‭ ‬حب‭ ‬جعلني‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭: ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬الطريق‭ ‬صعبًا،‭ ‬فلن‭ ‬أترك‭ ‬يده‭ ‬أبدًا‭.‬

دخلت‭ ‬المنزل،‭ ‬وكان‭ ‬السؤال‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬هو‭: ‬كيف‭ ‬سأفاتح‭ ‬زوجي‭ ‬وطفليّ‭ ‬بهذا‭ ‬الموضوع؟‭ ‬ولكن‭ ‬بفضل‭ ‬الله‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أحد‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭. ‬جلستُ،‭ ‬ثم‭ ‬قمت‭ ‬ووقفت،‭ ‬ثم‭ ‬دخلت‭ ‬المطبخ،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أفعل،‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬الصالة،‭ ‬انتظرت،‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬سمعت‭ ‬أذان‭ ‬الظهر،‭ ‬حينها‭ ‬وقفت‭ ‬لحظات،‭ ‬ثم‭ ‬جلست‭ ‬وبكيت،‭ ‬وبكيت‭ ‬وبكيت،‭ ‬توضأت‭ ‬وأخذت‭ ‬سجادتي‭ ‬وصليت،‭ ‬وسجدت‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬بكيت‭ ‬بغزارة‭ ‬شديدة‭ ‬وقلبي‭ ‬يعصره‭ ‬الألم‭ ‬والرجاء‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬الظن‭ ‬بالله‭ ‬سبحانه‭. ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كم‭ ‬بقيتُ‭ ‬ساجدة،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬رفعت‭ ‬رأسي‭ ‬شعرت‭ ‬بنوع‭ ‬من‭ ‬الاطمئنان‭ ‬يغزو‭ ‬قلبي،‭ ‬وكأنها‭ ‬رسالة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالي‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬أنت‭ ‬محظوظة‭ ‬بهذا‭ ‬الطفل،‭ ‬خذي‭ ‬بيديه‭ ‬سيدخلك‭ ‬في‭ ‬رضوان‭ ‬الله‭ ‬سبحانه،‭ ‬لا‭ ‬تيأسي‭ ‬ولا‭ ‬تتخاذلي،‭ ‬فأنت‭ ‬الأم‭ ‬وهو‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬يحتاج‭ ‬إليك‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظات‭ ‬عمره،‭ ‬هيا‭ ‬قومي‭ ‬وأنت‭ ‬قوية‭ ‬وتمسكي‭ ‬بحبل‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬سيرشدك‭.‬

تقول‭ ‬السيدة‭: ‬بهذا‭ ‬الأمل‭ ‬وهذا‭ ‬الرجاء‭ ‬جلستُ‭ ‬مع‭ ‬زوجي‭ ‬وطفليّ‭ ‬وشرحت‭ ‬لهم‭ ‬كل‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وسيكون،‭ ‬بكى‭ ‬زوجي،‭ ‬وبكي‭ ‬طفليّ‭ ‬وطرحوا‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬لها‭ ‬إجابة،‭ ‬ولكن‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬ختام‭ ‬حديثي‭: ‬هذا‭ ‬القادم‭ ‬سيكون‭ ‬كأي‭ ‬فرد‭ ‬من‭ ‬العائلة،‭ ‬ولكن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬اهتمام‭ ‬خاص،‭ ‬نحبه‭ ‬ونقدم‭ ‬له‭ ‬العون‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬نستطيع،‭ ‬وأنا‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬صعب‭ ‬ولكنها‭ ‬منحة‭ ‬ومحنة‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬يختبرنا‭ ‬به،‭ ‬ويختبره‭ ‬بنا،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتعاون‭ ‬جميعًا‭ ‬لاستقبال‭ ‬هذا‭ ‬الإنسان‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬الصعاب‭.‬

لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬خرجت‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬من‭ ‬فمي،‭ ‬ولكن‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أنطقني،‭ ‬فخرجت‭ ‬هكذا‭ ‬كما‭ ‬هي‭.‬

مرت‭ ‬الأيام‭ ‬والشهور،‭ ‬فجاء‭ ‬الطفل،‭ ‬فكانت‭ ‬الأيام‭ ‬الأولى‭ ‬هي‭ ‬الأصعب،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬مواجهة‭ ‬الإعاقة،‭ ‬بل‭ ‬مواجهة‭ ‬المجتمع‭ ‬أيضًا‭. ‬ولكن‭ ‬مازال‭ ‬الأمل‭ ‬يغزو‭ ‬قلبي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التشخيص‭ ‬خاطئًا،‭ ‬فكثيرًا‭ ‬ما‭ ‬يخطأ‭ ‬الأطباء،‭ ‬نعم،‭ ‬أكيد‭ ‬التشخيص‭ ‬خاطئ‭.‬

تم‭ ‬إجراء‭ ‬الفحص،‭ ‬بل‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الفحوصات‭ ‬على‭ ‬الولد،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬كان‭ ‬التشخيص‭ ‬صحيح،‭ ‬فالطفل‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬ضمور‭ ‬العضلات،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يمشي‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬الحياتية‭.‬

بكيت‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬حضني،‭ ‬كادت‭ ‬دموعي‭ ‬المنهمرة‭ ‬تغسله‭.‬

مرت‭ ‬الأيام،‭ ‬وأنا‭ ‬رابطة‭ ‬على‭ ‬قلبي،‭ ‬وكانت‭ ‬نظرات‭ ‬الشفقة،‭ ‬التعليقات‭ ‬غير‭ ‬المقصودة،‭ ‬وحتى‭ ‬الصمت‭ ‬أحيانًا‭ ‬كان‭ ‬يجرحني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الكلمات،‭ ‬كنتُ‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬إجابات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬لكنني‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أمام‭ ‬حقيقة‭ ‬واحدة‭: ‬‮«‬طفلي‭ ‬يحتاج‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬قوية،‭ ‬لا‭ ‬منهارة‮»‬‭.‬

كنت‭ ‬أستيقظ‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬وأنا‭ ‬أحمل‭ ‬همًّا‭ ‬ثقيلًا،‭ ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬أقول‭ ‬لنفسي‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أنا‭ ‬الأمل‭ ‬له،‭ ‬فمن‭ ‬سيكون؟‮»‬‭.‬

مرت‭ ‬الأيام،‭ ‬وربما‭ ‬بضع‭ ‬أشهر،‭ ‬بدأ‭ ‬الولد‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يتحرك،‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام،‭ ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬أراقبه‭ ‬يحاول‭ ‬تركيب‭ ‬قطع‭ ‬المكعبات‭ ‬بيديه‭ ‬الصغيرتين،‭ ‬رأيت‭ ‬في‭ ‬عينيه‭ ‬إصرارًا‭ ‬لا‭ ‬يوصف،‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬كانت‭ ‬نقطة‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬الإعاقة‭ ‬ليست‭ ‬نهاية‭ ‬الطريق،‭ ‬بل‭ ‬بداية‭ ‬لطريق‭ ‬مختلف‭ ‬مليء‭ ‬بالإبداع‭ ‬والصبر‭.‬

بدأت‭ ‬أحتفل‭ ‬معه‭ ‬ومع‭ ‬طفليّ‭ ‬بالإنجازات‭ ‬الصغيرة‭: ‬أول‭ ‬كلمة‭ ‬نطقها‭ ‬بوضوح،‭ ‬أول‭ ‬مرة‭ ‬مسك‭ ‬القلم،‭ ‬أول‭ ‬خطوة‭ ‬أكملها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مساعدة،‭ ‬كل‭ ‬لحظة‭ ‬كانت‭ ‬انتصارًا‭ ‬لنا‭ ‬معًا،‭ ‬وكل‭ ‬ابتسامة‭ ‬منه‭ ‬كانت‭ ‬رسالة‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬أنا‭ ‬قادر،‭ ‬فقط‭ ‬آمنِ‭ ‬بي‮»‬‭.‬

فبدأت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬أنشطة‭ ‬تناسب‭ ‬قدراته،‭ ‬وانضممت‭ ‬إلى‭ ‬مجموعات‭ ‬دعم‭ ‬للأمهات،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كنتُ‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬الجهات‭ ‬التي‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تستوعب‭ ‬طفلي‭ ‬والعديد‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬المعاقين‭ ‬وذوي‭ ‬الهمم‭.‬

وأنا‭ ‬في‭ ‬رحلتي‭ ‬تلك،‭ ‬تعرفت‭ ‬على‭ ‬مركز‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد‭ ‬لذوي‭ ‬الهمم،‭ ‬أخذته‭ ‬إلى‭ ‬المركز،‭ ‬تم‭ ‬استقبالي‭ ‬بصورة‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬متوقعة،‭ ‬تم‭ ‬استقبالي‭ ‬بأفضل‭ ‬صورة،‭ ‬جلست‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الانتظار،‭ ‬ثم‭ ‬تم‭ ‬استدعائي،‭ ‬وفتح‭ ‬ملف‭ ‬لطفلي،‭ ‬وتمت‭ ‬دراسة‭ ‬حالته‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأخصائيين،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭ ‬جلست‭ ‬معي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الأخصائيات‭ ‬وحاولت‭ ‬أن‭ ‬تخرجني‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الكئيبة‭ ‬التي‭ ‬كنتُ‭ ‬أعيشها،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬تدرس‭ ‬حياتي‭ ‬ووضعي‭ ‬ووضع‭ ‬طفلي،‭ ‬والكثير‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أفهم‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬منها،‭ ‬ولكني‭ ‬كنت‭ ‬أتجاوب‭ ‬بكل‭ ‬عفوية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الاختصاصية‭ ‬ذكية‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬تدرسني‭ ‬وتحفزني‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

وبعد‭ ‬حوالي‭ ‬ساعة‭ ‬ونصف‭ ‬الساعة‭ ‬جاء‭ ‬اختصاصي‭ ‬آخر‭ ‬وجلس‭ ‬معنا،‭ ‬وقال‭ ‬بكل‭ ‬هدوء‭: ‬‮«‬لقد‭ ‬قبلنا‭ ‬طفلك،‭ ‬فلا‭ ‬تيأسي‭ ‬من‭ ‬عطاء‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‮»‬‭.‬

فرحتُ‭ ‬كما‭ ‬لم‭ ‬أفرح‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية،‭ ‬فرحتُ‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أني‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أقبل‭ ‬رأس‭ ‬الاختصاصي‭ ‬والاختصاصية،‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أصف‭ ‬فرحتي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬فالأمل‭ ‬والشمس‭ ‬أشرقت‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

وتمر‭ ‬الأيام‭ ‬والأشهر،‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أهمل‭ ‬أبنائي‭ ‬الأكبر‭ ‬فإنني‭ ‬أذهب‭ ‬بأبني‭ ‬بصورة‭ ‬يومية‭ ‬إلى‭ ‬المركز‭ ‬وأعود‭ ‬به،‭ ‬ففي‭ ‬المركز‭ ‬تعرفتُ‭ ‬على‭ ‬طبيعة‭ ‬الإعاقة‭ ‬وتأثيرها‭ ‬على‭ ‬النمو‭ ‬والتعلم،‭ ‬ووفر‭ ‬المركز‭ ‬بيئة‭ ‬آمنة‭ ‬ومناسبة‭ ‬لاحتياجاته‭ ‬مثل‭: ‬أدوات‭ ‬مساعدة،‭ ‬ما‭ ‬يسهل‭ ‬الحركة‭ ‬لديه،‭ ‬وكذلك‭ ‬شجعه‭ ‬على‭ ‬الاستقلالية‭ ‬تدريجيًا،‭ ‬مثل‭ ‬الأمور‭ ‬البسيطة‭ ‬كارتداء‭ ‬الملابس‭ ‬أو‭ ‬تناول‭ ‬الطعام‭ ‬بنفسه‭.‬

اليوم،‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬طفلي‭ ‬وأرى‭ ‬بطلًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬علمني‭ ‬معنى‭ ‬القوة‭ ‬الحقيقية‭. ‬فلم‭ ‬تعد‭ ‬الإعاقة‭ ‬حاجزًا،‭ ‬بل‭ ‬أصبحت‭ ‬جسرًا‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬مليء‭ ‬بالأمل‭.‬

وقبل‭ ‬أن‭ ‬تنهي‭ ‬الأخت‭ ‬المتحدثة‭ ‬قلت‭ ‬لها‭: ‬ماذا‭ ‬تقولين‭ ‬لكل‭ ‬أم‭ ‬لديها‭ ‬طفل‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الهمم‭.‬

فكرت‭ ‬لحظة‭ ‬وقالت‭: ‬رسالتي‭ ‬لكل‭ ‬أم‭ ‬تمر‭ ‬بهذه‭ ‬التجربة‭: ‬‮«‬أنتِ‭ ‬قوية‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬لتصنعي‭ ‬المعجزات،‭ ‬فقط‭ ‬آمني‭ ‬بنفسك‭ ‬وبطفلك،‭ ‬فالإعاقة‭ ‬ليست‭ ‬نهاية‭ ‬الحلم،‭ ‬بل‭ ‬بداية‭ ‬لحلم‭ ‬مختلف‭ ‬أجمل‭ ‬مما‭ ‬تتصورين‮»‬‭.‬

 

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا