كم امرأة قضت عمرها في البيت، تربي وتدبّر وتتعب، وما خطر ببالها يوما أنها تحتاج ورقة تثبت هذا كله. ما كتبت اسمها على عقد ولا احتفظت بإيصال. ظنت البيت نفسه شاهدا كافيا. لكن لما وصلت إلى النهاية، اكتشفت أن هذا الشاهد صامت.
صحيح أن قانون الأسرة في البحرين، أعطى الزوجة حقوقا أساسية مثل النفقة، السكن والحضانة. هذه مكاسب مهمة، لكنها لا تقول القصة كاملة. الحياة الزوجية أوسع من النصوص.
فالزواج ليس توقيعا يُحفظ في ملف. هو تفاصيل تثقل الكتف كل يوم، فيها من ينفق المال وفيها من ينفق العمر. والعدالة تضعف حين نُظهر وجها ونخفي آخر.
قد يقال عن الزوجة التي لم تلتحق بوظيفة إنها لا تعمل، لكن الحقيقة أبعد من ذلك بكثير. هي من تتابع الأبناء في دروسهم، وتدير تفاصيل البيت الصغيرة والكبيرة، وتحفظ توازنه بصبر لا يراه أحد. لو غابت عن هذا الدور ليوم واحد فقط، لاختلت الحياة اليومية وظهرت الفوضى في كل زاوية. عندها فقط يتضح أن ما تقوم به في صمت، هو عمل كامل الأركان لا يقل أهمية عن أي وظيفة خارج البيت.
وهناك زوجات لم يقتصر دورهن على البيت، بل ساهمن من رواتبهن في أقساط السكن، أو في شراء أرض، أو في تأسيس بيت العائلة. لكن حين وقع الانفصال، وجدن أنفسهن بلا ورقة تثبت ما قدمنه، وكأن كل تلك السنوات من الدفع والمشاركة تبخرت في لحظة.
أتذكر العام الماضي سيدة أعرفها روت لي قصتها. تعذر استمرار زواجها لأسباب لا مجال لذكرها الآن. لكنها قالت لي جملة لم أنسها، «خرجت من حياتي الزوجية خالية الوفاض، وكأن ما دفعته بيدي وبجهدي لم يكن موجودًا». كانت قد ساهمت في مصاريف البيت سنوات، دفعت أقساط الأثاث وساعدت في تأسيس منزل الأسرة. لكنها وقفت عند النهاية بلا سند قانوني يحفظ حقها. لم تكن تحكي بمرارة فقط، بل بدهشة من أن العمر يمكن أن يتبخر بهذه السهولة.
الطلاق لحظة قاسية، لا تختصرها أوراق المحكمة. هو واقع جديد يفرض نفسه، وغالبًا ما تجد المرأة نفسها خارجه بلا بيت ولا سند، رغم أن شبابها مضى في رعاية الأبناء وحماية استقرار الأسرة. القانون يُلزم الأب بالنفقة، لكن الأبناء يحتاجون أكثر من المال؛ يحتاجون الأمان. وهذا الأمان يضعف حين تعيش الأم قلق السكن وتدبير شؤون حياتها. الطفل الذي يرى أمه مرهقة أو خائفة من الغد، يحمل عبئًا مضاعفًا لا يعوّضه أي مصروف شهري.
هذه القضية خرجت من جدران البيوت وتجاوزت أحاديث المجالس. أصبحت مطروحة في ندوات ولقاءات جمعت جمعيات نسائية بمحامين ومختصين بالشأن الأسري. صار واضحا للجميع أن هناك مساهمات حقيقية لم تُوثق في أي سجل، وأن الاستمرار في تجاهلها لم يعد مقبولا ولا عادلا.
من بين هذه الجهود، عقد الاتحاد النسائي البحريني بالتعاون مع مركز تفوّق للاستشارات ندوة ناقشت دراسة بعنوان: «الأموال الزوجية من الكد والسعاية إلى قسمة الأموال المشتركة». كانت إشارة واضحة أن الموضوع لم يعد هما شخصيا، إنما قضية عامة تبحث عن حلول. وما يميز هذا الحراك أنه لا ينطلق من خصومة بين المرأة والرجل، بل من قناعة مشتركة أن العدالة هي الضمان الحقيقي لاستقرار الطرفين على حد سواء.
في بلدان أخرى وُجدت مقاربات مختلفة. في المغرب على سبيل المثال، يتاح للزوجين أن يحددا منذ البداية، كيف سيتعاملان مع ما يُكتسب أثناء الزواج. تونس اعترفت بما يسمى «المكاسب المشتركة». بينما في بعض الدول الغربية يُساوى بين الزوجين في كل ما يُبنى خلال العلاقة.
هذه التجارب قد تكون لافتة، لكنها ربما لا تناسبنا. كون مجتمعنا له خصوصيته، وديننا جعل النفقة مسؤولية الرجل. ما نحتاجه هو صياغة بحرينية واضحة، تحترم قيمنا وتمنح كل طرف حقه بإنصاف. ويكفينا قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وهو أساس يمكن البناء عليه لأي إصلاح عادل.
ولكي لا يبقى هذا الملف معلقا بلا حلول، يمكن أن يُتاح للزوجين منذ عقد الزواج أو خلاله أن يضعا اتفاقات واضحة تحدد كيفية التعامل مع ما يُكتسب مستقبلا. خطوة كهذه لا تحمي الحقوق فحسب، بل تقي الأسرة من نزاعات مؤلمة، وتجعل الطريق أوضح إذا انتهت العلاقة، لا سمح الله، بالانفصال.
وقد بدأ بعض المحامين في البحرين والمنطقة يصيغون نماذج قانونية تُتيح للزوجين تنظيم ما يُكتسب أثناء العلاقة الزوجية، سواء من ممتلكات أو مساهمات مالية. هذه المبادرات، وإن كانت محدودة، تُشير إلى وعي مهني متزايد بالحاجة إلى توثيق الجهد غير المرئي داخل الأسرة. وهي لا تُطالب بتغيير جوهر العلاقة، بل تُمهّد لتفاهمات واضحة تُبنى على التراضي، وتُحترم فيها خصوصية المجتمع البحريني. إدراج مثل هذه الاتفاقات ضمن إطار قانوني اختياري، يُمكن أن يُحصّن العلاقة من النزاعات المؤلمة، ويمنح كل طرف حقه دون أن يُضعف روح الشراكة.
الأسرة ليست ساحة غلبة، هي مساحة شراكة. وإذا شعرت المرأة بإنصاف حتى بعد الانفصال، عاش الأبناء بطمأنينة أكبر، وظل المجتمع متماسكا. فالبيت حين يُبنى على الإنصاف، يبقى أثره في النفوس، أقوى من أي جدار.
rajabnabeela@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك