جميعنا نعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على الأخبار والمعلومات، وعلى الرغم من أننا نعلم أن العالم الافتراضي عبارة عن بيئة مليئة بالآراء الخاطئة وحتى المعلومات المضللة، فإننا نميل إلى تصديق كل ما نراه ونقرأه بحسن نية. وعلاوة على ذلك، فإن درجة الإتقان في تقديم المحتوى تجعله يبدو حقيقياً هذه الأيام. ثم تأتي خوارزميات العالم الافتراضي لتغذينا بالمزيد من المحتوى ذاته، ما يعزز الفهم الخاطئ فيما يتعلق بالكثير من الأمور.
أوضح هانز روسلينغ في كتابه الرائع الذي نشره عام 2018 بعنوان الإلمام بالحقيقة (Factfulness) أن لدى البشر تصورات مغلوطة للعالم من حولهم، يشمل ذلك أولئك الذين يشغلون مناصب قيادية دولية، وأن هذا الفهم المغلوط نابع من ميل فطري لتصديق الروايات الأكثر درامية وسلبية. واليوم، تستغل وسائل التواصل الاجتماعي هذا الميل الطبيعي لتعزيز تلك الروايات الخاطئة. يشجعنا روسلينغ على التحقق من المعلومات بشكل دقيق، وأن نحاول أن نرى العالم كما هو، لا كما نخاف أن يكون.
وجدت نفسي مؤخرًا في حاجة إلى تطبيق دعوة روسلينغ للتحقق من صحة المعلومات؛ فقد أصبح من المقلق بالنسبة إلي أن أرى سرديات غير صحيحة تترسخ بشكل عميق عند الأفراد على أنها حقائق. على سبيل المثال، يمكن ملاحظة تزايد عدد الأشخاص الذين يشككون في المؤسسات الطبية والعلوم مثل فعالية اللقاحات أو حتى في كون الأرض كروية الشكل. وعلى مستوى أقرب، فإن ما يثير قلقي، بصفتي السفير البريطاني، هو أن عددًا من الادعاءات المشكوك فيها أو المبالغ فيها بشأن المملكة المتحدة بدأت أيضًا تترسخ لدى الجمهور.
أسمع البعض يقول إن اقتصاد المملكة المتحدة يعاني أكثر من غيره بمراحل، لكن الواقع مختلف. لا تزال مدينة لندن تحتفظ بمكانتها كأهم مركز مالي عالمي، وفقًا لمؤشر المراكز المالية العالمية لعام 2025. ووفقاً لاستطلاعات شركة Deloitte لعام 2025 فقد صنفت المملكة المتحدة كوجهة الاستثمار الأولى عالميًا، إلى جانب الهند. وفي النصف الأول من عام 2025 سجلت المملكة المتحدة أسرع نمو اقتصادي بين دول مجموعة السبع، ما يعكس قوة الأداء الاقتصادي البريطاني.
أستمع إلى ادعاءات البعض بأن لندن لم تعد آمنة. لكن البيانات تُظهر أنها أكثر أمانًا الآن مما كانت عليه من قبل، حيث انخفضت معدلات الجرائم العنيفة وجرائم القتل إلى مستويات أقل بكثير من مثيلاتها في المدن الأمريكية والأوروبية. كما سجلت لندن انخفاضًا بنسبة مضاعفة فيما يتعلق بجرائم السطو والسرقة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وعلاوة على ذلك، فإن معدل جرائم القتل في لندن هو الأدنى منذ عشر سنوات، وأقل من المعدلات المسجلة في مدن أمريكية وأوروبية.
أسمع البعض يتحدث عن وجود الملايين من المهاجرين غير الشرعيين في المملكة المتحدة. لكن في الواقع، بلغ العدد الإجمالي للمهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى المملكة المتحدة في عام 2024 حوالي 43630 شخصًا فقط، أي ما يعادل 0.06% من عدد سكان المملكة المتحدة.
أسمع البعض يقول إن الصناعات الخضراء والمتجددة تُشكل عبئًا على اقتصاد المملكة المتحدة، لكن الواقع مغاير لتلك الصورة؛ فقد نما قطاع صافي الانبعاثات الصفرية الصافية في المملكة المتحدة بنسبة تزيد على 10% بين عامي 2023 و2024. ومنذ عام 2015 شهد هذا القطاع زيادة بنسبة 34.6% في عدد الوظائف.
ومن ناحية أخرى، يلاحظ أيضًا وجود سوء فهم واسع النطاق للأحداث الإقليمية والعالمية. وما يثير دهشتي، على سبيل المثال، هو سوء الفهم لدى عدد من الأشخاص من مختلف الجنسيات لمن بدأ بشن الحرب على أوكرانيا، رغم أن غزو دولة ذات سيادة من قبل دولة أخرى كان موثقًا بشكل واضح.
إن تراكم المعلومات المضللة حول هذه القضايا وغيرها من المسائل المهمة من شأنه أن يُلحق الضرر بشكل أو بآخر؛ فهو يؤثر على قرارات الأعمال والاستثمار والسياحة والتعليم. وقد قادني ذلك إلى استنتاج أن عملي كدبلوماسي يجب أن يتغير بشكل جذري. ففي السابق، كنا نفضل أن نتحدث بالمنطق والأفعال، أما الآن، فعلينا أن نبذل جهدًا أكبر لضمان أن يحصل الناس على سجل صحيح للمعلومات مدعوم بالحقائق.
إذن، ما الذي يمكننا فعله؟ هناك نقاش متزايد حول كيفية ضمان أن تفي هذه التقنيات القوية والحديثة بوعودها من دون أن تعرضنا للأذى وسوء الفهم. على سبيل المثال، هناك حركات كبيرة تسعى الآن للحد من تعرض أطفالنا لوسائل التواصل الاجتماعي. وكذلك هناك برامج تعليمية. أُثني هنا على الشراكة بين المركز الوطني للأمن السيبراني في البحرين وشركة OSP Cyber Academy البريطانية، التي تعمل على تثقيف الشباب حول أمن المعلومات والتهديدات السيبرانية.
نحن بحاجة إلى تحقيق التوازن بين توفير الوصول إلى الرأي والمعلومة والحقيقة، وبين الحد من المصادر المضللة والخبيثة. هذه ليست قضية جديدة، فقد تعاملت وسائل الإعلام التقليدية والمعلقون مع هذا التحدي عقودا من خلال آليات التنظيم والقوانين المنظمة للسلوكيات المهنية. ومن غير المرجح أن يكون الحل هو إغلاق مساحة النقاش، بل إن هذه التقنيات الجديدة تحتاج إلى تطبيق نفس المعايير المهنية والإدارية.
ولمعالجة هذا الأمر، أعتقد أننا سنكون بحاجة إلى حل عالمي، ولكن بينما يتبلور ذلك، أعتقد أن هناك أمرين مهمين بشكل خاص:
أولًا، نحن بحاجة إلى صحافة جيدة تميز بين ما يجب وما لا يجب نشره بناء على الحقائق والمصلحة العامة.
ثانياً: أن نتعلم جميعًا كي نصبح أفضل في التحقق من المعلومات والبيانات. وأرجوكم، لا تصدقوا كل ما يُقال عن المملكة المتحدة من دون التحقق من الأمر! فالمملكة المتحدة تبقى كمملكة البحرين، من أكثر الدول ترحيبًا، وإثراء وتنوعاً، وأنا ممتن كل يوم لأن العديد من البحرينيين يوافقونني هذا الرأي.
{ سفير المملكة المتحدة لدى مملكة البحرين.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك