في طريقي إلى العمل، استوقفتني لوحة إعلان كبيرة كُتب عليها كلمات لفتت انتباهي وأثارت في نفسي الفضول للكشف عن معاني هذه العبارة «نلهم الأجيال... نبني المجتمعات». وعندما اقتربت أكثر، كان الإعلان لجامعة وطنية عريقة، حينها أدركت أن هذه الكلمات البسيطة (إلهام.. جيل.. بناء.. مجتمع) لها معان كثيرة، تخيلتُ أن هذه الكلمات ترابطت معًا لتكون لوحة فنية جميلة لشباب يبنون المستقبل، لا أعتقد أنها مجرد كلمات عابرة، أو كلمات رنانة، بل هي رسالة تحمل في طياتها معاني سامية ورؤى بعيدة المدى. فهي كلمات تختصر الدور الحقيقي للتعليم الجامعي: إلهام الجيل القادم، وتوجيه طاقاتهم، وتحويل أحلامهم الفردية إلى مشاريع تنموية تسهم في بناء الوطن والمجتمع، بل هي تعبير عميق عن الدور الحيوي الذي تقوم به الجامعة في صياغة العقول، ورسم ملامح المستقبل، وتعزيز مكانة المجتمع البحريني بين الدول.
فيا ترى ماذا نعني بإلهام الأجيال؟
إلهام الأجيال يعني أكثر من مجرد نقل المعرفة للطلبة؛ بل وجودهم في بيئة خصبة تغرس الطموح، وتدفعهم إلى اكتشاف قدراتهم الكامنة، وبناء الثقة بأنفسهم، وبأنهم قادرون على التغيير والإبداع، وفتح أبواب الابتكار أمام العقول الشابة.
الجامعة هنا لا تقدم معلومات جامدة، بل تسعى إلى تقديم تجربة متكاملة تُشعل في الطلبة شغف التعلم، وتجعلهم يوقنون أن التعليم ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتغيير واقعهم ومحيطهم، ففي قاعات المحاضرات، وحين يقف الأستاذ المحاضر أمام طلبته، لا يكون دوره محصورًا على شرح الدروس النظرية، بل يمتد إلى تحفيزهم على التفكير النقدي البناء، وتشجيعهم على البحث عن الحلول بدلًا من الاكتفاء بتلقي الإجابات، إن الطالب الذي يرى قدوته في أستاذه الملهم يتعلم معنى الانضباط، والالتزام، والسعي وراء التميز.
الطالب الذي يخطو اليوم نحو قاعة المحاضرات قد يصبح غدًا مهندسًا يضع بصمته في بناء وتطوير البنية التحتية، أو طبيبًا ينقذ الأرواح، أو معلمًا يغرس المعرفة في أجيال الغد. هذا الإلهام لا يتوقف على الكتب وحدها، بل يُبنى من خلال القدوة الحسنة التي يمثلها أساتذة الجامعة من خلال الاشتراك في الأنشطة الصفية واللاصفية التي تشجع على التفكير خارج الصندوق والعمل الجماعي، وكذلك من خلال مبادرات البحث العلمي التي تفتح الآفاق أمام الشباب ليبتكروا حلولًا لمشكلات مجتمعهم.
ولعل الأمثلة الواقعية في هذا السياق كثيرة. فكم من طالب تخرج في الجامعة، حاملاً شهادة علمية، ثم مضى ليصبح رائد أعمال يفتح شركات ناشئة توفر فرص عمل لعشرات الشباب مثله، أو باحثًا يضيف معرفة جديدة للعالم، أو قائدًا مجتمعيًا يسهم في صياغة السياسات العامة. هذا الإلهام هو الشرارة الأولى التي تدفع الأجيال نحو الإنجاز.
أما الشق الثاني من العبارة، «نبني المجتمعات»، هو النتيجة الطبيعية للشق الأول «نلهم الأجيال». فالمجتمع القوي لا يبنى بالحجارة وحدها، بل بالعقول المتعلمة والطاقات الواعية، التي تعرف كيف تحوّل الأفكار إلى إنجازات. عندما ينخرط طلبة الجامعة في المبادرات البيئية، مثل حملات التشجير أو التوعية بترشيد استهلاك الطاقة، فإنهم يسهمون مباشرة في تحسين جودة الحياة في مجتمعهم، وعندما يتطوعون لدعم الأسر المحتاجة أو تنظيم حملات صحية للتوعية بالأمراض، فإنهم يقدمون نموذجًا حيًا لمواطن مسؤول.
هذا الانخراط العملي لا يقل أهمية عن التعليم الأكاديمي، لأنه يزرع في الطلبة روح العطاء، ويجعلهم يدركون أن العلم لا يكتمل إلا إذا تحول إلى خدمة إنسانية.
ولعل أبرز صور البناء المجتمعي هو البحث العلمي التطبيقي، فعندما ينجز فريق بحثي من الجامعة دراسة حول تطوير مصادر الطاقة المتجددة، أو طرق مبتكرة لإدارة الموارد المائية، فإن نتائج هذا البحث تعود بالنفع المباشر على المجتمع البحريني، وتضعه في مصاف الدول التي توازن بين التنمية المستدامة وحماية البيئة، فلا يمكن لأي جامعة أن تحقق رسالتها بمعزل عن محيطها.
ومن هنا تأتي أهمية الشراكات بين الجامعة ومؤسسات الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، هذه الشراكات تحقق فائدة مزدوجة: فهي من جهة تمنح الطلبة فرصة لتطبيق معارفهم في الواقع العملي، ومن جهة أخرى تسهم في تزويد المجتمع بالكفاءات والحلول، على سبيل المثال، التعاون بين الجامعة والمستشفيات الوطنية لا يقتصر على تدريب طلبة الطب والتمريض، بل يسهم في تطوير مستوى الخدمات الصحية بشكل عام، وكذلك التعاون مع الشركات الصناعية الكبرى يفتح المجال أمام طلبة الهندسة لتقديم حلول تقنية حديثة تساعد على رفع كفاءة الإنتاج وتقليل التكاليف، فلا تقتصر على المعادلات والمشاريع الأكاديمية، بل تصقل خريجين قادرين على تطوير البنية التحتية للدولة، وتخصصات التربية تعدّ المعلمين الذين يلهمون أجيالًا أخرى من الطلبة في المدارس، أما كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية فتفتح المجال لفهم أعمق للعلاقات الإنسانية، وتعزز قيم الحوار، والتعايش، والمسؤولية. كل هذه الأدوار تصب في خدمة المجتمع، وتحويله إلى كيان متطور يواكب التغيرات العالمية.
هذه النماذج الواقعية توضح أن الإلهام الذي يبدأ داخل أسوار الجامعة سرعان ما يتجاوزها ليبني المجتمع بأسره، فهي لا تُعدّ الطلبة لسوق العمل فحسب، بل تسهم في دفع عجلة التنمية الوطنية وتعزيز مكانة البحرين عالميًا.
ومن أجمل ما في هذه العبارة أنها تربط بين الحاضر والمستقبل؛ فالإلهام يحدث اليوم، لكن ثماره تمتد عبر السنين لتبني مجتمعًا أكثر وعيًا، أكثر تقدمًا، وأكثر إنسانية.
إن الطالب الذي يجلس الآن على مقعده الدراسي قد يكون هو ذاته من يضع بعد عقدين خطة تنموية شاملة للوطن، أو يقود مبادرة علمية تغيّر حياة الكثيرين.
هكذا تتحقق رسالة الجامعات: أن تكون مصدر إلهام لا ينضب، وأن تسهم في بناء مجتمع يعتز بإنجازه ويثق بقدرات أبنائه، وبهذا تظل هذه العبارة حية في النفوس، متجسدًة في الأعمال، وبين الإلهام والبناء، تتحقق دائرة العطاء المتبادل، لتظل الجامعة منارة للعلم والإبداع، وجسرًا يربط الحاضر بالمستقبل.
وهكذا تتحول العبارة من كلمات إلى واقع ملموس، ومن رؤية إلى إنجاز، ومن حلم إلى حقيقة يعيشها كل فرد في هذا الوطن. «نلهم الأجيال... نبني المجتمعات» ليست عبارة على لوحة إعلانية ترفع مع بداية العام الدراسي ثم تطوى في النهاية، بل هي رسالة مستمرة تتجدد مع كل طالب يدخل الجامعة، ومع كل خريج يغادرها نحو سوق العمل. إنها تعبير عن علاقة تكاملية بين الجامعة والمجتمع: فكما تستمد الجامعة من المجتمع طلابها واحتياجاتها، فإنها تعود لتغذيه بالعلم والمعرفة والكوادر المؤهلة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك