تأتي خطة ترامب للسلام الخاصة بغزة في سياق إقليمي متشابك، حيث تتقاطع المصالح السياسية والعسكرية بين القوى الكبرى والإقليمية على أنقاض حرب مدمرة خلفت دمارًا هائلًا ومعاناة إنسانية غير مسبوقة. وبينما تروج واشنطن للخطة باعتبارها خطوة نحو «الاستقرار»، فإن الغموض الذي يكتنف تفاصيلها، وخاصة فيما يتعلق بتشكيل «قوة استقرار دولية»، يعكس عمق التناقضات داخل المشروع نفسه. فبدل أن تكون الخطة خارطة طريق واضحة لإنهاء النزاع وإعادة بناء غزة، تبدو أقرب إلى إطار ضبابي يعيد إنتاج أدوات السيطرة القديمة تحت شعارات جديدة.
بعد إعلان خطة دونالد ترامب للسلام الخاصة بغزة، التي تشمل عشرين نقطة ووافقت عليها حكومة بنيامين نتنياهو وحركة حماس في أوائل أكتوبر 2025، ركز الخبراء في تحليلاتهم على الثغرات الكبيرة التي تحتويها الخطة، وخاصة فيما يتعلق بقضايا مثل الحكم الذاتي الفلسطيني، ومستقبل حماس، وأهمية تقديم المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار القطاع المدمر بفعل الحرب.
إلى جانب تأسيس «حكم انتقالي مؤقت» في غزة تحت إشراف ما يسمى «مجلس السلام»، دعت الخطة إلى إنشاء «قوة استقرار دولية» من قبل الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة والعالم. مهمتها المعلنة هي «تدريب ودعم قوات الشرطة الفلسطينية المؤهلة في غزة»، و«مساعدة في تأمين المناطق الحدودية»، و«منع دخول الذخائر إلى غزة».
ومع ذلك، رغم أن خطة ترامب تدعو إلى نشر هذه القوة الدولية «فورًا»، علقت دانا سترول، الزميلة البارزة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، قائلة إن «الدرس الرئيسي من تجارب الاستقرار بعد الحروب هو أن ملء الفراغ الأمني مباشرة بعد الحرب هو المهمة الأولى». وبالرغم من ذلك، لم يتم تشكيل القوة الدولية بعد، ولا تزال هوية أعضائها ودورها في مستقبل غزة غير واضحة.
واحدة من النقاط القليلة التي يمكن فهمها بالفعل هي أن إسرائيل، التي ارتكب جيشها مجزرة بحق مئات الآلاف من المدنيين ودمرت حوالي 80% من مباني غزة وشردت أكثر من مليوني شخص، قد مُنحت من قبل إدارة ترامب صلاحيات واسعة، ليس فقط في استخدام الفيتو ضد انضمام بعض الدول إلى القوة الدولية وتحديد قواعد مهمتها، بل أيضًا في استمرار الاحتلال العسكري لغزة وخرق شروط وقف إطلاق النار من دون محاسبة.
ورغم أن خطة ترامب تصف قوة الاستقرار الدولية بأنها «الحل الأمني الداخلي طويل الأمد» لغزة، إلا أنه بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 10 أكتوبر، أفاد هوغو باتشيغا ورافي بيرج من شبكة «بي بي سي» بأن نطاق مهمة القوة الدولية لا يزال غير واضح. في هذا السياق، كتب فرانشيسكو ساليسيو سكيافي، المحلل الإيطالي في شؤون الشرق الأوسط، في صحيفة «نيو عرب» أن هذه القوة ستكون «بعيدة عن إشراف قوات حفظ السلام الأممية». كما أشار باتشيغا وبيرج إلى أن الدول التي قد تشارك في هذه القوة تشعر بالقلق من احتمال أن «تجد قواتها نفسها في مواجهة مقاتلي حماس» إذا لم يتم التوافق مع الحركة بشأن نشر القوة.
على الرغم من إصرار واشنطن على حشد الدعم الدولي لفكرة القوة الأمنية الدولية، حيث زعم ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، أن «العديد من الدول» أبدت استعدادها للمشاركة، إلا أن ترامب قد رضخ لمطالب ائتلاف نتنياهو المتطرف الذي عرقل انضمام الدول التي انتقدت بشدة جرائم الحرب الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين. في هذا السياق، صرح نتنياهو أن حكومته، وليس واشنطن، هي التي «ستحدد الدول غير المقبولة»، ومن ثم رفضت إسرائيل ضم قوات حفظ سلام تركية محتملة.
وقد قام ريتشارد أوتزن، الزميل الأول غير المقيم في المجلس الأطلسي، بتقييم دوافع الحكومة التركية للانضمام إلى القوة الدولية في غزة، مشيرًا إلى أنها تسعى لحماية المدنيين وتعزيز مصداقيتها كداعم للأمن الإقليمي. إلا أن هذه الأهداف تتعارض مع نوايا إسرائيل التي تهدف إلى استمرار فرض معاناة المدنيين الفلسطينيين واستمرار هيمنتها على المنطقة.
وفي هذا السياق، رغم إشارة أوتزن إلى مكانة تركيا كأحد أكبر المساهمين في عمليات حفظ السلام متعددة الأطراف في الشرق الأوسط وخارجه، فإن وصف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر لتركيا بأنها «عدائية» كان كافيًا لتصنيفها ضمن الدول التي يرفضها ائتلاف نتنياهو.
أما بالنسبة إلى الدول الراغبة في الانضمام إلى القوة، فقد أفاد باتريك وينتور من صحيفة «الجارديان» بأن العديد من هذه الدول يفضل منح القوة الدولية تفويضًا من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وشرح سكيافي كيف ستستقي هذه القوة نموذجها من «بعثة الأمن متعددة الجنسيات» في هايتي، ومن ثم ستكون لها صلاحيات واسعة لمراقبة الجماعات المسلحة.
يُثير هذا الوضع تمييزًا حاسمًا بين «حفظ السلام» و«إنفاذه»، وهو ما تطرق إليه ريتشارد كابلان، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، مؤكدًا أن مهمة القوة قد تتجاوز مجرد حفظ السلام إلى التدخل المباشر في النزاع المحلي في غزة. ويشير مصطلح «حفظ السلام» إلى نشر قوات وطنية أو قوات متعددة الجنسيات بهدف المساعدة في السيطرة على نزاع مسلح فعلي أو محتمل وحله. وعادةً ما يتم ذلك بموجب تفويض من الأمم المتحدة.
بالمقابل، مفهوم «إنفاذ السلام» الأكثر غموضًا، كما يوضح كابلان، يتعلق باستخدام الأصول العسكرية لفرض السلام بالقوة ضد إرادة أطراف النزاع، مثلما يحدث عندما يفشل وقف إطلاق النار. يختلف «إنفاذ السلام» عن «حفظ السلام» في أنه يعتمد على قوات أكثر تسليحًا.
ومن الواضح أن القوات الإسرائيلية سيكون لديها مهام ذات طبيعة قسرية أكثر من كونها مهامًا دبلوماسية أو رصدية، كما يظهر من توثيق وينتور الذي أشار إلى أنها «ستنسق مع خلية عسكرية بقيادة الولايات المتحدة» تحت اسم مركز التنسيق المدني العسكري الموجود حاليًا في إسرائيل. هذه القوات ستكون مسؤولة عن «نزع سلاح حماس وتأمين حكومة فلسطينية انتقالية». وفي هذا السياق، طرح سكيافي أسئلة مهمة لم يتم الإجابة عنها بعد، مثل: «من سيتولى نزع سلاح حماس؟ وبأي عملية تحقيق؟ وبأي قواعد اشتباك؟».
أما فيما يخص نزع سلاح حماس، الذي تطالب به كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من دون تحديد خريطة طريق واضحة، فقد تساءل جيمس جيفريت، السفير الأمريكي السابق لدى تركيا والعراق، عن إمكانية أن تكون القوات العراقية «المراقب المستقل» لعملية نزع السلاح. وفي نفس السياق، أضاف روبيو أنه إذا «رفضت المجموعة نزع السلاح»، فسيكون «من الضروري فرضه»، ولكن لم يتم توضيح دور القوات الأجنبية في هذه العملية.
من جانب آخر، اعترفت سترول بأنه من غير المرجح أن تلتزم أي حكومة مستعدة لإرسال قوات حفظ سلام إلى غزة «بنشر القوات» من دون «ضمانات بعدم تعرض أفرادها للهجوم من قبل حماس أو إسرائيل». وقد أكد الملك عبدالله الثاني ملك الأردن هذا النقطة، حيث أشار إلى أن حكومته وحكومات الدول المجاورة تدعم مهمة تدريب ودعم قوة شرطة فلسطينية محلية، لكنه أكد أن «أي دولة في المنطقة» لا ترغب في تدخل قواتها في حال كانت القوات الإسرائيلية «تتجول في غزة في دوريات مسلحة».
وعلى الرغم من تصريح روبيو بأن قوة دولية سيتم تشكيلها ونقلها إلى غزة «بأسرع ما يمكن»، فإن الاحتلال العسكري الإسرائيلي غير القانوني سيستمر، وسيبقى تهديده للمواطنين الفلسطينيين قائمًا طالما لم تُنشر بعثة لحفظ السلام. تشير صور الأقمار الصناعية إلى أن الجيش الإسرائيلي يسيطر على حوالي 60% من أراضي غزة، بما في ذلك المنافذ الخارجية. ورغم أن خطة ترامب تنص على انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة «بناءً على معايير زمنية ومعالم مرتبطة بنزع السلاح»، إلا أن هذه المعايير مازالت بحاجة إلى اتفاق بين إسرائيل والولايات المتحدة.
وقد نبه مدير الأمن الإقليمي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إميل حكيم، إلى أن ائتلاف نتنياهو قد يعرقل هذه العملية بسهولة نظرًا إلى عدم وضوح شروط الصفقة، محذرًا من أن إسرائيل قد تستأنف الحرب والاحتلال بحجج واهية، خاصةً بعد انتهاكها لوقف إطلاق النار 125 مرة ما أدى إلى مقتل نحو 100 مدني فلسطيني منذ 10 أكتوبر.
علاوة على ذلك، طالما استمرت إسرائيل في السيطرة على أراضي غزة وطرق الوصول إلى العالم الخارجي، فإن حكومة نتنياهو تستطيع منع تدفق المساعدات الإنسانية الضرورية. وأشار وينتور إلى أن ما معدله 89 شاحنة دخلت غزة يوميًا منذ بدء وقف إطلاق النار، وهو ما يمثل فقط 14% من أصل 600 شاحنة تم الاتفاق عليها. مع استمرار المعاناة الإنسانية في غزة، فإن تأخير نشر أي قوة دولية يخدم في النهاية النوايا الإسرائيلية في إبادة الفلسطينيين.
إن الفشل المنتظر في تشكيل ونقل قوة حفظ سلام دولية بسرعة إلى غزة للحفاظ على الأمن وتخفيف المعاناة يظهر أن خطة ترامب تفتقر إلى التفاصيل الدقيقة والإطار الزمني الواضح. وعلق حكيم على دبلوماسية ترامب بأنها ربما «أنهت الحرب»، لكنها «لم تحقق السلام بعد»، مشيرًا إلى أن الصفقة غير مستقرة، ما يجعل تحقيق أمن دائم في المنطقة أمرًا مستبعدًا.
تفاقمت أزمة انعدام التحرك بسبب تجاهل الولايات المتحدة لأي مبادرات لحفظ السلام، في الوقت الذي يصر فيه روبيو على أنه «لا توجد خطة بديلة» لتلك التي طرحتها الولايات المتحدة. نتيجة لهذا التعنت، ظلّت الأسئلة التي طرحتها المراقبون عند الاتفاق على وقف إطلاق النار -حول مصير حماس، والحكم المستقبلي لفلسطين، ومنع مزيد من الصراع المدمر- بدون إجابة واضحة أو حتى تفاصيل على الأرض. طالما استمر هذا الوضع، فلن يكون هناك نهاية لتهديد العنف في غزة، ولن يتم تخفيف المعاناة الرهيبة التي يعاني منها أكثر من مليوني مدني فلسطيني.
في ضوء هذا المشهد المعقد، يظهر أن الطريق نحو سلام مستدام في غزة لا يمر عبر خطط أمنية غامضة أو تفاهمات عسكرية مرتهنة بالمصالح، بل عبر معالجة جذور الصراع وسياسات الاحتلال والتمييز التي غذّت دوامة العنف عقودا. إن غياب الإرادة الدولية الفاعلة، واستمرار تجاهل أصوات الضحايا، يجعل من أي حديث عن «استقرار» مجرد وهم سياسي مؤقت. وحتى تتبلور رؤية عادلة تضمن السيادة والكرامة للفلسطينيين، ستظل غزة عنوانًا مأساويًا لفشل النظام الدولي في تحقيق السلام الحقيقي.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك