في لحظة سياسية مشحونة بالتوترات الإقليمية والتحولات العالمية، جاء خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي ليكشف بصورة أوضح من أي وقت مضى طبيعة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، ومدى انخراط الولايات المتحدة في مسار الحرب والإبادة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني. لم يكن الخطاب مجرد زيارة دبلوماسية أو حدث رمزي، بل تجسيدًا لتحالفٍ سياسي وعسكري يرسّخ هيمنة القوة وازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا العدالة وحقوق الإنسان في المنطقة.
وفي هذا السياق، تحدّث فيليب كولينز من صحيفة الأوبزيرفر عن أقوال وأفعال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وصفه بأنه «لا يخضع لأي سلطة سوى صوته الداخلي»، مشيرًا إلى أن هذا الأمر تجلى مجددًا في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي في 13 أكتوبر 2025. وجاءت زيارته في إطار ما وصفه عدد من المراسلين الغربيين، ومنهم كيث جونسون من مجلة فورين بوليسي، بـ«جولة النصر» عقب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين نظام بنيامين نتنياهو المتطرف وحركة حماس.
ألقى ترامب خطابًا استمر ساعة كاملة، امتلأ كما هو متوقع بالتفاخر بدوره في التمهيد لما وصفه بـ«فجر تاريخي لشرق أوسط جديد»، بدلًا من التركيز على تحقيق «سلام وازدهار شامل» للمنطقة. وجوهر كلمته وظهوره أمام الكنيست لا يمكن اعتباره سوى تأكيد واضح على تواطؤ واشنطن المباشر في إبادة مئات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين خلال العامين الماضيين.
لقد أقرت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 بأن حرب إسرائيل على غزة تمثل إبادة جماعية، وأكدت أن استمرارها لم يكن ممكنًا لولا الدعم المالي والعسكري الأمريكي. كما أن اختيار ترامب لمجموعة من المقربين لتولي مفاصل القرار -من بينهم وزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الحرب بيت هيجسيث، ومستشاره الخاص ومبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، والجنرال دان كين رئيس هيئة الأركان المشتركة، وصهره جاريد كوشنر- سيُذكر تاريخيًا على أنهم الحلقة الأساسية التي دعمت وساهمت في محاولة إبادة الشعب الفلسطيني.
إن الاستقبال الحافل الذي ناله ترامب من معظم أعضاء الكنيست، والذي تخلله تصفيق متكرر وهتافات باسمه عقب كل جملة تقريبًا، أعاد للأذهان ما لقيه نتنياهو من ترحيب مماثل عندما ألقى خطابه أمام الكونجرس الأمريكي في يوليو 2024، وهو الوقت الذي كان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية قد طلب فيه بالفعل إصدار مذكرة توقيف دولية بحقه بتهم جرائم الحرب.
ورغم أهمية الحدث، اختارت كثير من وسائل الإعلام الغربية تجنب التركيز على أن زيارة ترامب لإسرائيل تمثل تعاونًا مع رئيس وزراء مطلوب للعدالة الدولية في لاهاي. فقد قللت من تفاصيل خطاب ترامب لصالح تغطية مقتضبة لتصريحاته المثيرة، واهتمت بإبراز واقعة طرد بعض النواب اليساريين الذين احتجوا على خطابه داخل الكنيست.
لكن التمعن في كلمات ترامب يُظهر بوضوح أن تورط الولايات المتحدة في محاولة الإبادة الجماعية للفلسطينيين أمر لا لبس فيه، كما أن إشارته إلى شخصيات محددة تبرز المسؤولين المباشرين عن هذه الجرائم المروعة.
وفي سياق ما وصفه كيث جونسون بأنه «خطاب متشعب على نمط ترامب المعتاد»، لاحظت كارين دي يونغ في صحيفة واشنطن بوست أن الرئيس الأمريكي تجنب توجيه إهاناته المعتادة لأسلافه الديمقراطيين، مفضلًا الإشادة بـ«انتصار إسرائيل، بمساعدتنا، بكل ما تملك من قوة السلاح».
كشف معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون عن حجم هذا الدعم، موثقًا أن الحكومة الأمريكية أنفقت أكثر من 21.7 مليار دولار كمساعدات عسكرية مباشرة لإسرائيل منذ أكتوبر 2023، إضافة إلى نحو 12.07 مليار دولار أخرى لتمويل عمليات عسكرية أمريكية في المنطقة، من اليمن إلى إيران، بهدف تعزيز مصالح واشنطن وحليفتها في الشرق الأوسط.
كما وثقت منظمات حقوقية، أبرزها هيومن رايتس ووتش، استخدام الأسلحة والقنابل الأمريكية الصنع ضد المدنيين والبنية التحتية في غزة، بما في ذلك المستشفيات والمدارس. وأدان جيري سيمبسون، المدير المساعد لقسم الأزمات في المنظمة، الحكومات الممولة والمسلحة لإسرائيل، مؤكدًا أن «لا دولة تستطيع الادعاء بجهلها بما تُستخدم أسلحتها من أجله». ومع ذلك، تجاهلت إدارة ترامب كل هذه التحذيرات، إذ أبلغت الكونجرس في سبتمبر 2025 نيتها بيع أسلحة جديدة لإسرائيل بقيمة 6 مليارات دولار، تشمل 4 مليارات لمروحيات أباتشي هجومية و3200 مركبة قتال مشاة للجيش الإسرائيلي.
وجاء في خطاب ترامب ما يؤكد الدور الأمريكي الداعم عسكريًا وسياسيًا لإسرائيل، حتى على حساب مئات الآلاف من الضحايا المدنيين. فقبل خطابه بالكنيست، لم يُشر ترامب إلى المعاناة الهائلة التي يعيشها أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، ووصف القصف والتجويع المتواصلين للأطفال بأنهما مجرد أمرين «سيئين» و«قاسيين». كما قلل من شأن رد الفعل الدولي ضد إسرائيل، واعتبره «سيئًا بعض الشيء»، بينما أشاد بما أسماه «شجاعة» نتنياهو لإنهاء الحرب في ذكراها الثانية.
وتفاقم المشهد داخل الكنيست عندما بدأ ترامب بذكر مستشاريه الرئيسيين الذين دعموا بلا مبرر استمرار القصف الإسرائيلي وتصعيده ضد غزة، ما يجعلهم شركاء مباشرين في جرائم الحرب التي عانى منها المدنيون الفلسطينيون.
من بين 33 تصفيقًا حارًا لخطاب ترامب، حضر كل من وزير الخارجية الأمريكي ووزير الدفاع، إلى جانب ويتكوف وكوشنر وميريام أديلسون، صاحبة كازينو في لاس فيغاس وأحد كبار الداعمين الماليين المؤيدين لإسرائيل داخل الحزب الجمهوري، والتي أقرّ ترامب بتأثيره في سياساته الخارجية تجاه الشرق الأوسط.
أما الشخص الذي بدا عليه الانزعاج من إشادة ترامب به، فكان رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال رازين كين، الذي وصفه الكاتب مارك بودين في مجلة أتلانتيك بأنه «الجنرال المفضل» لدى الجمهوريين، حتى تمت ترقيته إلى قمة المؤسسة العسكرية متجاوزًا ما لا يقل عن 38 مسؤولًا أعلى رتبة منه. وقد جلس كين، مع مئات القادة العسكريين، صامتًا بينما أعلن ترامب في نهاية سبتمبر 2025 أن الولايات المتحدة «تتعرض لهجوم من الداخل»، دون أن يتطرق إلى دوره في تنسيق التعاون العسكري الأمريكي مع إسرائيل، ليس فقط ضد المدنيين في غزة، بل في أنحاء الشرق الأوسط، وخاصة قصف إيران في يونيو 2025.
وبدلًا من ذلك، قال ترامب إن كين لا ينتمي إلى فئة «الجنرالات الإعلاميين» الذين اعتادوا الظهور في القنوات التلفزيونية لتوجيه النصائح إلى قادة البيت الأبيض السابقين بعدم اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية المفرطة في المنطقة.
وأثناء كلمته أمام الكنيست، ركّز ترامب في تصريحاته على نتنياهو إذ أظهر دعمه الكامل له باعتباره حليفًا سياسيًا مقربًا وشريكًا في التوجهات المشتركة بينهما. ومع إعلان وقف إطلاق النار، رأت كسينيا سفيتلوفا، الزميلة في برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بتشاتام هاوس، أن سياسات نتنياهو «انهارت واحدة تلو الأخرى»، وأن احتمال إجراء انتخابات مبكرة كبير، وهزيمته قد تجبره على مواجهة نتائج محاكمته بتهم الفساد المؤجلة مرارًا.
ولأن نتنياهو كان قد حاول في وقتٍ سابق كسب ودّ ترامب بتأييده لترشيحه لجائزة نوبل للسلام، فقد ردّ ترامب على ذلك بطلبٍ من الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، أن يمنحه عفوًا من تهم الفساد الموجهة إليه، معتبرًا تلك الاتهامات بسيطة لا تستحق الاهتمام، ووصفها بأنها لا تتعدى «قضية سيجار وزجاجات شمبانيا»، متسائلًا باستخفاف: «ومن يهتم بذلك أصلًا؟».
وصف كولينز الموقف بأنه «لحظة مسرحية»، فيما اعتبر جيمي ديتمر من بوليتيكو أن هذا التصرف مثال آخر على تدخل الجمهوريين في شؤون دول أخرى بطريقة «استفزازية وغير دبلوماسية» لمساندة حليف. أما داليا شيندلين، الزميلة في مؤسسة سينشري فاونديشن بنيويورك، فنددت بخطاب ترامب في الكنيست، قائلة إنه أظهر «غياب أي اهتمام بالديمقراطية أو عملياتها».
وفي حين أشاد الجمهوريون بالقوة العسكرية الأمريكية واستمرار دعمهم الكامل لإسرائيل، أشارت دي يونغ إلى أن ترامب «تجنب تمامًا ذكر الانقسامات العميقة المستمرة في المنطقة»، مثل مستقبل الضفة الغربية وحق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة. ووفقًا لتحليل حسين آغا من جامعة أكسفورد وروبرت مالي من جامعة ييل، فإن خطة ترامب ذات النقاط العشرين «تُلزم الفلسطينيين بالتكفير عن أفعال حماس» لكنها لا تطالب إسرائيل بمحاسبة نفسها على «الوحشية» التي فرضتها على غزة عامين متتاليين.
وأعربت دي يونغ عن أسفها لأن واشنطن لم تمارس ضغطًا حقيقيًا على إسرائيل لتقديم تنازلات تضمن سلامًا دائمًا. كما أن تصريحات ترامب أثناء عودته من المنطقة - بأنه لا يهتم حاليًا بخيار الدولة الواحدة أو الدولتين وسيتخذ قراره «في مرحلة ما» لاحقًا - عمّقت المخاوف من أن السياسة الأمريكية ستظل خاضعة لمطالب الحكومة الإسرائيلية واللوبي المؤيد لإسرائيل، بما ينكر عمليًا إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة.
خلصت سفيتلوفا وغيرها من المحللين إلى أن الضغط السياسي المتزايد من إدارة ترامب هو ما أجبر ائتلاف نتنياهو في النهاية على القبول بوقف إطلاق النار في غزة. ومع ذلك، لم يكن يمكن تصور هذا السيناريو عندما خاطب ترامب السياسيين الإسرائيليين في 13 أكتوبر. فبدلًا من طرح خطة واضحة لمستقبل غزة، جاءت خطته «غامضة، بلا جداول زمنية أو آليات تنفيذ أو عقوبات على الانتهاكات المتوقعة»، كما وصفها آغا ومالي. وقد عكست تصريحاته تواطؤ إدارته في جرائم الحرب ضد الفلسطينيين في غزة، وكشفت عن الشخصيات الرئيسية المسؤولة عنها.
ورغم تشتت أفكاره في الخطاب، إلا أن كلماته أكدت مدى انسجام واشنطن مع أعمال الإبادة التي ارتكبها ائتلاف نتنياهو، كما أظهر تدخله العلني لطلب العفو عن نتنياهو في قضايا الفساد الداخلي التزام البيت الأبيض بالإبقاء على حليفه في السلطة.
وهكذا، يظهر خطاب ترامب أمام الكنيست بوصفه أكثر من مجرد موقف سياسي عابر، بل وثيقة تُدين النهج الأمريكي في المنطقة، الذي يقوم على دعم الاحتلال وتبرير جرائمه، وتجاهل معاناة ملايين الفلسطينيين. وبينما يواصل البيت الأبيض تغطية سياسات حلفائه تحت شعارات «الأمن» و«الاستقرار»، تتكشف الحقيقة المرة: أن السلام العادل لن يتحقق ما دامت القوى الكبرى تضع حساباتها السياسية فوق المبادئ الإنسانية والقانون الدولي، وتغض الطرف عن الإبادة التي تجري على مرأى ومسمع من العالم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك