في ظل التحديات البيئية العالمية المتزايدة، تتجه مملكة البحرين بخطى ثابتة نحو مستقبل أكثر استدامة، واضعة نصب أعينها هدفًا طموحًا يتمثل في تحقيق الحياد الكربوني الكامل بحلول عام 2060. هذا التوجه ليس وليد اللحظة، بل هو ثمرة رؤية استراتيجية وطنية للطاقة أعلنتها البحرين في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP26)، حيث تعهدت بخفض الانبعاثات بنسبة 30% بحلول عام 2035، كمرحلة أولى نحو الوصول إلى الحياد الصفري. وتقوم هذه الاستراتيجية على ثلاث ركائز رئيسية: تحسين كفاءة استهلاك الطاقة، وتنويع مصادر الطاقة لتشمل خيارات أنظف، ونشر تقنيات خفض الكربون في القطاعات التي يصعب إزالة الانبعاثات منها. وتعمل البحرين على تحويل هذه الركائز إلى مبادرات عملية تشمل تطوير مشاريع الطاقة الشمسية، مثل مشروع «ألبا» الذي يضم أكثر من 11 ألف لوح شمسي، ومشروع «عقارات السيف» الذي يزود أربعة مجمعات تجارية بالطاقة النظيفة، بالإضافة إلى محطة مدينة التنين للطاقة الشمسية التي تُعد الأكبر من نوعها في البحرين.
كما تسعى البحرين إلى رفع مساهمة الطاقة النظيفة إلى 20% من مزيج الكهرباء بحلول عام 2035، مستندة إلى بيئة تنظيمية مرنة وموقع استراتيجي يجعلها مؤهلة لتكون مركزًا إقليميًا لتطوير واختبار التقنيات النظيفة. وتولي القيادة البحرينية، ممثلة بجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة وسمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، اهتمامًا بالغًا بهذا التحول، حيث يتم دعم الابتكار المحلي في قطاع الطاقة، وتعزيز الشراكة بين الحكومة والقطاع الصناعي، وتوفير الحوافز للقطاع الخاص للاستثمار في الطاقة المتجددة. وتُعد هذه الجهود جزءًا من خطة التعافي الاقتصادي التي تركز على تنمية القطاعات الواعدة، بما يضمن تحقيق النمو الاقتصادي المستدام بالتوازي مع حماية البيئة. ورغم التحديات التي تواجه هذا التحول، مثل التكلفة الابتدائية العالية لمشاريع الطاقة المتجددة والحاجة إلى تطوير البنية التحتية، فإن البحرين ترى في هذه التحديات فرصًا لتعزيز الابتكار وخلق وظائف جديدة وتحسين جودة الحياة.
إن خطة البحرين 2060 ليست مجرد وثيقة طموحة، بل هي مسار عملي نحو مستقبل أخضر، تتطلب تضافر جهود الحكومة والمجتمع والقطاع الخاص، وتضع مملكة البحرين في موقع ريادي في المنطقة في مجال الطاقة النظيفة والاستدامة البيئية.
ويبرز في هذا السياق الدور القيادي لسمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، ممثل جلالة الملك للأعمال الإنسانية وشؤون الشباب، ورئيس مجلس إدارة شركة بابكو إنرجيز، الذي يقود جهود التحول الطاقوي من خلال إشرافه المباشر على تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للطاقة. وقد أكد سموه في أكثر من مناسبة التزام بابكو إنرجيز بتسريع جهود البحرين في تشكيل مستقبل أنظمة الطاقة العالمية، مشددًا على أهمية مواءمة استراتيجيات الشركة مع أهداف المملكة في الحياد الكربوني. وتعمل بابكو إنرجيز، التي تمثل الذراع الوطنية للطاقة، على تنفيذ مشاريع نوعية تشمل تطوير الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بالإضافة إلى مبادرات احتجاز الكربون وتحسين كفاءة الطاقة. ومن أبرز الشراكات الاستراتيجية التي أطلقتها الشركة، التعاون مع شركة «مصدر» الإماراتية لتطوير مشاريع طاقة رياح بقدرة تصل إلى 2 جيجاواط، وهي خطوة غير مسبوقة في المنطقة وتُعد من أكبر مشاريع الطاقة المتجددة في تاريخ البحرين.
كما أطلقت بابكو إنرجيز إطارًا للتحول المالي المرتبط بالاستدامة، لتكون أول شركة وطنية للطاقة في المنطقة تعتمد هذا النموذج، مما يعزز قدرتها على جذب التمويل الأخضر وتوجيهه نحو مشاريع الطاقة النظيفة. وتؤكد هذه المبادرات أن بابكو إنرجيز ليست مجرد شركة تشغيلية، بل هي محرك رئيسي للتحول الوطني في قطاع الطاقة، وتلعب دورًا محوريًّا في بناء اقتصاد منخفض الكربون، مدعومًا بالابتكار والشراكات الدولية.
وعند النظر إلى موقع البحرين ضمن السياق الخليجي والعالمي، تبرز ملامح واضحة للمقارنة التي تعكس مدى جدية المملكة في هذا التحول، وإن كانت أهدافها تتحقق عبر استراتيجية تتسم بتدرج الخطوات. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، أعلنت هدفها لتوليد 50% من الطاقة من مصادر متجددة بحلول عام 2030، مع التزام بتحقيق الحياد الكربوني في 2060، وهي نفس السنة التي تستهدفها البحرين، لكن مع طموح أكبر في نسب الطاقة النظيفة. أما دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد وضعت هدفًا أكثر تقدمًا يتمثل في تحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، وتسعى لأن تكون أول دولة خليجية تحقق هذا الإنجاز، مستندة إلى مشاريع ضخمة مثل «مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية» الذي يُعد من أكبر المجمعات في العالم. ودولة قطر بدورها تستهدف الوصول إلى 20% من الطاقة المتجددة بحلول 2030، مع التركيز على مشاريع الطاقة الشمسية، بينما تسعى سلطنة عمان إلى تحقيق 39% من الطاقة المتجددة بحلول 2040، وتخطط للحياد الكربوني في 2050. أما الكويت، فرغم تأخرها نسبيًا، تهدف إلى 15% من الطاقة المتجددة بحلول 2035، وتضع نصب أعينها تحقيق الحياد الكربوني في 2050.
وعلى المستوى العالمي، تتفاوت الأهداف بشكل كبير بين الدول المتقدمة والنامية. الاتحاد الأوروبي يُعد من أكثر المناطق تقدمًا في هذا المجال، حيث يهدف إلى تحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050، ويطبق سياسات صارمة مثل ضريبة الكربون وأنظمة تداول الانبعاثات. الولايات المتحدة تسعى إلى خفض الانبعاثات بنسبة 50% بحلول 2030 مقارنة بمستويات 2005، مع هدف الحياد الكربوني في 2050.
والصين، رغم كونها أكبر مصدر لانبعاثات الكربون في العالم حاليا، أعلنت أنها ستصل إلى ذروة الانبعاثات بحلول 2030، وتحقق الحياد الكربوني في 2060، وهو نفس العام الذي تستهدفه البحرين. أما الهند، فقد وضعت هدفًا بعيد المدى لتحقيق الحياد الكربوني في 2070، مع التركيز على الطاقة الشمسية والنووية.
في هذا السياق، تُعد البحرين من الدول التي تبنت أهدافًا متوسطة المدى، لكنها بدأت فعليًا في تنفيذ مشاريع ملموسة، مما يضعها في موقع متقدم نسبيًا بين الدول النامية، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط. ومع استمرار البحرين في تنفيذ هذه المبادرات، فإنها ترسم طريقًا واضحًا نحو تحقيق الحياد الكربوني، وتؤسس لاقتصاد أخضر قادر على مواجهة تحديات المستقبل بثقة واستدامة.
{ مختص في مجال الطاقة.
a.s.civil.88@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك