لقد حظيت خطة ترامب للسلام في غزة بترحيب وقبول حسن لدى طرفي الصراع إسرائيل وفصائل المقاومة بقيادة حركة حماس وعدد من الدول العربية والإسلامية، وجاء هذا الترحيب نتيجة أن صاحب الخطة أو المبادرة الرئيس الأمريكي ترامب ضغط بشدة في اتجاه قبول مبادرته؛ لأنها حسب رأيه هي الأمل الأخير لوقف إطلاق النار وبدء عملية السلام في المنطقة ولذلك لا سبيل أمام طرفي النزاع إلا الموافقة عليها تجنباً لمزيد من الخسائر لكليهما.
تتألف خطة الرئيس ترامب من 20 بنداً تهدف إلى إنهاء الحرب في غزة بين إسرائيل وحماس، وأبرز بنودها إطلاق سراح الأسرى وفق صيغة تبادل محددة، وانسحاب الجيش الإسرائيلي جزئياً إلى خطوط متفق عليها، وتنظيم الوضعين السياسي والأمني عبر تسليم إدارة غزة لهيئة فلسطينية مستقلة من تكنوقراط، تحت إشراف مجلس سلام دولي يترأسه ترامب، بمشاركة شخصيات دولية مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق سيئ الصيت توني بلير. إضافة إلى إطلاق برنامج لإعادة الإعمار. وتسعى الخطة أيضا إلى تحويل غزة إلى منطقة منزوعة السلاح، بضمانات دولية وإقليمية، بما يضع ترتيبات أمنية جديدة في المنطقة.
رغم أن الخطة، قد ساوت بين الجلاد والضحية، إلا أن حماس أبدت مرونة كبيرة هذه المرة في قبولها وهي بالتأكيد قبلت المخاطرة بالموافقة عليها؛ لأنها تحمل في داخلها مخاطر سياسية جسيمة، ويعزو البعض موافقة حماس على هذه الخطة إلى الضغوط التي مُورست عليها من قبل الوسطاء، أو ربما بتشجيع منهم بقصد حقن دماء الفلسطينيين.
أما إسرائيل فلم تكن متحمسة جداً لقبول هذه الخطة في البداية؛ فرئيس وزرائها نتنياهو ومن خلفه أعضاء فريق حكومته اليمينية المتطرفة أمثال بن غفير وسموتريتش لا يريدون وقف الحرب، وقد عبروا عن ذلك مراراً وتكراراً عن رغبتهم الشديدة في مواصلة الحرب حتى تحقق أهدافها حسب زعمهم.
لكن نتنياهو وبعد اجتماعه مع ترامب -وتحت ضغوطه- خضع لطلبه بعد أن أقنعه الأخير أن الاستمرار في الحرب ليس في مصلحة إسرائيل، لأن صورتها الدولية انهارت، وواجهت موجة إدانات دولية غير مسبوقة بسبب عدوانها الوحشي على غزة، إضافة إلى تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، والملاحقات القانونية ضد مسؤولين إسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو فضلا عن تخلي بعض الدول الغربية عن دعمها.
كما لم يكن الداخل الإسرائيلي غائباً عن المشهد، فقد ألقى بظلاله على تفكير نتنياهو ودفعه نحو تغيير موقفه من الحرب على غزة؛ حيث وجد أن استمرار القتال مدة عامين أدت إلى تململ في صفوف الجيش، ورأى بعض كبار جنرالاته أن ذلك أفضى إلى استنزاف بشري ومادي غير مسبوق. بالإضافة إلى ذلك، فإن ألسنة نيران الحرب امتدت تأثيراتها إلى الاقتصاد الإسرائيلي فأحدثت شروخا عميقةً في مفاصله كان لها أكبر الأثر في انقسام الجبهة الداخلية. لهذا كله وجد نتنياهو نفسه بين مطرقة الضغوط الداخلية وسندان انهيار صورة إسرائيل الخارجية فما كان منه إلا الرضوخ والقبول بخطة ترامب.
من زاوية أخرى، فإن ترحيب حماس بالخطة، لا يعني إطلاقاً أنها أنصفت الفلسطينيين، وأقرت بحقوقهم لكن في اللحظة الراهنة اعتبرت حماس الخطة مفيدة من جهة واحدة أنها ستجبر إسرائيل على وقف القتال وهذا من شأنه أن يؤدي إلى وقف نزيف دماء الفلسطينيين ويعطيهم الأمل في الحياة بعد أن اغتالته حكومة نتنياهو المجرمة وهذا هدف أساسي بالنسبة إلى حماس في المرحلة الراهنة.
في الواقع، إن حماس لم توافق على كل بنود الخطة، حيث امتنعت عن اتخاذ قرار بشأن بعض بنودها وقد يكون ذلك تصرفاً ذكياً منها حسب رأي أغلب المراقبين، لأن رفض الخطة بمجملها قد يحملها مسؤولية عواقب تداعيات عدم الموافقة التي قد يُعرضها للنقد الشديد من قبل قاعدتها الشعبية، وجمهورها في الشارع الفلسطيني، ويظهرها بمظهر الرافض لكل التسويات.
لذلك تصرفت قيادات حماس بحكمة، وقلبوا الطاولة على نتنياهو من خلال قبولهم لهذه الخطة من خلال ممارسة اللعبة السياسة التي ترتكز على قاعدة فن الممكن. كما أن قبولهم جاء في إطار قراءتهم الدقيقة والواعية لشخصية ترامب؛ فهو «شخصية نرجسية»، وهذا النوع من الشخصيات كما يصفها علماء النفس لديها شعور بالعظمة والتفوق على الآخرين والإعجاب الشديد بالذات، وتواقة للمديح والثناء، فضلاً عن أن لديها حساسية شديدة من الانتقاد ورد فعل قوي وعنيف عند التعرض للانتقاد أو التجاهل.
ولذلك فإن قادة حماس وجدوا أن ترامب هو المفتاح؛ فهو يبحث عن إنجاز كبير يسجل لنفسه، وأنه حليف إسرائيل وهو الوحيد القادر على فرض إرادته عليها فقبلوا بخطته. لكن مع كل ذلك يبقى أن ننوه إلى أن الرئيس الأمريكي الجالس في البيت الأبيض سواء ترامب أم غيره تحكمه سياسات الدولة العميقة واللوبيات ودائرة العلاقات. وقد ظهر ذلك جلياً في تصريحات ترامب عندما أشار إلى أنه لن يتهاون مع أي تأخير من جانب حماس، وأن على الحركة الرد بسرعة «وإلا ستصبح كل الاحتمالات واردة». كل هذه المتغيرات تم وضعها في الحسبان من قبل قادة حماس، وتم اتخاذ المواقف بناء عليها.
صحيح أن الخطة ليست منصفة لحماس أو للشعب الفلسطيني ؛لأنها تهتم أساسا بمصلحة إسرائيل –وهي المعتدية– أكثر من مصلحة حركة حماس وهي صاحبة الأرض والمعتدى عليها، إضافة إلى أنها تحمل في طياتها ألغاماً ستظهر نتائجها مع مرور الأيام في عدة مؤشرات من بينها خروج حماس والسلطة الفلسطينية من المشهد السياسي وبذلك لن يكون لهما أي دور في حكم غزة ، وسيتم تشكيل مجلس انتقالي لإدارتها يرأسه ترامب، ولجنة مكونة من فلسطينيين تكنوقراط أما المدير التنفيذي للمجلس فسيتولاه توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وهذا يعني في مضمونه فصل غزة عن الضفة الغربية وهو ما سينتج عنه تأجيل إعلان الدولة الفلسطينية وبذلك يتحقق حلم نتنياهو، كما أنه يضع القطاع تحت الوصاية الدولية.
أما الطامة الكبرى فتكمن في البند السادس من الخطة والمتعلق بتجريد حماس من سلاحها. هذه المسألة ستفتح الباب على مصراعيه لإسرائيل بأن تكون محصنة، ويعطيها الأمان للتدخل العسكري في أي وقت تشاء ومن دون أي رادع يمنعها من التوغل في غزة في الوقت ذاته يحرم الطرف الآخر من الدفاع عن نفسه وهذا دليل على أن الخطة لا توازن بين طرفي النزاع.
في قضية تبادل الأسرى تنظر الخطة إليها من زاوية إنسانية وتؤكد تكافؤاً زائفاً بين آلاف الأسرى الفلسطينيين الكثير منهم اعتقل من غير وجه حق وأسرى إسرائيليين في سياق حرب قائمة، ليصير الأمر تبادلا غير عادل على أرض الواقع.
الخلاصة، يمكن القول: إن قبول حماس لخطة ترامب رغم قساوتها كان بهدف وقف حرب الإبادة والانسحاب الإسرائيلي، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية وهذا بالنسبة إليها في هذه الفترة الحرجة أمر جوهري وضروري.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك