شهدت العلاقة بين الغرب والشرق تحولات جوهرية عبر التاريخ، اتسمت في كثير من مراحلها بمحاولات الغرب إعادة تشكيل الشرق وفقًا لنماذجه الفكرية والسياسية والثقافية. وفي الغالب هذه العلاقة لم تكن متكافئة، بل كانت عادة ما اتخذت طابعًا أحاديًا، حيث سعى الغرب إلى فرض رؤيته للعالم على الشرق، مستخدمًا بذلك كل الأدوات المتوفرة والمستحدثة والتي تتراوح ما بين القوة العسكرية والتأثير الثقافي الناعم، وما إلى ذلك.
وقد يجد البعض أن هذه العلاقة يمكن أن تندرج تحت إطار التفاعلات الحضارية، ولكنها في الحقيقة وفي كثير من الأحيان اتخذت طابعًا تغييريًا، سعى فيها الغرب إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفقًا لنماذجه الفكرية والسياسية والثقافية الغربية، وفي تلك اللحظة يحدث الصدام والتصادم، بين الحضارة الإسلامية العربية بكل عمقها التاريخي والروحي والفكري والعلمي وحضارة وليدة لا تمتلك من مقومات الحضارة إلا الفكر التقني المادي الحديث والاقتصاد والقوة العسكرية، حينئذ يحدث ما نراه اليوم على أرض الواقع، لا هذا يرضى بالخنوع ولا ذلك يرضى بالانسحاب.
وبعض المؤرخين يجدون أن تاريخ هذا الصراع وهذه المحاولات الغربية في تغيير الشرق الأوسط بدأت من الحقبة الاستعمارية حينما حاولت القوة الأوروبية السيطرة على أجزاء واسعة من آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، إلا أن الحقيقة تقول إن هذه الرغبة بدأت منذ سنوات أكثر تبكيرًا، ولكنها غدت واضحة تمامًا وكشر الغرب عن أنيابه قبل حقبة الاستعمار الغربي على الشرق الأوسط، إلا أن الاستعمار في هذه الحقبة لم يكن مجرد احتلال للأرض، بل كان مشروعًا حضاريًا في نظر الغرب، يهدف إلى (تمدين) الشعوب الشرقية وفق النموذج الأوروبي، بالإضافة إلى تبعية الشرق بأكمله من أجل مسح الدين، وسرقة خيرات الأرض والتوسع الاستعماري.
وعلى الرغم من انتهاء حقبة الاحتلال الغربي على دول الشرق الأوسط رسميًا، إلا أن آثاره ما زالت حاضرة في البنية السياسية والاجتماعية والفكرية والتشريعية والاقتصادية في كثير من الدول العربية الإسلامية. لنحاول أن نستعرض بعضًا من تلك الطرق والأساليب، منها:
أولاً: الدين والهوية؛ يحاول الغرب تقديم الدين الإسلامي على أنه لا يتماشى مع القيم الفكرية والليبرالية الحديثة والتقدم الحديث، فهذا الدين – بنظرهم– جاء منذ ما يقرب من 1400 سنة تقريبًا، وما جاء فيه – ربما – كان صالحًا لذلك الزمان، أما في الوقت الحالي فإنه عاجز عن حل المشكلات والأزمات والتطور التكنولوجي الحاصل في هذا الوقت، ويتمثلون بذلك بما حصل في الغرب الذي لم يتطور إلا حينما ترك الدين في الكنائس وتحرر البشر من كل تلك القيود. لذلك قاموا بالتشكيك في السنة النبوية وفي السيرة وفي القيادات والغزوات الإسلامية وأخيرًا في القرآن الكريم، ولم يكتفوا بذلك وإنما طرحوا المبادرات المناسبة والتي منها:
{ محاولات إصلاح الإسلام عبر دعم خطابات دينية (معتدلة)، تتماشى مع القيم الليبرالية الغربية، مثل مبادرات (إسلام بلا حدود)، التي تُثير جدلًا واسعًا حول التدخل في الشأن الديني.
{ الجدل حول الحجاب، ففي أوروبا تجاوز كونها قضية داخلية، لتصبح أداة ضغط على المجتمعات الإسلامية في الشرق والغرب، ويُعيد إنتاج خطاب إقصائي.
{ الضغط على المنظمات الدولية الدينية التي تتدخل في صياغة الخطاب الديني المحلي، تحت شعارات مثل (مكافحة التطرف) أو (تعزيز التسامح)، وغالبًا ما تحمل أجندات سياسية، وتُعيد تشكيل الدين وفقًا لمعايير خارجية.
ثانيًا: العولمة والوجه الجديد للتأثير؛ يلاحظ المتتبع للأحداث أنه في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين وربما بعد ذلك بقليل وبداية القرن الحادي والعشرين، ظهرت فكرة (العولمة) كقوة جديدة تعيد تشكيل العالم. وعلى الرغم من أنها فتحت آفاقًا اقتصادية وتقنية واسعة، إلا أنها أصبحت أيضًا وسيلة لنشر الثقافة الغربية، خاصة عبر الإعلام، والسينما، والموضة، ومنصات التواصل الاجتماعي. وهذا التأثير الثقافي غالبًا ما يتعارض مع القيم الشرقية التقليدية، ويخلق صراعًا داخليًا في المجتمعات بين الأصالة والانفتاح. فأصحبت الثقافة الغربية مهيمنة على وسائل الإعلام، والسينما، والموضة، وأنماط الحياة، مما أثرت في أنماط الحياة، والذوق العام، وحتى في القيم الاجتماعية، ومن ذلك:
{ الهيمنة السينمائية الأمريكية عبر هوليوود، التي تقدم الشرق غالبًا بصورة نمطية، إما كمنطقة نزاع أو كبيئة متخلفة، مما يؤثر في نظرة الشعوب لأنفسها ويُعيد إنتاج الصور النمطية.
{ الاحتفال بمناسبات غير محلية مثل (الهالوين) و(الفالنتاين)، مما يعكس اختراقًا ثقافيًا عميقًا، خاصة في أوساط الشباب، ويثير تساؤلات حول الهوية الثقافية والانتماء.
ثالثًا: التعليم والإعلام، أدوات التغيير الناعمة؛ وجدنا أن كثيرًا من الدول العربية والإسلامية تتبنى نماذج تعليمية غربية، سواء في المناهج أو طرق التفكير والتحليل. ومن ناحية أخرى فإن الإعلام الغربي يهيمن على المنصات الإعلامية العالمية، ويؤثر في تشكيل الرأي العام، خاصة لدى الشباب. هذه الأدوات تُستخدم لنقل قيم مثل الفردانية، والحرية المطلقة، ونمط الحياة الاستهلاكي، وهي قيم قد لا تتماشى مع السياقات الثقافية والدينية في الشرق، ويمكن ملاحظة ذلك في:
{ المدارس والجامعات الغربية في الشرق الأوسط، حيث تقوم بالتدريس باللغة الإنجليزية، وتتبنى مناهج غربية، مما يؤدي إلى إنتاج نخب فكرية ذات توجهات ليبرالية، غالبًا ما تكون منفصلة عن السياق المحلي.
{ البرامج والمناهج التعليمية الممولة غربيًا والتي تهدف إلى (تكوين قادة المستقبل)، لكن وفقًا لرؤية غربية للقيادة والمجتمع، مما يؤدي إلى نشوء طبقة نخبوية ذات ولاء معرفي للغرب.
{ الإعلام الدولي الناطق بالعربية الذي يقدم الأخبار والأطروحات من منظور غربي، مما يؤثر في تشكيل الرأي العام، خاصة في القضايا السياسية والدينية، ويُعيد إنتاج سرديات تتماشى مع المصالح الغربية.
رابعًا: التكنولوجيا والسيطرة الرقمية؛ هذه السيطرة الرقمية تُعد شكلًا جديدًا من الاستعمار والاحتلال، لكنه غير مرئي، وأكثر تأثيرًا واستمرارية، ويُعيد تشكيل الوعي الجمعي بطرق غير مباشرة، حيث نجد أن مؤسسات التكنولوجيا الكبرى تسيطر على البنية التحتية الرقمية للعالم، بما في ذلك الشرق الأوسط. وهذه المؤسسات لا تكتفي بتقديم خدمات تقنية، بل تفرض سياسات وقيمًا معينة، وتتحكم في المحتوى الذي يصل إلى المستخدمين. وهكذا، يتحول الفضاء الرقمي إلى ساحة جديدة للصراع الثقافي والفكري، ومن ذلك:
{ التحكم في المحتوى عبر الخوارزميات، فبعض المنصات تروّج لمحتوى معين بناءً على سياسات الشركة، مما يؤدي إلى تهميش المحتوى المحلي أو الديني، ويُعيد تشكيل الذوق العام، وهذا يحد من حرية التعبير.
{ الرقابة الرقمية، التي تحذف المحتويات السياسية أو الدينية التي لا تتماشى مع المعايير الغربية، كما حدث مع بعض القنوات الإسلامية أو المناهضة للسياسات الغربية، ويُعد هذا شكلًا من أشكال الرقابة الثقافية.
{ الاعتماد على البنية التحتية الغربية، فمعظم الدول العربية والإسلامية تعتمد على الخدمات التي تقدمها المنصات الغربية سواء في البحث والتعليم والإدارة وغيرها، مما يثير تساؤلات حول السيادة الرقمية، ويجعلها عرضة للتأثير الخارجي.
خامسًا: الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان؛ يروج الغرب لنموذج محدد من الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويضغط على الدول الشرقية لتبنيه. هذا النموذج يُقدَّم كقالب عالمي، لكنه في الواقع يحمل خصوصيات تاريخية وثقافية غربية، لا يمكن تعميمها دون تعديل، ويُثير مقاومة ثقافية وسياسية في الشرق. وإن كانت الدول العربية والإسلامية لا ترفض تلك القيم إلا أنها تجد أن تطبيقها بشكل نمطي قد لا يتناسب مع السياقات المحلية، مما يخلق توترًا سياسيًا واجتماعيًا. فالديمقراطية التي نعرفها ليست قالبًا واحدًا، بل تجربة تتشكل وفقًا للخصوصيات الثقافية والتاريخية لكل مجتمع. وحتى نبين ذلك نضرب بعض الأمثلة:
{ الضغط على دول الخليج والعربية في ملفات حقوق الإنسان مثل حرية التعبير وحقوق المرأة، وغالبًا ما يُستخدم كأداة سياسية، وليس من منطلق إنساني بحت، مما يُثير تساؤلات حول النيات الحقيقية.
{ الازدواجية في المعايير، فالغرب يتغاضى عن انتهاكات حقوق الإنسان في دول حليفة له كدولة الاحتلال الإسرائيلي، بينما يُسلط الضوء على دول أخرى لأسباب سياسية، مما يُضعف مصداقية الخطاب الحقوقي الغربي.
سادسًا: الاقتصاد والنظام المالي العالمي، تشير الدراسات والمراجع أن المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تفرض شروطًا على الدول الشرقية مقابل الدعم المالي، مما يؤثر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ويُنظر إلى النظام الرأسمالي الغربي على أنه النموذج السائد أو الذي يجب أن يسود، على الرغم من وجود نماذج أخرى ومنها نظام الاقتصاد الإسلامي والذي يعد بديلا قويا ويسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، إلا أنه غير مقبول من دول الغرب لذلك يجب أن يستبعد، لذلك قامت القوة الغربية بعمل التالي:
{ صندوق النقد الدولي فرض شروطًا تقشفية على بعض الدول العربية، مما أدى إلى تراجع الخدمات الاجتماعية، واحتجاجات شعبية واسعة، وأضعف قدرة الدولة على حماية الفئات الهشة.
{ اتفاقيات التجارة الحرة مثل الشراكة الأوروبية المتوسطية، فتحت الأسواق الشرقية أمام المنتجات الغربية، وأضعفت الصناعات المحلية، مما أدى إلى اختلال في الميزان التجاري.
{ هيمنة الدولار الأمريكي تمنح الولايات المتحدة قدرة على فرض عقوبات اقتصادية، وتوجيه السياسات النقدية للدول الأخرى، مما يُقيد استقلالية القرار الاقتصادي.
هذا النظام المالي يُعيد إنتاج التبعية الاقتصادية، ويحدّ من قدرة الدول الشرقية على رسم سياسات مستقلة، ويُكرّس الفجوة بين المركز (الغرب) والهامش (الشرق).
وختامًا، وحتى لا نكون متشائمين إلى أقصى الدرجات فإنه في مقابل كل ذلك لم يقف الشرق مستسلمًا، وإنما ظهرت حركات فكرية وثقافية تسعى للحفاظ على الهوية، وإعادة قراءة التراث، وتقديم نماذج بديلة للتنمية والتقدم. كما بدأت بعض الدول في تعزيز لغاتها وثقافاتها في التعليم والإعلام، كمحاولة للحد من الهيمنة الغربية، واستعادة التوازن في العلاقة بين الشرق والغرب. وهذه الحركات سواء ما يحدث في دول الخليج العربي من دعم الصناعات المحلية والوطنية أو في بعض الدول العربية الأخرى من تعزيز واستعادة المحتوى الثقافي والمعرفي كلها محاولات لتعزيز الهوية العربية في مقابل كل ما يجري من طمس الهوية والغربة التي يحاول الغرب فرضها على الشرق العربي والإسلامي.
Zkhunji@hotmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك