قرار سمو ولي العهد رئيس الوزراء الأمير سلمان بن حمد آل خليفة بعرض 3 فرص عمل «مناسبة» لكل باحث عن عمل قبل نهاية العام الحالي يُعد نقلة مهمة لمعالجة ملف التوظيف وتأكيدا من القيادة أن القضية وصلت مرحلة يجب أن تأخذ أولوية قصوى كحالة إنسانية لها تداعيات اجتماعية واقتصادية وأمنية. إن إضافة كلمة مناسبة هي ما يميز هذه المبادرة عن سابقاتها، حيث كانت تُعرض على الباحث عن عمل وظائف لا تناسب تخصصاتهم ولا جنسهم ولا مستوى المعيشة الذي يسمح بفتح بيت. أما الإضافة المهمة الثانية فهي تحديد مدة زمنية (نهاية السنة) للتنفيذ.
على أثر ذلك وردت خطوات ومقترحات على لسان المسؤولين والنواب ورجال الأعمال و«تمكين» وهيئة سوق العمل ووزارة العمل كل فيما يخصه. ولا شك أن هؤلاء المساهمين في المقترحات لهم رؤاهم وتوقعاتهم حول النتائج المرجوة في تقليل أعداد العاطلين، الذين بلغ عددهم وفق وزارة العمل 17 ألفا، بينما حجم العمالة 575 ألفا. كذلك بينت مذكرة اللجنة الوزارية للخدمات المجتمعية أن خطة سوق العمل (2023-2026) تهدف إلى تدريب 15 ألف بحريني سنويا بينهم 8000 داخلين جدد إلى سوق العمل. أيا كانت الأعداد فهي رسميا لا تقل عن 17 ألفا، وهذا عدد ليس بقليل إذ يتركز في فئة الشباب من خريجي الجامعات والكليات والدراسات العليا في مختلف المجالات. يضاف إلى ذلك أن عددا من خريجي الجامعات يعمل في وظائف غير مناسبة برواتب محدودة.
لذلك فإن تنفيذ ما تتطلع إليه القيادة من معالجة يحتاج إلى مسارين، المسار الأول مبادرات سريعة من قبل المسؤولين وهذا ما صرحت به جهات عدة، ويتحقق من خلال سياسات سوق العمل مثل تخصيص وظائف للبحرينيين فقط وغيرها من الإجراءات سريعة التأثير. تأكيدا لذلك نجد أن شركة ألبا أفصحت في 26 أغسطس 2025 عن خطة لإحلال الكفاءات الوطنية محل الوافدين لترفع نسبة البحرنة عن ما هي عليه الآن 87%. وسوف ترفع نسبة المتدربين ليصل إلى 300 متدرب ومتدربة. وفي 6 أغسطس صرحت هيئة تنظيم سوق العمل «مشروع توظيف بلاس» بوجود 600 وظيف شاغرة في سوق العمل، بينما يوجد 8000 طلب مسجل لدى اللجنة. أما المسار الثاني فمتوسط المدى لا يتجاوز نهاية 2026، ويتكون من:-
أولا: النظر في أسباب وجود مثل هذا العدد من العاطلين وهل الأمر يتعلق بالبنية الاقتصادية، أم بسوق العمل وضعف الطلب على الخريج البحريني، أم أن القضية لها علاقة بمنظومة التعليم والتدريب؟ وتحديدا المستوى التعليمي والتدريبي وما يمتلكه الخريج من مهارات عملية، أم أن هناك عوامل أخرى ينبغي البحث فيها.
ثانيا: بناء على نتائج البحث في الأسباب وتحليلها، يتم وضع استراتيجية واضحة، وتكون جزءا من رؤية تنويع الاقتصاد والعلاقة بين القطاع الخاص والعام ومسؤولية كل منهما في تدريب وتأهيل وتوظيف البحرينيين، ورفع إنتاجيتهم وتحسين أجورهم، وبما يتفق مع كلفة المعيشة المتزايدة. على أن تشمل الاستراتيجية تحسين بيئة ريادة الأعمال والبيئة التنافسية بشكل عام، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة لأخذ دورها في التنمية وخلق فرص عمل مجزية ومستدامة.
ثالثا: إن خلق فرص عمل، وتوظيف البحرينيين، لا يقتصر على جهود تمكين ووزارة العمل، فهذه الجهات تعمل في نطاق ما هو متاح من فرص يخلقها الاقتصاد ككل؛ وبالتالي فإن الأمر ينبغي أن يشمل الجهات ذات العلاقة مثل وزارة التجارة والصناعة، ووزارة المالية والاقتصاد الوطني، ومجلس التنمية الاقتصادية، ووزارة التنمية المستدامة، وكل من له علاقة في وضع السياسات الاستثمارية والتنموية اقتصاديا واجتماعيا.
رابعا: نحن بحاجة إلى مراجعة وتقييم الاستراتيجيات الوطنية التي وضعتها هذه الجهات للخمس سنوات المقبلة وما مساهمة كل جهة في معالجة تحديات سوق العمل والقدرة على خلق مشاريع جديدة تستوعب الخريجين الجدد التي قد تزيد مستقبلا أعدادهم السنوية عن 8000 ملتحق بسوق العمل.
خامسا: نجاح تنفيذ هذه الرؤى والاستراتيجيات يفرض وضع منظومة قياس أداء موحدة تشمل جميع الجهات المعنية وتكون تحت إشراف جهة واحدة، يفضل أن تكون مكتب سمو رئيس الوزراء.
سادسا: في وضع هذه التصورات والاستراتيجيات علينا أن ندرك أن وزارة العمل وتمكين ليسا الجهات التي يمكنها خلق فرص عمل. إن خلق فرص عمل هي عملية مرتبطة بالاقتصاد ككل وبمشاريع التنمية الشاملة وبالسياسات التي تتبناها الدولة والسياسة الاستثمارية التي يقرها مجلس التنمية الاقتصادية لمستقبل الاقتصاد ومساهمة كل من القطاعات الستة التي حددتها الاستراتيجية.
وأخيرا هناك حاجة لإقامة مشاريع كبيرة تستوعب الأعداد المتزايدة من الخريجين. هناك بوادر برزت لتوجه مماثل، فمثلا نشر في الصحافة عن مشاريع كبيرة لشركة بابكو انرجيز برواتب تتجاوز 2000 دينار وفي عديد من التخصصات، بالإضافة إلى المشاريع الإسكانية الكبيرة، وتصريح شركة ألبا في توظيف المهندسين والفنيين والإداريين. مثل هذه الشركات يمكن أن تستوعب أعدادا من العاطلين متى ما تم إعادة النظر في سياساتها وتنفيذ سياسة سوق العمل في تحديد وظائف للبحرينيين فقط، وإعادة النظر في مشاريع الخصخصة ومفهوم الاقتصاد المفتوح الذي يتأثر كثيرا بالعمالة الوافدة من مختلف المستويات ومنافستها غير المتكافئة مع البحريني. كذلك ينبغي الاستفادة من الفرص في القطاع العام مثل وزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم والإسكان ومشاريع التحول الرقمي.
في المحصلة النهائية فإن خلق فرص عمل مجزية سوف يعتمد على إقامة مشاريع صناعية كبيرة مدعومة ببحث علمي تطبيقي. المشاريع الصناعية توفر فرص عمل متنوعة وبأعداد مناسبة يمكن أن تعالج دخول أفواج الخريجين السنوية إلى سوق العمل. يمكن أن يتم ذلك بمبادرات حكومية تشجع القطاع الخاص على الاستثمار، على غرار الشركات الصناعية التي قامت في السبعينيات والثمانينيات. يمكن أن تكون في مجالات مثل تكنولوجيا الطاقة وتحلية المياه والاقتصاد الدائري والبرتقالي وغيره. دراسة مثل هذه المشاريع بشكل سريع يمكن أن يقوم بها مجلس التنمية مستعينا بقدرات وكفاءات وطنية مستعدة لتقديم خبراتها في سبيل رفع مستوى التنويع الاقتصادي لينعكس على مستوى المعيشة.
Drmekuwaiti@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك