العدد : ١٧٣٧١ - الثلاثاء ١٤ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٧١ - الثلاثاء ١٤ أكتوبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ ربيع الآخر ١٤٤٧هـ

مقالات

الهوية الوطنية .. من البيت إلى الدولة

بقلم: عبير محمد دهام {

الثلاثاء ١٤ أكتوبر ٢٠٢٥ - 02:00

كنت‭ ‬أراقبُ‭ ‬والدي‭ ‬كلَّ‭ ‬صباح،‭ ‬وهو‭ ‬يتهيأ‭ ‬منذ‭ ‬الفجر‭ ‬ليوم‭ ‬عمله‭ ‬بذات‭ ‬الهدوءِ‭ ‬والدقةِ‭ ‬والانضباط‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتغير‭ ‬على‭ ‬مرِّ‭ ‬السنين‭. ‬كان‭ ‬يحرصُ‭ ‬على‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة‭ ‬وكأنها‭ ‬مرآة‭ ‬لقيمة‭ ‬كبيرة‭.. ‬سألته‭ ‬يومًا‭ ‬بعفوية‭:‬

‮«‬ليش‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الحرص؟‭ ‬من‭ ‬بيشوف؟‮»‬

فابتسم‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬ما‭ ‬دام‭ ‬البحرين‭ ‬تشوف‭.. ‬هذا‭ ‬يكفي‮»‬؟

لم‭ ‬أكن‭ ‬أدرك‭ ‬المعنى‭ ‬كاملاً‭ ‬آنذاك،‭ ‬لكنني‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬عادة‭ ‬يومية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬انعكاس‭ ‬لهوية‭ ‬متجذّرة‭ ‬فيه‭. ‬كان‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تصرف‭ ‬صغير‭ ‬يحمل‭ ‬صورة‭ ‬الوطن،‭ ‬وأن‭ ‬الانضباط‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬واحترام‭ ‬الوقت‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬بحرينياً‭.‬

الهوية‭ ‬لا‭ ‬تُقاس‭ ‬بما‭ ‬نقوله‭ ‬عن‭ ‬أنفسنا،‭ ‬وإنما‭ ‬بالأثر‭ ‬الذي‭ ‬نتركه‭ ‬في‭ ‬تعاملنا‭ ‬وطريقتنا‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬واجباتنا‭ ‬وشعورنا‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬تجاه‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لحظة،‭ ‬سواء‭ ‬كنا‭ ‬تحت‭ ‬الأضواء‭ ‬أو‭ ‬بعيداً‭ ‬عنها‭.‬

وحين‭ ‬نستمع‭ ‬إلى‭ ‬كلمات‭ ‬سيدي‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬المعظم‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه،‭ ‬ونقرأ‭ ‬توجيهاته‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ ‬افتتاح‭ ‬دور‭ ‬الانعقاد‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬الفصل‭ ‬التشريعي‭ ‬السادس،‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬أصبحت‭ ‬ضمن‭ ‬أولويات‭ ‬الدولة‭ ‬ومقياساً‭ ‬لمدى‭ ‬نضجنا‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والسياسي‭.‬

أكد‭ ‬جلالته‭ ‬العناية‭ ‬بالهوية‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬وقيم‭ ‬وممارسات‭ ‬أصيلة،‭ ‬ودعا‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬وحدتنا‭ ‬الجامعة‭ ‬وصون‭ ‬نسيجنا‭ ‬الوطني‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يهدده‭ ‬من‭ ‬تعصّب‭ ‬أو‭ ‬تبعية‭ ‬فكرية‭ ‬أو‭ ‬ثقافية‭ ‬دخيلة‭. ‬وحين‭ ‬تصدر‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الرسائل‭ ‬من‭ ‬جلالة‭ ‬الملك،‭ ‬فإنها‭ ‬تحمل‭ ‬دعوة‭ ‬لكل‭ ‬مواطن‭ ‬لإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬موقعه‭ ‬داخل‭ ‬الوطن،‭ ‬لا‭ ‬بصفته‭ ‬متلقياً‭ ‬للخدمة،‭ ‬بل‭ ‬شريكاً‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬الملامح‭ ‬الوطنية‭ ‬لهذا‭ ‬البلد‭.‬

الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬مسؤولية‭ ‬تُصان‭ ‬وتتجدد‭ ‬وتُمارس‭. ‬فكما‭ ‬تتطلب‭ ‬السيادة‭ ‬حراسة‭ ‬الحدود،‭ ‬تتطلب‭ ‬الهوية‭ ‬حراسة‭ ‬الضمير‭ ‬واستحضار‭ ‬المبادئ‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭. ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬نُعرف‭ ‬أنفسنا‭ ‬بأننا‭ ‬بحرينيون‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعكس‭ ‬في‭ ‬سلوكنا‭ ‬تلك‭ ‬الأصالة‭ ‬والذائقة‭ ‬والحياء‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬ميز‭ ‬أبناء‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭.‬

ومن‭ ‬بيتنا‭ ‬الصغير‭ ‬تعلمت‭ ‬أول‭ ‬دروس‭ ‬الهوية‭ ‬والانتماء،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬هواء‭ ‬المنزل‭ ‬يحمل‭ ‬عبق‭ ‬تراب‭ ‬البحرين‭ ‬بأكمله‭.. ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬تنمو‭ ‬أولاً‭ ‬في‭ ‬تربة‭ ‬البيت‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تزهر‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬الدولة‭.. ‬فكل‭ ‬قيمة‭ ‬تعلمتها‭ ‬في‭ ‬منزلي‭ ‬أصبحت‭ ‬لبنة‭ ‬في‭ ‬بنيان‭ ‬وطنيتي‭.‬

لقد‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬العائلة‭ ‬هي‭ ‬المدرسة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تغرس‭ ‬فينا‭ ‬معاني‭ ‬المواطنة‭ ‬الحقة‭. ‬هناك‭ ‬أم‭ ‬تحث‭ ‬أبناءها‭ ‬على‭ ‬رفع‭ ‬العلم‭ ‬صباحاً،‭ ‬وجدة‭ ‬تُسمع‭ ‬الأحفاد‭ ‬أناشيد‭ ‬وطنية‭ ‬قديمة‭. ‬ومع‭ ‬مرور‭ ‬الزمن،‭ ‬تتوحّد‭ ‬تلك‭ ‬الخيوط‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬متين‭ ‬هو‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬التي‭ ‬تجمعنا،‭ ‬فتتحقق‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬خصوصية‭ ‬كل‭ ‬حكاية‭ ‬عائلية‭ ‬والصورة‭ ‬الكبرى‭ ‬للوطن‭.. ‬فلا‭ ‬تنفصل‭ ‬التجربة‭ ‬الفردية‭ ‬عن‭ ‬المصير‭ ‬المشترك،‭ ‬بل‭ ‬تزوده‭ ‬بالحياة‭ ‬والروح‭.‬

فحين‭ ‬تُربي‭ ‬الأسر‭ ‬أبناءها‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬القيم،‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬حماية‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬وصانت‭ ‬وحدتها‭ ‬كما‭ ‬يصون‭ ‬السور‭ ‬حصنها‭ ‬من‭ ‬الخارج‭. ‬وقد‭ ‬أدركت‭ ‬معنى‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬هذا‭ ‬الدور‭ ‬الأسري،‭ ‬حين‭ ‬تجسدت‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬قيم‭ ‬الانتماء‭ ‬والمسؤولية،‭ ‬ورأيت‭ ‬في‭ ‬والدي‭ ‬نموذجاً‭ ‬حياً‭ ‬لما‭ ‬تعنيه‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬القول‭ ‬إذ‭ ‬علّمني‭ ‬أن‭ ‬الوطن‭ ‬أمانة‭ ‬لا‭ ‬يُختصر‭ ‬في‭ ‬خريطة‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬يؤدي‭ ‬عمله‭ ‬بإخلاص‭ ‬وتفان‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬خدمته،‭ ‬مؤمناً‭ ‬أن‭ ‬العطاء‭ ‬والانضباط‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬تجلٍّ‭ ‬من‭ ‬تجليات‭ ‬الهوية‭ ‬وصدق‭ ‬الانتماء‭.‬

الهوية‭ ‬الوطنية‭ ‬ليست‭ ‬ما‭ ‬نعلقه‭ ‬على‭ ‬صدورنا،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬نحمله‭ ‬في‭ ‬ضمائرنا‭.. ‬هي‭ ‬سلوكنا‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يرانا‭ ‬أحد،‭ ‬وأمانتنا‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬يُطالبنا‭ ‬بها‭ ‬قانون،‭ ‬واحترامنا‭ ‬للآخر‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬الاختلاف‭ ‬أسهل‭ ‬من‭ ‬الاحتمال‭. ‬فهي‭ ‬عهد‭ ‬بين‭ ‬المواطن‭ ‬ووطنه،‭ ‬تُبنى‭ ‬بالأمانة‭ ‬وتُحفظ‭ ‬بالإخلاص،‭ ‬وتتكشف‭ ‬في‭ ‬أهدأ‭ ‬لحظاتنا‭ ‬حين‭ ‬نختار‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬بحرينيين‭ ‬كما‭ ‬أرادنا‭ ‬هذا‭ ‬الوطن‭.‬

 

{‭ ‬مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا