زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
بهدلني صاحبي
لي صديق طفولة من النوع الذي نسميه في السودان «جَخَّاخ»، ويسميه بعض أهل الخليج «شلاخ»، وهو الشخص الذي يتحدث عن نفسه كثيرا من باب التباهي بما ليس فيه أو عنده، ويفبرك الأكاذيب الجسام في كل مجلس يغشاه حتى يلفت الانتباه إلى نفسه. وصديقي هذا دائم الحديث عن منصبه وراتبه وبيته واستثماراته، وكثيرا ما حاولت إحراجه وإسكاته بتذكيره بأننا كنا نرعى الغنم سويا، ونمارس الأنشطة المعتادة لأبناء الريف الفقراء، وقبل أيام كنت أزور صديقا عاد ابنه من الخارج، ووجدت عنده نفرا من زملاء الدراسة، وكان من بينهم صديق ذو نزعات «شريرة»، بادرني بالثناء على ذوقي في اختيار الملابس، فاستشعرت الخطر لأن الكل يعرف أن زوجتي تختار لي ملابسي صونا لي من التريقة لأنني أعاني من عمى الألوان، لدرجة أن أفراد عائلتي يربطون فرشاة أسناني بخيط كي أميزها بعد أن ضبطوني أكثر من مرة وأنا استخدم فرشاة لا تخصني. ثم واصل حديثه عن كتاباتي الصحفية وظهوري «المشرِّف» في برامج تلفزيونية.. كل ذلك وأنا متوتر لأنني كنت أدرك أنه يمهد لتوجيه ضربة تحت الحزام إلى شخصي!!
وكما توقعت تماما فقد أدار دفة الحديث 180 درجة وتحول إلى الحديث عن أيام الدراسة والذكريات المشتركة، وأدركت عندها أنه انتقل إلى الخطة «ب»، فقد كان، وسألني: تذكر عندما زرتك وأنت تعمل في مستشفى الخرطوم بحري خلال عطلة الصيف وأنت طالب بالجامعة؟ سكت جميع من حولنا لأنهم يعرفون أن ذلك الشرير متخصص في تفجير الألغام وأدركوا أن السؤال غير بريء وأنه بصدد الكشف عن سر خطير!! وهكذا قلت في سري: بيدي لا بيد عمرو!! أي أنني قررت أن أحكي تجربتي في ذلك المستشفى بدلا من أن أترك الأمر لذلك الشرير كي يعيد ويزيد في الحكاية: كنت طالبا في السنة الثانية بالجامعة التي التحقت بها رغم احتجاجات والدي الذي رأى أنني أمضيت فترة طويلة في مقاعد الدراسة ولا يليق بي أن أظل «تلميذا» لسنوات أربع أخرى وربما أكثر. وخلال سنتي الأولى بالجامعة عملت مدرسا في مدرسة متوسطة، ووفرت مبلغا كان يكفيني طوال المرحلة الجامعية، ولكن فرحة الثراء جعلتني أُسلم معظم المبلغ لأمي وأخواتي هدية، وهكذا تحتم علي أن أعمل خلال العطلة الصيفية قبل الانتقال إلى السنة الثانية في الجامعة، ولأنني كنت «مسنودا» فقد عثرت على وظيفة محترمة في مستشفى الخرطوم بحري براتب قدره ستة جنيهات شهريا، (بالمناسبة بحري تعني شمال في العاميتين السودانية والمصرية)، وكانت وظيفتي «حساسة»، وتتمثل في تسلم «العينات» التي تصل إلى المختبر الطبي، وتسجيلها يدويا في دفتر ثم تسليم نتائج الفحوصات للمرضى: دوسنتاريا.. سكري.. تايفويد... سل رئوي...أملاح...!! يا حليل تلك الأيام حيث لم يكن هناك سارس إو إيدز أو كورونا وغيرها من الأمراض سريعة الانتشار، ولم يكن من ثم استخدام الكمامات شائعا حتى بين الأطباء. ورغم أن أصدقائي كانوا يحسدونني على راتبي الضخم، ويحاصرونني بالطلبات إلا أنني لاحظت أنهم يتفادون الأكل معي: يا جماعة أنتم مدعوون إلى مطعم الأندلس لنأكل لحما مشويا!! يتهربون من الدعوة بأعذار سخيفة ويقول أحدهم: لا داعي للتبذير. لماذا لا نذهب إلى السينما؟.. وكانوا يمارسون الابتزاز معي، فإذا رفضت إقراض أحدهم مالا، إما لأنني كنت أعرف أنه لن يرد المبلغ، أو لأنه يتفادى تناول الطعام معي، صاح بأعلى صوته: ما هذه الروائح؟ هل سقطت في حفرة المجاري يا أبو الجعافر؟ ولك أن تتخيل وقع مثل ذلك السؤال في جامعة كان رُبع الدارسين فيها من البنات!!
المهم رويت الحكاية وحسبت أنني أخرست صديقي الشرير ولكنه بادرني بالسؤال: ولماذا لا تخبرنا عن تجربتك كبائع في دكان أحذية باتا؟ لم أرد عليه وغادرت و«قفاي يقمِّر عيش» كما يقول المصريون عن «شدّة الكسوف» أي الخجل الشديد.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك