العدد : ١٧٣٧٦ - الأحد ١٩ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٧٦ - الأحد ١٩ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٧ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

بهدلني صاحبي

لي‭ ‬صديق‭ ‬طفولة‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬‮«‬جَخَّاخ‮»‬،‭ ‬ويسميه‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ ‬‮«‬شلاخ‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬التباهي‭ ‬بما‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬أو‭ ‬عنده،‭ ‬ويفبرك‭ ‬الأكاذيب‭ ‬الجسام‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجلس‭ ‬يغشاه‭ ‬حتى‭ ‬يلفت‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭. ‬وصديقي‭ ‬هذا‭ ‬دائم‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬منصبه‭ ‬وراتبه‭ ‬وبيته‭ ‬واستثماراته،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬حاولت‭ ‬إحراجه‭ ‬وإسكاته‭ ‬بتذكيره‭ ‬بأننا‭ ‬كنا‭ ‬نرعى‭ ‬الغنم‭ ‬سويا،‭ ‬ونمارس‭ ‬الأنشطة‭ ‬المعتادة‭ ‬لأبناء‭ ‬الريف‭ ‬الفقراء،‭ ‬وقبل‭ ‬أيام‭ ‬كنت‭ ‬أزور‭ ‬صديقا‭ ‬عاد‭ ‬ابنه‭ ‬من‭ ‬الخارج،‭ ‬ووجدت‭ ‬عنده‭ ‬نفرا‭ ‬من‭ ‬زملاء‭ ‬الدراسة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬صديق‭ ‬ذو‭ ‬نزعات‭ ‬‮«‬شريرة‮»‬،‭ ‬بادرني‭ ‬بالثناء‭ ‬على‭ ‬ذوقي‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬الملابس،‭ ‬فاستشعرت‭ ‬الخطر‭ ‬لأن‭ ‬الكل‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬زوجتي‭ ‬تختار‭ ‬لي‭ ‬ملابسي‭ ‬صونا‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬التريقة‭ ‬لأنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬عمى‭ ‬الألوان،‭ ‬لدرجة‭ ‬أن‭ ‬أفراد‭ ‬عائلتي‭ ‬يربطون‭ ‬فرشاة‭ ‬أسناني‭ ‬بخيط‭ ‬كي‭ ‬أميزها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ضبطوني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭  ‬مرة‭ ‬وأنا‭ ‬استخدم‭ ‬فرشاة‭ ‬لا‭ ‬تخصني‭. ‬ثم‭ ‬واصل‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬كتاباتي‭ ‬الصحفية‭ ‬وظهوري‭ ‬‮«‬المشرِّف‮»‬‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬تلفزيونية‭.. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وأنا‭ ‬متوتر‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أدرك‭ ‬أنه‭ ‬يمهد‭ ‬لتوجيه‭ ‬ضربة‭ ‬تحت‭ ‬الحزام‭ ‬إلى‭ ‬شخصي‭!!‬

وكما‭ ‬توقعت‭ ‬تماما‭ ‬فقد‭ ‬أدار‭ ‬دفة‭ ‬الحديث‭ ‬180‭ ‬درجة‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أيام‭ ‬الدراسة‭ ‬والذكريات‭ ‬المشتركة،‭ ‬وأدركت‭ ‬عندها‭ ‬أنه‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬الخطة‭ ‬‮«‬ب‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان،‭ ‬وسألني‭: ‬تذكر‭ ‬عندما‭ ‬زرتك‭ ‬وأنت‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬خلال‭ ‬عطلة‭ ‬الصيف‭ ‬وأنت‭ ‬طالب‭ ‬بالجامعة؟‭ ‬سكت‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬لأنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الشرير‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬تفجير‭ ‬الألغام‭ ‬وأدركوا‭ ‬أن‭ ‬السؤال‭ ‬غير‭ ‬بريء‭ ‬وأنه‭ ‬بصدد‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬خطير‭!! ‬وهكذا‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬سري‭: ‬بيدي‭ ‬لا‭ ‬بيد‭ ‬عمرو‭!! ‬أي‭ ‬أنني‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أحكي‭ ‬تجربتي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المستشفى‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أترك‭ ‬الأمر‭ ‬لذلك‭ ‬الشرير‭ ‬كي‭ ‬يعيد‭ ‬ويزيد‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭: ‬كنت‭ ‬طالبا‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الثانية‭ ‬بالجامعة‭ ‬التي‭ ‬التحقت‭ ‬بها‭ ‬رغم‭ ‬احتجاجات‭ ‬والدي‭ ‬الذي‭ ‬رأى‭ ‬أنني‭ ‬أمضيت‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬في‭ ‬مقاعد‭ ‬الدراسة‭ ‬ولا‭ ‬يليق‭ ‬بي‭ ‬أن‭ ‬أظل‭ ‬‮«‬تلميذا‮»‬‭ ‬لسنوات‭ ‬أربع‭ ‬أخرى‭ ‬وربما‭ ‬أكثر‭. ‬وخلال‭ ‬سنتي‭ ‬الأولى‭ ‬بالجامعة‭ ‬عملت‭ ‬مدرسا‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬متوسطة،‭ ‬ووفرت‭ ‬مبلغا‭ ‬كان‭ ‬يكفيني‭ ‬طوال‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية،‭ ‬ولكن‭ ‬فرحة‭ ‬الثراء‭ ‬جعلتني‭ ‬أُسلم‭ ‬معظم‭ ‬المبلغ‭ ‬لأمي‭ ‬وأخواتي‭ ‬هدية،‭ ‬وهكذا‭ ‬تحتم‭ ‬علي‭ ‬أن‭ ‬أعمل‭ ‬خلال‭ ‬العطلة‭ ‬الصيفية‭ ‬قبل‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬السنة‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬الجامعة،‭ ‬ولأنني‭ ‬كنت‭ ‬‮«‬مسنودا‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬محترمة‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬براتب‭ ‬قدره‭ ‬ستة‭ ‬جنيهات‭ ‬شهريا،‭ (‬بالمناسبة‭ ‬بحري‭ ‬تعني‭ ‬شمال‭ ‬في‭ ‬العاميتين‭ ‬السودانية‭ ‬والمصرية‭)‬،‭ ‬وكانت‭ ‬وظيفتي‭ ‬‮«‬حساسة‮»‬،‭ ‬وتتمثل‭ ‬في‭ ‬تسلم‭ ‬‮«‬العينات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬المختبر‭ ‬الطبي،‭ ‬وتسجيلها‭ ‬يدويا‭ ‬في‭ ‬دفتر‭ ‬ثم‭ ‬تسليم‭ ‬نتائج‭ ‬الفحوصات‭ ‬للمرضى‭: ‬دوسنتاريا‭.. ‬سكري‭.. ‬تايفويد‭... ‬سل‭ ‬رئوي‭...‬أملاح‭...!! ‬يا‭ ‬حليل‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬سارس‭ ‬إو‭ ‬إيدز‭ ‬أو‭ ‬كورونا‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬سريعة‭ ‬الانتشار،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬ثم‭ ‬استخدام‭ ‬الكمامات‭ ‬شائعا‭ ‬حتى‭ ‬بين‭ ‬الأطباء‭. ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬أصدقائي‭ ‬كانوا‭ ‬يحسدونني‭ ‬على‭ ‬راتبي‭ ‬الضخم،‭ ‬ويحاصرونني‭ ‬بالطلبات‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لاحظت‭ ‬أنهم‭ ‬يتفادون‭ ‬الأكل‭ ‬معي‭: ‬يا‭ ‬جماعة‭ ‬أنتم‭ ‬مدعوون‭ ‬إلى‭ ‬مطعم‭ ‬الأندلس‭ ‬لنأكل‭ ‬لحما‭ ‬مشويا‭!! ‬يتهربون‭ ‬من‭ ‬الدعوة‭ ‬بأعذار‭ ‬سخيفة‭ ‬ويقول‭ ‬أحدهم‭: ‬لا‭ ‬داعي‭ ‬للتبذير‭. ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬نذهب‭ ‬إلى‭ ‬السينما؟‭.. ‬وكانوا‭ ‬يمارسون‭ ‬الابتزاز‭ ‬معي،‭ ‬فإذا‭ ‬رفضت‭ ‬إقراض‭ ‬أحدهم‭ ‬مالا،‭ ‬إما‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يرد‭ ‬المبلغ،‭ ‬أو‭ ‬لأنه‭ ‬يتفادى‭ ‬تناول‭ ‬الطعام‭ ‬معي،‭ ‬صاح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭: ‬ما‭ ‬هذه‭ ‬الروائح؟‭ ‬هل‭ ‬سقطت‭ ‬في‭ ‬حفرة‭ ‬المجاري‭ ‬يا‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر؟‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬وقع‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كان‭ ‬رُبع‭ ‬الدارسين‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬البنات‭!!‬

المهم‭ ‬رويت‭ ‬الحكاية‭ ‬وحسبت‭ ‬أنني‭ ‬أخرست‭ ‬صديقي‭ ‬الشرير‭ ‬ولكنه‭ ‬بادرني‭ ‬بالسؤال‭: ‬ولماذا‭ ‬لا‭ ‬تخبرنا‭ ‬عن‭ ‬تجربتك‭ ‬كبائع‭ ‬في‭ ‬دكان‭ ‬أحذية‭ ‬باتا؟‭ ‬لم‭ ‬أرد‭ ‬عليه‭ ‬وغادرت‭ ‬و‮«‬قفاي‭ ‬يقمِّر‭ ‬عيش‮»‬‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬المصريون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬شدّة‭ ‬الكسوف‮»‬‭ ‬أي‭ ‬الخجل‭ ‬الشديد‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا