عندما كنتُ في السابعةِ من عمري، عُوقبتُ لمجردِ أنني لم أشرب الحليبَ قبل دخولي الفصل الدراسي؛ فشربُ الحليبِ كان ملزمًا في المدرسةِ التي درستُ بها في إحدى المدارس الأجنبية بأوروبا آنذاك. وكان عقابي… اللعب بلعبة الليغو! نعم، قد يبدو هذا للمرةِ الأولى مزحةً، لكن ذلك الحدث الصغير حمل درسًا عميقًا ترسخ في عالمي الصغير.
فبينما تبدو لعبة «الليغو» مجردَ وسيلةٍ للتسلية، اكتشفتُ أنها في جوهرِها درسٌ بليغٌ في الإبداع، والبناء، والمسؤولية. تعلمتُ أن كلَّ قطعةٍ صغيرة يمكنُ أن تصنعَ فرقًا، وأن الصبرَ والتعاونَ هما سرُ النجاح. ومع مرور الوقت، أحببتُ تلك اللعبةَ وفهمت مفهوماً مهمًا: أن الأحلامَ تبنى فكرةً بفكرة حتى تصبحَ واقعًا ملموسًا.
فقد يبدو للوهلة الأولى أن لا رابطَ بين لعبة الليغو والمسؤوليَّةِ البرلمانيَّة، لكن عند التأمُّلِ نجد تشابهًا واضحًا في الفلسفةِ والمفهوم. فالليغو ليست مجردَ لعبة للأطفال، بل هي درسٌ عميقٌ في البناء، والدقةِ، والتعاون، والرؤية المستقبلية؛ وهي نفسُ القيم التي يقوم عليها العملُ البرلمانيُّ. كلُّ قطعةٍ في الليغو تمثلُ خطوةً تشريعيَّةً أو رقابيَّة، وكلُّ تنسيقٍ بين القطع يشبه التعاونَ بين أعضاء البرلمان لبناء نموذجٍ ناجح.
تمامًا كما تُبنى مجسّماتُ الليغو قطعةً فوق أخرى، يُبنى العملُ البرلماني على أسس متينة من التشريع، والمساءلة، والتعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. فالبرلماني مسؤول عن وضع كل «قطعة قانونية» في مكانها الصحيح لتشكيل بناء وطني متماسك يخدمُ المواطنين. كلُّ تشريعٍ يُسنّ، وكلُّ نقاشٍ يُدار، وكلُّ رقابةٍ تُمارس، هي لبنةٌ جديدة تُضافُ إلى صرحِ الدولة الكبير.
العملُ البرلماني، مثل الليغو، يحتاج إلى رؤيةٍ واضحة. اللاعب الذي لا يمتلكُ تصورًا للنموذجِ النهائي لن يصلَ إلى شكل متناسق، والبرلماني الذي يفتقرُ إلى رؤيةٍ وطنيًّة شاملة قد يسهم في تشريعاتٍ متناثرة لا تحقق الهدفَ المنشود. ومن هنا تأتي أهمية التخطيط، والدراسة، والتعاون الجماعي، لأن البناء البرلماني لا يقوم على الجهد الفردي، بل على تناغم جهود الجميع.
وعلى الجانب الآخر، عندما تُركّب القطع في غير مكانها، يختل التوازن وقد ينهار البناء. وهكذا هو الحال في العمل البرلماني: التشريعات غير المدروسة، القرارات المتسرعة، أو ضعف التنسيق مع السلطة التنفيذية، قد تؤدي إلى فجوات في المنظومة القانونية أو الرقابية. لذلك، تأتي المسؤولية البرلمانية لتقتضي الدقة، والنزاهة، والوعي الكامل بأثر القرار في حياة الناس. وكما يبني اللاعب نموذج الليغو قطعةً قطعة، يجب على البرلماني الحديث تركيب قوانينه بعناية لتواكب التكنولوجيا، الاقتصاد الرقمي، وقضايا البيئة، فلا يكفي التشريع التقليدي وحده، بل يحتاج المرونة والرؤية المستقبلية.
وفي النهاية، يمكن القول إن الليغو ليست مجردَ لعبة، بل فلسفة في البناء الواعي والمتقن، تمامًا كما أن العملَ البرلماني ليس مجرد نقاشات داخل القبة، بل هو عملية مستمرة من التشييد، والتطوير، والمساءلة. فكما يُبدع الطفل في تركيب القطع ليصنع نموذجًا متكاملًا، يُبدع البرلماني المسؤول في تركيب الأفكار والقوانين ليبني وطنًا مزدهرًا، قطعةً بقطعة، ومبدأً بمبدأ. وكما تُبنى المدن من حجارة صغيرة، تُبنى الأوطان من مواقف مسؤولة.
رسالة إلى الشباب:
أنتم الجيلُ الذي يحملُ بين يديه «قطعَ المستقبل». كل فكرة إيجابية، وكل مشاركة مجتمعية، وكل كلمة مسؤولة، هي لبنة في بناء الوطن.
شاركوا في الحياة العامة، تابعوا أعمالَ مجلسكم، عبّروا عن آرائكم بوعي واحترام، فبأيديكم تكتملُ الصورة، وتُبنى مملكة البحرين كما نحلم بها: وطن متماسك، متعاون، يعتز بكل قطعة من أبنائه.
{ باحثة برلمانية

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك