عُقد المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة «MONDIACULT 2025» في برشلونة من 29 سبتمبر إلى 1 أكتوبر 2025 تحت رعاية منظمة اليونسكو ومشاركة أكثر من مئة وستين دولة وعدد كبير من المنظمات الدولية والخبراء والمبدعين، ليؤكد أن الثقافة ليست ترفا فكريا أو رفاهية، بل هي أساس لبناء السلام والتماسك الاجتماعي، وتشكيل مستقبل أكثر عدلاً واستدامة.
جاء المؤتمر في وقت يشهد فيه العالم أزمات متزايدة؛ من نزاعات إقليمية تُدمّر التراث، أزمات بشرية تُخلف اللاجئين والمهجرين، وتشويهٍ مُتعمدٍ للهويات الثقافية في بعض مناطق العالم، حينَ تُستهدف اللغات، الأعراف، والتقاليد؛ ليس فقط كجزء من الحرب العسكرية، بل كحرب على الذاكرة، فالكثير من النزاعات الحديثة لم تعد تُقاس فقط بعدد الضحايا أو الدمار الذي تخلفه، بل بمقدار ما يُمحى من هويةٍ، وما يُصادَر من لغة، وما يُطمس من ذاكرة جماعية. أمام هذا المشهد المأساوي، أراد موندياكولت 2025 أن يعيد تعريف الثقافة كأداة مقاومةٍ سلمية، تعيد التواصل بين البشر على أساس الاحترام المتبادل والكرامة الإنسانية.
من أبرز مخرجات المؤتمر اعتماد إعلان برشلونة للحقوق الثقافية، الذي أكد فيه المشاركون أن الثقافة حق إنساني أساسي يجب أن يكون هدفًا مستقلًا في أجندة التنمية العالمية لما بعد عام 2030، إلى جانب الصحة والتعليم.، وقد تبنت الدول المشاركة هذا الإعلان بوصفه التزامًا سياسيًا وأخلاقيًا نحو دمج الثقافة في سياسات التنمية والسلم.
ولم يكن الحديث عن «الثقافة من أجل السلام» مجرد شعار، بل كان إطارًا عمليًا لسياسات دولية تضع الحوار الثقافي وحماية التراث والتنوع اللغوي في صميم الجهود الرامية إلى خفض التوترات وتعزيز التماسك الاجتماعي. فقد شدد المؤتمر على أن الثقافة قادرة على بناء جسور بين الشعوب حين تفشل السياسة، وأنها السبيل لإعادة الثقة في إنسانيتنا المشتركة.
ومن أهم سمات المؤتمر أنه منح مساحة غير مسبوقة لصوت الشباب والمجتمع المدني، عبر منصات مثل MondiaYouth و Agora Civica، حيث شارك المئات من الفنانين والطلاب والنشطاء في نقاشاتٍ حول أدوارهم في تعزيز السلام ومواجهة التحديات المعاصرة؛ من بينها آثار الذكاء الاصطناعي على الإبداع والحقوق الثقافية. لقد أراد المؤتمر أن يفتح آفاق المشاركة أمام الجيل الجديد بوصفه حاملًا لرسالة السلام عبر الفعل الثقافي لا عبر الخطاب السياسي.
كما تطرّق المؤتمر إلى قضايا شديدة الحساسية تتعلق بحماية المبدعين واللغات والتراث في أوقات الأزمات، ومواجهة التهديدات الرقمية والمناخية التي تمس الوجود الثقافي للإنسان؛ فقد ناقش المشاركون كيفية صون التراث الإنساني في ظل التحولات التقنية المتسارعة، وضمان العدالة الثقافية في عالمٍ تحكمه الخوارزميات.
ولم تغب عن هذا المحفل العالمي مشاركة مملكة البحرين ممثلة في هيئة البحرين للثقافة والآثار، مؤكدةً من خلال حضورها التزامها الثابت بمبدأ أن الثقافة هي لغة سلام ودبلوماسية وإنسانية تُبنى على قيم الحوار والتنوع، وقد مثّلت مشاركة البحرين نموذجًا عربيًا متوازنًا في دعم السياسات الثقافية العالمية، وتعزيز حضور الثقافة في الخطاب الدولي.
إن النتائج التي خلص إليها مونديكالت برشلونة 2025 تؤكد أن الثقافة ليست ترفا، بل هي ضمانة للسلام وركيزة للتنمية. وفي هذا الإطار، تبرز البحرين كإحدى الدول التي تمتلك من الرصيد الحضاري والدبلوماسي ما يؤهلها لتكون نموذجًا في توظيف الثقافة كأداة للسلام والتنمية المستدامة على المستويين الإقليمي والدولي.
{ باحثة في السياسات الثقافية.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك