كنت أراقبُ والدي كلَّ صباح، وهو يتهيأ منذ الفجر ليوم عمله بذات الهدوءِ والدقةِ والانضباط الذي لم يتغير على مرِّ السنين. كان يحرصُ على التفاصيل الصغيرة وكأنها مرآة لقيمة كبيرة.. سألته يومًا بعفوية:
«ليش كل هذا الحرص؟ من بيشوف؟»
فابتسم وقال: «ما دام البحرين تشوف.. هذا يكفي»؟
لم أكن أدرك المعنى كاملاً آنذاك، لكنني شعرت أن ما يفعله لم يكن مجرد عادة يومية، بل هو انعكاس لهوية متجذّرة فيه. كان يؤمن أن كل تصرف صغير يحمل صورة الوطن، وأن الانضباط في العمل واحترام الوقت جزء من كونه بحرينياً.
الهوية لا تُقاس بما نقوله عن أنفسنا، وإنما بالأثر الذي نتركه في تعاملنا وطريقتنا في أداء واجباتنا وشعورنا بالمسؤولية تجاه الوطن في كل لحظة، سواء كنا تحت الأضواء أو بعيداً عنها.
وحين نستمع إلى كلمات سيدي جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، ونقرأ توجيهاته التي جاءت في افتتاح دور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي السادس، ندرك أن الهوية الوطنية أصبحت ضمن أولويات الدولة ومقياساً لمدى نضجنا الاجتماعي والسياسي.
أكد جلالته العناية بالهوية بكل ما تحمله من مبادئ وقيم وممارسات أصيلة، ودعا إلى تعزيز وحدتنا الجامعة وصون نسيجنا الوطني من كل ما يهدده من تعصّب أو تبعية فكرية أو ثقافية دخيلة. وحين تصدر مثل هذه الرسائل من جلالة الملك، فإنها تحمل دعوة لكل مواطن لإعادة تعريف موقعه داخل الوطن، لا بصفته متلقياً للخدمة، بل شريكاً في صياغة الملامح الوطنية لهذا البلد.
الهوية الوطنية مسؤولية تُصان وتتجدد وتُمارس. فكما تتطلب السيادة حراسة الحدود، تتطلب الهوية حراسة الضمير واستحضار المبادئ في تفاصيل الحياة اليومية. لا يكفي أن نُعرف أنفسنا بأننا بحرينيون من دون أن نعكس في سلوكنا تلك الأصالة والذائقة والحياء العام الذي ميز أبناء هذا الوطن.
ومن بيتنا الصغير تعلمت أول دروس الهوية والانتماء، حيث كان هواء المنزل يحمل عبق تراب البحرين بأكمله.. أدركت أن الهوية الوطنية تنمو أولاً في تربة البيت قبل أن تزهر في حقول الدولة.. فكل قيمة تعلمتها في منزلي أصبحت لبنة في بنيان وطنيتي.
لقد أدركت أن العائلة هي المدرسة الأولى التي تغرس فينا معاني المواطنة الحقة. هناك أم تحث أبناءها على رفع العلم صباحاً، وجدة تُسمع الأحفاد أناشيد وطنية قديمة. ومع مرور الزمن، تتوحّد تلك الخيوط في نسيج متين هو الهوية الوطنية التي تجمعنا، فتتحقق الموازنة بين خصوصية كل حكاية عائلية والصورة الكبرى للوطن.. فلا تنفصل التجربة الفردية عن المصير المشترك، بل تزوده بالحياة والروح.
فحين تُربي الأسر أبناءها على هذه القيم، تكون قد أسهمت في حماية البحرين من الداخل، وصانت وحدتها كما يصون السور حصنها من الخارج. وقد أدركت معنى الهوية الوطنية من قلب هذا الدور الأسري، حين تجسدت في بيتنا قيم الانتماء والمسؤولية، ورأيت في والدي نموذجاً حياً لما تعنيه الهوية في السلوك لا في القول إذ علّمني أن الوطن أمانة لا يُختصر في خريطة. وقد كان يؤدي عمله بإخلاص وتفان حتى آخر يوم في خدمته، مؤمناً أن العطاء والانضباط في العمل تجلٍّ من تجليات الهوية وصدق الانتماء.
الهوية الوطنية ليست ما نعلقه على صدورنا، بل ما نحمله في ضمائرنا.. هي سلوكنا حين لا يرانا أحد، وأمانتنا حين لا يُطالبنا بها قانون، واحترامنا للآخر حين يكون الاختلاف أسهل من الاحتمال. فهي عهد بين المواطن ووطنه، تُبنى بالأمانة وتُحفظ بالإخلاص، وتتكشف في أهدأ لحظاتنا حين نختار أن نكون بحرينيين كما أرادنا هذا الوطن.
{ مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك